Search
Close this search box.
المقال رقم 31 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

توقفت كثيرًا أمام حالة الاستقطاب الحادة لدينا في تناولنا للرهبنة خاصة بعد مصرع أسقف دير أنبا مقار، حتى من غير المهتمين بهذه المنظومة، وكثيرهم لا تتجاوز علاقتهم بالكنيسة هامش العادية والمناسباتية، فإذا استثنينا الفرقاء المحتربين من المشهد الصاخب نجدنا أمام فريق ثالث ذهب إلى إسقاط كل إخفاقاته وأحلامه المثالية الحياتية والروحية غير المحققة على الرهبنة والأديرة، يطالبها بأن تكون هي البديل الذي يترجمها ويحققها، فتراه حادًا في تقييم واقعها ومغرقًا في استحضار النموذج التاريخي الآبائي، ومقارنته بما هو حادث ـ أو بالقدر الذي يعرفه عنه ـ فيجد لنفسه تبريرًا وأنه أفضل كثيرًا من كل هؤلاء.

فيما يذهب البعض إلى التعامل معها باعتبارها مجتمع بشرى شأن كل التجمعات البشرية النوعية ويبرر ما اعتراها من ترهل ومفارقة لضوابطها الأساسية بأنه متسق مع التغيرات الاجتماعية ومعطيات الحياة المعاصرة، وفقًا لنظرية الأواني المستطرقة.

بينما يطالب آخرون بمراجعة التزامات وأسس تلك المنظومة بالقدر الذي يحولها إلى خدمة المجتمع خارج أسوارها، فما الفائدة التي تعود علينا -كنيسة ومجتمع- من وجود نفر من الناس انقطعوا عن العالم ولديهم إمكانات وقدرات تبقى حكرًا عليهم بينما البقية يهلكون جوعًا روحيًا وماديًا؟

ولا يتنازل فريق أخر عن المطالبة أن يعيد إنتاج رهبنة القرن الرابع كما هي، دون أن يعترف بما اعترى الحياة من متغيرات سواء في الشكل أو المضمون، وبغير أن ينتبه إلى أن “قلاية” ذاك الزمان لم تكن بعيدة كثيرًا عن مسكن المصري البسيط آنذاك، في هندستها ومبناها، بغير زخرف المدينة، وفى هذا نذكر ما قاله حين انتهى من تجديد دير أنبا مقار ردًا على منتقديه لتوفيره “قلاية معاصرة” لرهبان الدير، تتوافر فيها مستلزمات المعيشة الأساسية، ومرافقها الحيوية، المياه النظيفة والكهرباء، وسرير ومكتب وبضع ارفف لكتبه وأوراقه، ومكان للجلوس،

فكان رده أنه لا يعاقب الراهب على رهبنته ولا يسلمه لصراع يشتهي فيه هذه الاحتياجات بلا مبرر، وأن تصميم القلاية يضم إلى جانب هذه الغرفة مكان لا يزيد عن كونه جدران وأرضية تسمى في العرف الديري “محبسة” يمارس فيها الراهب عباداته وقوانينه ونسكه، وكانت تعليماته لكل الرهبان واضحة ألا يضيف إلى غرفتي قلايته شيء أو يدق في حوائطها مسمارًا فهو مجرد نزيل يقضى فيها أيامه، ثم تؤول إلى قادم جديد، إمعانًا في تأكيد قيمة “عدم القنية” و”التجرد”. واللافت أن نموذج هذه القلاية انتقل إلى بقية الأديرة بدرجات متفاوتة.

والرهبنة بالضرورة مسار ينتهي إلى التعرف على شخص المسيح والحياة فيه، لكونه “الطريق والحق والحياة”، والتيقن أنه “ليس بأحد غيره الخلاص”، ولكونها “مسار” اختياري فيتوازى معها مسارات أخرى تتحقق وتوجد وسط الناس، دون أن نجد انفسنا أمام مفاضلة بينهم، أو أن يفتخر مسار على آخر، “وأما من افتخر فليفتخر بالرب، لأنة ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب(2 كو 10 : 17)

