المقال رقم 21 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

لا تملك الكنيسة إلا أن تكون نورًا للعالم، هكذا وصفها المسيح، بل هي الكيان المنظور للمسيح متجسدًا في الزمن، بامتداد التاريخ واتساع الجغرافيا، نورًا لعالم يلفه الظلام، وقد حُمِّلت برسالة التنوير مدعومة بقوة الروح القدس، يوم الخمسين، وكلما أدركت سر التجسد وعاشته كلما ازدادت استنارتها وعكسته بقوة على العالم الذي يستصرخها أن تعبر إليه وتلقى له بأطواق النجاة التي بحوزتها.

و استطاعت أن تحفظ وديعة الإيمان رغم كل ما جازت فيه من آلام واستهدافات مريرة، من خارج ومن داخل، كانت تها الوعاء الذي تنقلت به عبر تاريخها، تنقل محتواها من اليونانية إلى القبطية ثم إلى العربية، وتحمل صفحات طقوسها مقاربة بين تلك الحقب، ويظل الآباء المؤسسون مرجعيات تضبط مسارات إيمان .

لكن هذا لم يمنع أن تجوز أيضًا سنوات وربما عقود وقرون عجاف، بفعل انقطاعات معرفية فرضتها دوامات المحتلين بتعدد جنسياتهم، وعندما ولدت الدولة الحديثة، بمعايير أزمنة الولادة، (1805)، كان الشباب القبطي يجتهدون في سعى دؤوب أن تعيد الكنيسة تواصلها مع ما انقطع، وبطبيعة الحال كانوا محكومين بمعطيات لحظتهم، وهو ما تعرضنا له قبلًا، حتى بدأ تيار التكريس القبطي الأرثوذكسي، مع النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت الليتورجية هي المخزون الإستراتيجي الذي أخرج رواد التكريس منه كنوز الوعى اللاهوتي الآبائي، فلم تكن استعادة نظرية جافة، بل هي حراك للاهوت معاش، كانت تختزنه الذهنية القبطية في اللاوعي وتردده أحيانًا بآلية وها هي تجتر معانيه وأسراره.

وفى هذا السياق تبرز أسماء رائدين من رواد الإحياء الآبائي نذرا حياتهما، بعيدًا عن الصخب وحسابات المكسب والخسارة، لتأسيس وشق طرق هذا الإحياء، الأب والدكتور ، وقد اقتربنا من تجربتيهما المتفردتين في صفحات سابقة هنا، وقد أثريا بشكل مباشر، ثم من خلال تلاميذهم، المكتبة المسيحية العربية بسلاسل من الدراسات والتراجم الآبائية المؤسسة والداعمة لسعى استرداد كنيسة اليوم حيوية الكنيسة الأولى، وضبط بوصلة الإيمان والوعى باللاهوت الشرقي.

وفى استبصار يشبه الرؤية تأتي كلمات المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث، التي خطها مرتين، حين كان علمانيًا () في مقدمته الفريدة لكتاب “” (1952)، وحين صار أسقفًا للتعليم في معرض دفاعه عن الكلية الإكليريكية، ورصدتها في إصدارها الأول (أكتوبر 1967)، والتي تقول “أنه كأي عمل من أعمال الله، كان لابد أن يحاربه ، وكأي عمل من أعمال الله، كان لابد أن ينتصر في تلك المحاربات

فما بين التعليم بثقافة الموت وما يستتبعه من انكسار واستغراق في الحزن والضعف ومتوالية القيام والسقوط اللانهائية، وبين التعليم بلاهوت الحياة وما يبنيه من دعامات النصرة والفرح عَبرَ الوعى بلاهوت التجسد، الذي تضخه كتابات الآباء وتحييه حركة التكريس المعاصرة، نستطيع أن نتبين خلفيات صراعات فرقاء اليوم. والتي تأتى محملة بموروث مجتمعي ثقيل يتبنى “واحديه” التفكير ويذهب بالتنوع والتعدد إلى مربع التحريم والتجريم، لذلك تجده ينتصر للمنولوج لا الديالوج.

ويأتي اجتماع مجمع أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأخير (مايو 2018) محملًا بإشارات إيجابية تؤكد أن الكنيسة تسير باتجاه إعادة بناء التواصل المنشود، بهدوء لكن بقوة، ببطء لكن للأمام، فقد استعادت مبدأ تداول المسئولية بخطوة رائدة من ال الأسقف العام بالامتناع عن ترشيح نفسه كسكرتير عام للمجمع لدورة ثانية، وانتخاب لهذا الموقع بأغلبية 98 صوتًا في مقابل امتناع صوتين واعتراض نحو ثماني أصوات، كانت الكتلة الرمادية هي المرجحة، في دلالة ذات معنى.

