المقال رقم 18 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

لا نملك ترف قراءة التاريخ لذاته، ولا نملك أدوات محاكمته مجردًا، التي يختص بها طيف من الأبحاث التي تسعى لفهمه من خلال تجميع الملابسات المعاصرة لأحداثه وفهم تأثيرها وتداخلاتها، وهى وإن كانت أبحاث شيقة، إلا أنها تقع خارج اهتمام سعينا، وإن تلامسنا معها بحكم الضرورة، سعينا أن نستوعب دروس الماضي القريب والبعيد لحساب الحاضر والمستقبل؛ حاضرًا بمحاولة الإجابة على سؤالنا: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ ومستقبلًا بترتيب أولوياتنا لتعود الكنيسة إلى مسارات التنوير وإعلان المسيح تأسيسًا على وصيته لتلاميذه “اذهبوا.. اكرزوا.. افشوا الفرح والرجاء”.

شهدت الأديرة والرهبنة طفرة نوعية وكميِّة في حبرية قداسة البابا (1971 ـ 2012)، ربما انبهارًا بتجربة رعيل الشباب المغامر الذي بادر باقتحام دوائر الرهبنة رغم تحقق بعضهم في دوائرهم الحياتية في العالم، وهم من الحاصلين على شهادات جامعية، كانت محل تقدير في جيلهم، ونقلوا تجربتهم عبر كتاباتهم التي اختفت فيها ذواتهم، ليكشفوا لجمهور القراء وغالبيتهم من الشباب الواعد، طيف من زخم التراث القبطي الأرثوذكسي المبهر، وكان الكتاب يتربع على عرش الثقافة وسعى الاستنارة، بغير منافس، وقد تلامس طرحهم مع اشتياقات مستيكية تسكن جوانح شباب الأقباط بفعل منظومة الة الأرثوذكسية، فتطابقت مع أطروحاتهم التي تكشف أسرارها وجذورها التي غمضت عليهم.

طيف أخر من الشباب وجد في الرهبنة خلاصًا من ضغوط اللحظة وربما هروبًا منها، تحت تأثير صور متوهمة عن مثالية الحياة خلف أسوار الأديرة التي تشكلها القصص الميتافيزيقية الأسطورية التي تروَج عنها وتدغدغ مشاعر وأحاسيس كثيرين، وطيف ثالث كانت له مآرب أخرى.

كان الشباب في كل العالم يصنع حراك تغيير في الستينيات من القرن العشرين، فيما عرف بثورة الشباب، كما في الغرب كذلك في الشرق، وكنا في مصر تحديدًا نجتر مرارات هزيمة يونيو 1967، فراح طيف من الشباب يطرق أبواب الرهبنة بحثًا عن ملاذ آمن، وبعضه يجد فيه حلًا لأزمته الاقتصادية، أو يدفن في فيافيها صدماته العاطفية، وبعضه يرتب خلفها أحلامه وطموحاته.

وتشهد السبعينينات من ذات القرن تحولًا نوعيًا داخل وخارج الأديرة، ففي الداخل تتنوع التخصصات والخبرات العلمية والعملية، ويترتب على ذلك انتقال “عمل اليدين” من شكله المتوارث إلى استصلاح الأراضي، بتقنيات وأدوات وميكنة حديثة، توفرت لها بفضل المساهمات والدعم المالي لأحباء الأديرة من العلمانيين البسطاء ورجال الأعمال، وكان الرائد في هذا دير أنبا مقار الذي شهد هجومًا من مناوئيه التقليديين، الذين ما لبثوا أن نقلوا عنه هذا التوجه وساروا فيه. ثم تظهر الحاجة مع تضخم الإنتاج الزراعي إلى التصنيع الزراعي والتسويق التجاري، ليصبح إنتاج الأديرة رقمًا ايجابيًا في الاقتصاد القومي وقيمة مضافة للناتج القومي.

وفى الخارج تستعين الكنيسة بالرهبان في العديد من خدماتها سواء على مستوى القسوس والقمامصة في بعض كنائس القاهرة والإسكندرية (إيبارشية البابا)، وربما في إيبارشيات أخرى، أو في كنائس المهجر، أو في التمدد في رسامة أساقفة جدد (أساقفة إيبارشيات أو أساقفة عموم)، وتشهد الأديرة ايضًا نسق جديد يقضى بمنح رتبة الكهنوت لكل رهبان الدير وفق جدول زمني بحسب أفدمية الرهبنة ليصير تقليدًا ينتقل من دير إلى آخر، لتصير (أكركة الرهبنة) قاعدة مستقرة، ويصبح تخطى أحد الرهبان في الرسامة مع دفعته بمثابة عقاب يسلمه إلى دوامة من المتاعب النفسية بينه وبين نفسه ومحل تساؤلات بين أقرانه، وما بين طوفان رسامات الرهبان قسوسًا وقمامصة داخل الدير، وبين نزيف رسامتهم أساقفة يحدث فراغ في حياة التلمذة داخل الأديرة، التي تتضافر معها الرحلات الجماعية اليومية، فتفقد الأديرة محاور تأسست عليها، فلا هدوء ولا عزلة ولا تلمذة ولا تمايز، فإذا بهم صور نمطية متكررة وباهتة، وتزداد معاناة الرهبان ويقعون في حروب عاتية، ويختفى التكوين الفكري الآبائي والتراكم الرهباني التقليدي، وينعكس هذا على الخدمة بالكنيسة، وربما تفسر جانبًا من المصادمات بين فرقاء اليوم، فكل كون رؤيته بجهود ذاتية بعيدًا عن قواعد التسليم الآبائي.