وقد واجهت رهبانيات عديدة في كنائس تقليدية أخرى ما استجد في الحياة خارج وداخل الكنيسة، وتطور أنماط الخدمة الكنسية وتشابكها، واستطاعت أن تعظم الاستفادة من طاقات الرهبنة السوية، والتي فيها استطاع الراهب ـ والراهبة ـ أن ينتصر على الذات والطموحات والشهوات ومغازلات الامتلاك وتداعياته، وثلاثية “شهوة العين، شهوة الجسد، تعظم المعيشة”، بحسب كلمات القديس يوحنا، التلميذ الذي كان يسوع يحبه:

لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن احب احد العالم فليست فيه محبة الآب، لان كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد

( 1يوحنا 2 : 15- 17)

خبرات وجهادات مواجهة هذه التحديات منحت هؤلاء طاقات وقدرات روحية هائلة، رأت تلك الرهبانيات أن توظفها في خدمة النفوس في العالم، حتى تحافظ على النسق التقليدي للرهبنة، اتجهت إلى تأسيس نسق موازي يلتزم بمحاور الرهبنة في ثلاثة منها، دون العزلة أو التوحد، فكانت حركة التكريس في العالم، أو كما يسميها البعض “الرهبنة الخادمة”، ووضعت لها ما يناسبها من قواعد وضوابط، لتنطلق إلى العالم تخدم وتقدم المسيح للكل، على غرار السامري الصالح الذي أشار إليه المسيح في أمثاله التي كان يضربها للناس، ونجحوا في أن يقدموه هو للفقير والمريض والحزين، وكل من هم في ضيقة، تحت أصعب الظروف في مجاهل القارات وفى وسط أهوال الحروب والكوارث الطبيعية.

ونحن هنا في مصر لنا تجارب في طرق أبواب التكريس، بدأت علي استحياء بشكل فردي. ولعل ابرز هذه الخبرات الأرشيدياكون وكان مناضلًا فذًا ومثابرًا وهو بحق باعث اليقظة القبطية المعاصرة، وقد أقرته الكنيسة واحدًا من قديسيها.

وكذلك الأرشيدياكون رمسيس نجيب الذي انتبه إلى خدمة الشباب الجامعي، فأسس بيت الشمامسة بالجيزة، وعنه يقول:

وضع حجر أساس هذا البيت في عام 1955 وسكنت أول مجموعة به عام 1960، وفى عام 1965 أنشئ الدور الثاني، وفى أوائل السبعينيات تم البناء. وكان في البداية اسمه “بيت الشباب الجامعي”، وفكرة إنشاء البيت جاءت من خدمة المغتربين للدراسة بجامعة القاهرة، فكان هناك خمس شقق لكل شقة في أحد الأحياء بها مجموعة من المغتربين، وهذا البيت جاء من قلب الخادم القدير الأب القمص ، صاحب كتاب “نظم الخدمة”، أو الكتاب الأحمر نسبة إلى غلافه، وكان هذا الكتاب بمثابة دستور للخدمة والعمل الروحي، وفى عام 1975 كان له بيت آخر للشمامسة بمدينة 6 أكتوبر للمغتربين هناك، حيث كان وقتها بسبب -خلو المدينة من السكان- منتشر الفساد والدعارة والإدمان، لذلك كان لابد من وجود حصن للمغتربين من الطلبة وبالفعل تم بناؤه في 9 أشهر

(لأرشيدياكون رمسيس نجيب، من حواره على جريدة وطني المصرية، نشر على موقعها قي 2 مارس 2014)

وافتتح نسق الكتابة للشباب بأسلوب يناسب طبيعتهم، فاصدر العديد من الكتب التي اقتحمت وقتها تابوهات الحب والجنس ليطرح من خلالها الرؤية المسيحية فيهما، وكيف يتعامل الشباب مع قضاياهما، وفى هذا يقول:

اتخذت أسلوبًا بسيطًا في الإصدارات التي ينشرا “بيت الشمامسة” وهى أن تضع للقارئ المعلومة من خلال قصة تدخل “قلبه” وبهذا المنهج تجد سلسلة “فضائل في حياة القديسين” التي منها كتب “المحبة والعفة”، وهناك أسلوب التساؤلات الشبابية فالقارئ اليوم يحتاج إلى “سندوتش”، ومن خلال خدمة الشباب طوال هذه السنوات، تكررت عندي الأسئلة التي يطرحونها، فالموضوعات تدرس عشرات المرات، مما يعطى خبرة كبيرة في مجال الأمور الاجتماعية … ويظهر ذلك في كتب “طهارتي – الاختلاط” … وإلى جانب ذلك، هناك كتب عامة مثل: “معاملات المسيح مع الخطاة”… والمهم في الكاتب أن يحترم بالأساس ثقافة الاختلاف.. وأذكر عبارة جميلة تقول: “كان عندي 5 أولاد ربيتهم بالأحرى تربيت على أيديهم”، وهذا هو الأب والخادم والقسيس الناجح فالذي يعلمه هو نفسه يتعلمه