ووفقًا لنظرية الأواني المستطرقة، لم تستطع الكنيسة، شأنها شأن كثير من مؤسسات المجتمع والدولة، أن تُغَلّب أهل الخبرة على أهل الثقة، فقفز على مواقعها الكثير من الكوادر التي لا تملك موهبة الإدارة ولم تلتفت في مواقعها إلا للسلطة دون الأبوة، بل وراح بعضهم يعلنون بلا وجل أنهم صاروا رمزًا للبطش والقهر، وقد يلفت النظر أن صورة الأسقف الرسمية التي تتصدر قاعات الاستقبال في إيبارشيته قد نالها تغيير صار تقليدًا، فبعد أن كان يمسك بيمينه الصليب بينما يحمل الكتاب بيسراه، صار يمسك الصليب بيمناه بينما تمسك يده اليسرى بالعصا، تغيب الإشارة إلى التعليم وتحضر العصا.

ومع غياب المعايير العامة والمجردة والموضوعية نجد من يصلح لتدبير جماعة رهبانية يقام على إيبارشية فيصر على إدارتها بقوانين وضوابط الجماعة الرهبانية فيتململ الكهنة ولا تتحمل الرعية الضوابط الرهبانية المفروضة عليهم، وينتهى به الأمر معزولًا خلف جدران قلايته، وعندما ينجح خادم في التواصل مع الشباب معلمًا، يُدفع للرهبنة شهورًا ليخرج إلى كرسي الأسقفية على إيبارشية ليجد نفسه تائهًا وسط مسئوليات تستغرقه وهموم رعوية تبتلعه وقد ينتهى به الأمر إلى مغادرة الحياة مبكرًا.

أو قد تتدخل عوامل أخرى في اختيار أحدهم على سبيل المجاملة فيُلحق بالدير استيفاءًا للشكل ويخرج منه بعد برهة من الزمن ليرسم ـسقفاً لم تكتمل خبراته الرهبانية، ولم يكتسب من صفاتها شيء، فإذا به وهو مدعوم من الأب البطريرك يكشف عن متاعبه النفسية ويتعامل مع رعيته بصلف وغرور تدفع فاتورته إيبارشيته وربما الكنيسة بجملتها.

“الأسقف العام”

ونتوقف أمام ظاهرة “الأسقف العام” وهى تجربة ثرية ومفخخة في آن واحد، وتستوجب إعادة تقييم ومراجعة وضبط، ولا يتعلق الأمر بشخوص من يشغلون هذا الموقع، فهم في مجملهم من المشهود لهم بمحبة الكنيسة والبذل والعطاء، لكن تعيين أسقف عام لتدبير مجموعة صغيرة من الكنائس أدى إلى تعطيل وتجميد دور الإيغومانس (القمص) وهو مدبر الكنيسة المحلية، والمسئول عن ترتيب وتوجيه وإرشاد القسوس، وعندما يقع خلاف ما يصبح له الكلمة الأخيرة، الأمر الذي انتقل بجملته إلى الأسقف العام، ليختل الهرم الهيراركي، ويصبح موقع “القمص” شرفيًا منزوع الاختصاصات، ويسقط في يد الأسقف وقد وجد نفسه مسئولا بشكل مباشر عن أكثر من كنيسة وتستغرقه تفصيلات تتجاوز خبراته الحياتية ولا تسعفه طبيعة موقعه في طرح حلول ناجزة كما هو متاح للأب القمص الذي يعيش وسطهم ومختبر لمعاناتهم في حياتهم اليومية. وتسهم الصورة الذهنية لدى الشعب عن الفرق بين الأسقف والايغومانوس في تجاوز أبيهم القمص واللجوء مباشرة إلى الأب الأسقف. فتختل منظومة التدبير بجملتها.

ويبقى الأسقف العام المعاون لأسقف أو مطران إيبارشية معرضًا للنقل أو إعادته للدير، لأسباب متعددة، لأنه يتولى عملًا معاونًا لأسقف المدينة بغير أن يكون له سند قانوني يستمده من رسامته على المكان ويضمن له الاستقرار والاستمرار، ولا يشفع له نجاحاته في مهمته ولا طول إقامته في موقعه، أو ربما لاحتمالات الوقيعة بينه وبين أسقف المدينة على خلفية القبول الشعبي الذي يمكن أن يحققه الأسقف العام وما يولده من مقارنات قد يراها أسقف الإيبارشية انتقاصًا من هيبته، وهو وضع يحتاج إلى دراسة قانونية كنسية.

قد تكون هذه النماذج استثناءات ترد على القاعدة لكنها وغيرها تنبهنا لحاجتنا إلى وضع قواعد مجردة وعامة وملزمة ومكتوبة تلتزم بها الكنيسة في اختيار المرشحين لرتبة الأسقفية، وربما أيضا نكون بحاجة إلى إعادة نموذج “مدرسة الرهبان” لتأهيل من ينطبق عليهم الشروط، قبل رسامتهم، تأهيلًا علميًا واجتماعيًا وسياسيًا. واجتيازهم اختبارات نفسية وعصبية تناسب جسامة المنصب ومسئولياته.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام[الجزء التالي] 🠼 ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