(لأرشيدياكون رمسيس نجيب، من حواره على جريدة وطني المصرية، نشر على موقعها قي 2 مارس 2014)

وتخرج في هذا البيت أجيال من الشباب انخرطوا في الحياة العامة في ربوع مصر وخارجها فكانوا سفراء للمسيح والكنيسة والوطن يقدمون صورة حية فاعلة ومؤثرة في تلاحم وسلام المجتمع.

وثالث نموذج هو الدكتور مؤسس ، وأحد أهم مؤسسي والذي حمل شعلته وأصر على استمرار رسالته التنويرية وأعاد التواصل بشكل أكاديمي مع تراث الآباء وقاد تيار الترجمة والدراسات العلمية لكتاباتهم، وقد تناولنا دوره في فصل سابق من هذا الكتاب. [راجع مقال: البناء الصامت]

وشهدت الكنيسة محاولات لبعث حركة تكريس الفتيات، لكنها ظلت مرتهنة برؤية الأسقف المتبني لها، وتنتهى التجربة أو تذبل برحيل الأسقف، وإن كانت هناك إرهاصات لتنظيم هذا التكريس لكنها مازالت مجرد محاولات تعانى من ارتباكات كثيرة. فهل تنتبه الكنيسة لهذا، وتخطو خطوات جادة في دراسة وأظلاف “التكريس والرهبنة الخادمة”؟

نعود لطرحنا لنجد الرهبنة، في صورتيها؛ الحبيسة والخادمة، قائمة على القواعد النسكية التي استقرت من خبرات الآباء المؤسسين ومن تتابعوا عليها من معلمين ورموز عبر القرون المتعاقبة، وهى قواعد لم تقع في أسر التنظير بل قدمت خبرات عملية على الأرض.

وأتوقف مع اثنين منهم، أحدهما من مؤسسي الرهبنة في مصر من تلاميذ القديس ، هو القديس مقاريوس، (القرن الرابع)، بينما الثاني هو القديس السينائي (من منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن السابع)، من أعلام الروم، وتولى في شيخوخته رئاسة دير سانت كاترين بسيناء، ترك لنا ق. مقار رسالة كان قد أرسلها لأولاده الرهبان (سنخصص لها المقال القادم)، بينما ترك لنا ق. يوحنا كتاب “سلم السماء”، وكلاهما يرسم خارطة طريق للرهبنة بعمق. ويرى البعض أن خبرات سيناء المتشبعة بالزخم المصري انطلقت إلى اليونان، هاربة بها إلى ، على غرار هروب العائلة المقدسة إلى مصر من بطش هيرودس الذي كان يطلب نفس الصبي، لتحميها من بطش القادمون من الشرق، فتتكامل رهبنة الإسقيط والبحر الأحمر مع رهبنة اليونان، وتزدهر منها إلى الغرب. ويبدو أن ترتيبًا إلهيًا كان يرسم خطوط حفظ التراث الآبائي في حاضنة يونانية بعيدًا عن تأثيرات الانقطاعات المعرفية التي ترتبت على الانتقال القسري عندنا إلى العربية فيما بعد بشكل تعسفي.

يقدم كتاب “سلم السماء” خطة حياة لمن قصد طريق النسك، بتدرج محسوب يرتقى بالمرء لينقله من الأرض إلى السماء،

وهو خير دليل للسير في طريق أفضل لمن يرومون كتابة أسماءهم في سفر الحياة … إنه يمثل لنا سلمًا قائمًا على الأرض ويبلغ السموات ويقف على قمته الله”، “ويبدو أن هذا السلم قد عاينه أيضًا يعقوب ناخس الشهوات فيما كان مستريحًا على سرير النسك، وعلينا أن نتسلق بإيمان وشوق هذا المصعد العقلي الذي يبدأ بالزهد في الأرضيات وينتهى بإله المحبة

(القديس يوحنا السَّلمي؛ كتاب “سلم السماء”، دير سانت كاترين طبعة أولى 1985 ص 47)

ويقسم الكاتب السلم إلى ثلاثين درجة، سني يسوع الثلاثين قبل ظهوره للعالم، مقسمة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: يضم ثلاث دراجات تتناول كيفية الزهد في العالم وعدم التعليق بمقتنياته ثم “التغرب عن العالم من أجل الرب، بحيث لا تبقى له ارتباطات كي لا يبدو تائهًا حبًا في إشباع أوائه” (المرجع السابق ص 71)ـ

القسم الأوسط: ويضم ثلاثة وعشرين درجة تدور حول اقتناء الفضائل؛ وتبدأ بالفضائل الداعمة: الطاعة والتوبة وذكر الموت، عبر الجهاد والعمل الدؤوب لمجاهدة الذات، ومجاهدة الأهواء (من الغيظ إلى الضجر)، ومجاهدة الرغبات (من الشره إلى الزنى وحب المقتنيات)، ومجاهدة الجسد، ومجاهدة البلادة والكبرياء، ثم ينتهى إلى بيان ثمرة الجهاد باقتناء الوداعة والتواضع والتمييز. ليدرك الساعي أن ما كان في البداية جهادًا متعبًا يصبح في النهاية نعمة تؤول إلى حضور الروح.

القسم الأخير: ويضم ثلاث درجات تتناول السكون أو الهدوء (الداخلي والخارجي) ـ الصلاة ـ اللاهوتي ـ المحبة، والتي تصل به إلى الاتحاد بالله.

ولا يتوقف الكاتب عن التنبيه المتكرر على أن الكمال المسيحي يقاس بحسب نقاوة حبنا لله وتشبهنا بمحبته، وأن الرهبنة هى مسيرة شوق، والرهبان هم بمثابة الملح للأرض (السماد) الذي يخصب الكنيسة وهذا يفرض عليهم أن لا يتركوا الملح يفسد، وأن لا يتوقفوا عن السعي إلى الاستنارة (فضيلة التمييز) والتعرف أو اكتشاف مشيئة الله في حياتهم، وأن يؤمنوا أن الصليب هو الطريق الوحيد بين الأرض والسماء.

وينبه أن هناك مخاطر تهدد مسيرة الراهب وتعد من أخطر المزالق التي يهوى فيها النساك؛ التزييف العقلي، التزييف النفسى، الطموح الروحي، لذلك على الراهب أن يخضع لمشورة الشيوخ وتدبير الأب الروحي المختبر، ويعتبر أن الرهبنة مطر في زمان الجفاف.

وقد تحول هذا الكتاب إلى جدارية كبيرة من الفسيفساء تتصدر بهو دير القديس في جبل آثوس باليونان، تصور الرهبان وهم يصعدون درجات السلم، منهم من خار في الطريق فجلس ليستريح ومنهم من سقط منه في درجات متفاوتة ومنهم من يجاهد ليواصل الصعود، وعلى الدرجة الرابعة والعشرين يُلاحظ راهب يجره شيطان ويرميه في اللجة، وراهب آخر أيضًا على ذات الدرجة ممسكًا بطرف السلم بشكل محكم لشدة خوفه، بينما شيطان قد صعد على ظهره يبذل كل ما في وسعه ليطرحه على التنين الشاغر فاه الذي يرمز إلى الجحيم.

بينما على قمة السلم يوجد راهب شيخ يمد يده ليأخذ إكليل النصر من المسيح الواقف هناك، وتتوسم شارات الفرح والسرور على وجهه ووجه الملاك الباسط يديه نحو المسيح وهو مفتوح الجناحين دلالة الغلبة والانتصار. (المرجع السابق ص 12)ـ

ويصبح علينا والأمر هكذا أن نتعامل مع منظومة الرهبنة بما تستحقه من توقير واحترام وندعم كل جهد رسمي كنسي مؤسسي لردها إلى مسارها، وألا نقحمها كطرف في أزماتنا واختلافاتنا، وندعها تدير أمورها وفق ما استقر فيها من قواعد آبائية لتبقى المخزون الحيوي للكنيسة لاهوتًا وتعليمًا ودعمًا، فتقويض الكنيسة وإضعافها يبدأ بخلخلة منظومة الرهبنة وهدمها.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات[الجزء التالي] 🠼 ٣٢) أما بعد
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