وتأتى تشكيلات اللجان المجمعية، بحسب المعلن، لتؤكد أن حراكًا جديدًا يخطو خطوات إيجابية رغم الضجيج الذي اجتاح العالم الافتراضي في محاولة بائسة ويائسة للترويج بأن ثمة أزمات قد تفكك أوصال الكنيسة تدور في أروقة المجمع. وهو ترويج هاله أن نختبر الحوار والاختلاف.

جاءت التوصيات التي وافق عليها آباء المجمع وكلمة قداسة البابا في جلسته العامة الختامية محملة برسائل واضحة ليس فقط للآباء أعضاء المجمع لكنها تتجاوزهم إلى جموع الأقباط وفى مقدمتهم القائمين على الخدمة في الشارع والقرية والنجع والمدينة، الآباء الكهنة والإخوة الشمامسة والخدام وحتى مجالس الكنائس.

لعل التوصيتان اللافتتان “عقد لقاء محبة يضم جميع بطاركة الكنائس الأرثودكسية من العائلتين في ”، لعله ينتهى إلى تأسيس آليه حوار لاهوتي فاعلة تُفعِّل دورة التقارب الأرثوذكسي وتفضى إلى وحدة المفاهيم وتسوية صراعات امتدت لقرون، وتفرح قلب الرب يسوع وتحقق صرخته إلى اطلقها في ذاك البستان ومازالت تحمل أصداءها قلوب الخلصاء من أبناء الكنيسة

وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.” (يوحنا 17 : 20 ـ 23).

أما التوصية الثانية فكانت “تشكيل لجنة مكونة من 5 أعضاء من لدراسة و مراجعة الأخطاء التعليمية التي تصدر من بعض المعلمين الكنسيين”، في تأكيد مجمعي على أن آلية الحوار الجاد والمباشر هي الضمانة الأولى لتنقية الفضاء الكنسي من الشوائب وقطع الطريق على احترابات المصالح الضيقة، والارتفاع بأطروحاتنا إلى ما يليق بكنيسة عتيدة وعريقة وسوية.

أما كلمة ال فقد تضمنت خمس محاور لسنا بصدد تحليلها في سياق طرحنا هذا، فقط نشير إلى عناوينها، ونتوقف أمام طرحه لـ”مأسسة الكنيسة”.
فقد تناول:

• الأبوة، والتشديد على اعتمادها منهجًا في التعامل مع رعية الكنيسة.
• سلام الكنيسة، وأن يكون ذلك هدفا في جميع القرارات والتعاملات.
• التواجد الإعلامي، وضوابطه ومحاذيره، لما للميديا من دور هام في نشر الحقيقة.
• المسئولية المجتمعية، والمشاركة دائمًا في العمل العام.
• الكيان المؤسسي، فالكنيسة لا تقوم على فرد بل على تكامل أعضاء الجسد الواحد كل فيما كلف به، فأى عمل يعتمد على شخص واحد لا يستمر ولا ينمو ولا يتطور ويموت العمل بنهاية الشخص، وأي شخص يأتي بعده يبدأ من الأول، وهذا معطل للنمو والتطور.

فالتحول من الفرد إلى المؤسسة في مجتمعاتنا “الأبوية” عملية شاقة وتحتاج إلى قدر كبير من المثابرة والاستنارة والملء، خاصة عندما تضفى هذه المجتمعات صبغة القداسة على شخوصها، فتتحصن بها في مواجهة المراجعة والتقييم، وحتى مجرد التحاور، ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يترسخ هذا المفهوم في ذهنية كل الأطراف، من القاعدة إلى قمة الهرم، يسوُّق له ويرسخه التعليم الغيبي، وتدعمه مخاوف سيكلوجية الأقلية، في مجال عام يحتله التربص وفعل الإقصاء والاستهداف. ولا نتحدث عما استقر في آليات التكوين من عيوب تشكل ذهنية عديد ممن احتلوا الصفوف المتقدمة، حولت عندهم السلطان البنائي إلى تسلط اختلالي.

التحول من الفرد إلى المؤسسة يبدأ بإعادة هيكلة الإدارة الكنسية بجملتها، وفق معايير موضوعية وقواعد “عامة ومجردة وملزمة”، فتعرف تلك المؤسسات نسق المراكمة ومن ثم النمو الطبيعي ومواكبة متطلبات العصر في التزام بالأطر الحاكمة للكيان الكلى “الكنيسة”، فلا يغيب عنها الهدف الذي تأسست من أجله وحُمِّلت به “اذهبوا.. اكرزوا.. اعلنوا بشارة الحياة والفرح.. أنسنوا العالم”.

وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية الآن لديها ثلاث آليات تكون منظومة متكاملة في دائرة التنوير؛ المركز الثقافي، المركز الإعلامي، اسقفيه الشباب، ودوائر عملهم تصب في بناء الوعى القبطي الجمعي، وهذه الآليات رغم وجود خطوط تماس وتكامل بين أهدافها، إلا أنها تعمل كجزر منعزلة، وربما متضاربة، وتدار وفق قاعدة التقدير الشخصي، ويرتبط نجاحها وإخفافها برؤية القائم أو القائمين عليها، لذلك أرى تشكيل لجنة عليا أو مجلس أعلى يجمعهم معًا ويضع رؤية متكاملة للأهداف والآليات وطرق العمل بها، يتبعه مجلس أمناء -تطوعي- من المختصين كل في مجاله، يضع هيكل تنظيمي يتولاه خبراء مهنيين، على أن يراعى تداول المسئولية بحيث لا يبقى المسئول عن هذه اللجنة أو المجلس أكثر من اربع سنوات، حتى لا يتحول إلى “مركز قِوَى” يختطفه لحسابه، وكذلك الأمر بالنسبة لكل آلية من تلك الآليات الثلاث.

اللافت لمن يطالع موقع المركز الثقافى، أن من بين أهدافه ما لا يدخل فى اختصاصه:

  • “يوفر الأرثوذكسي المؤازرة للفقراء، المرضى، المعاقين ومن لهم احتياجات مختلفة”
  • “تقديم الخدمات الإنسانية”
  • “كما يقدم المركز العديد من الخدمات السياحية بالتعاون مع شركة كريسمار للسياحة”

وهى وإن كانت تحمل في بعضها معان إنسانية، تتحول في بعضها إلى عمل تجارى استثماري، وتقع كلها خارج تخصص ودور الفعل الثقافي.
ويملك المركز أمكانات لوجستية كبيرة لكنها غير موظفة في تحقيق دوره ومهمته الثقافية:

  • الفضائية (قناة مار مرقس الفضائية المصرية) التي تبث في مصر وعلى مستوى العالم
  • أكاديمية سي أو سي سي
  • أكاديمية مي سات للإعلام
  • مكتب إنتاج فني وإعلامي
  • ستوديو مي للصوت
  • برنامج أتحبني
  • مكتبة مار مرقس العامة
  • قاعة مؤتمرات مزودة بأحدث الأجهزة السمعية والبصرية والترجمة الفورية
  • المتحف البطريركي والبانوراما القبطية
  • ويصدر المركز نشرة إخبارية يومية.
  • ويتردد أن للمجمع المقدس دور كامل بمبنى المركز الثقافي، لكنه مغلق دونه، ولا يستطيع أن يستخدمه في اجتماعاته العامة أو اجتماعات لجانه النوعية، فلو كان هذا صحيحًا نكون أمام أزمة حقيقية مسكوت عنها.

وعلى ذكر القناة الفضائية يطرح سؤال عن طبيعة العلاقة بين هذه القناة ومثيلاتها (مي سات، وأغابي، وسي تي في)، وبين الكنيسة، طبيعة ملكيتها، وشخوص المالكين، خاصة فيما يتردد عن كونها ملكية خاصة لبعض الأشخاص ومنهم أعضاء بمجمع الكنيسة، وبعضهم كهنة، فهل هذا صحيح؟ وهل هذا يعنى أن علاقة الكنيسة بها علاقة أدبية؟ دون أن يكون لها دور ملزم في رسم سياساتها وتحديد مساراتها؟

أما المركز الإعلامي فرغم أنه حلقة الوصل بين الكنيسة وبين رعيتها من جانب، وبينها وبين العالم خارجها من جانب آخر، إلا انه يفتقر للحيوية والديناميكية والمهنية أيضًا، وأصابه ما أصاب الإعلام الحكومي من رتابة في تغطية الأحداث الكنسية والقبطية، بما يفتح الباب لبدائل غير أمينة تسعى لبلبلة الشارع القبطي والمصري، تحتل العالم الافتراضي بتنويعاته.

لذا فالمركز الإعلامي وهو يملك كوادر فاعلة من الشباب، وحصلت إدارته على دورات تدريبية مهنية متخصصة، يحتاج إلى وضع معايير مهنية وصلاحيات اكثر اتساعًا تحرره من القيود والتوازنات، لكسب مصداقية لدى المتلقين. بأداء مهني أكاديمي متطور.

أما اسقفيه الشباب فتحتاج إلى مراجعة خاصة فيما يتعلق بمنظومة (المهرجانات) الأسلوب والهدف والتطبيقات والقائمين عليها ومطابقتها مع رسالة الكنيسة وأهدافها. خاصة وأنها استطاعت بفعل اسقفها الجليل أن تمد خدمتها إلى قطاعات عريضة من الشباب بامتداد الكرازة، لكنها بفعل نظرية الأواني المستطرقة أصابها ما أصاب الفعل الثقافي العام والكنسي من ترهل وتراجع وتشكلت داخلها مراكز معوقة بفعل طول فترة إسناد المسئولية لها، ولعلها تطبق مبدأ تداول المسئولية الذي اعتمده مجمع الكنيسة في تشكيل لجانه النوعية.

التنسيق والتكامل بين هذه الآليات الثلاث هو الباب الرئيس لترجمة الانتقال من الفرد إلى المؤسسة والانطلاق لتحرير الكنيسة من أسر الرؤى الشخصية، إلى فعل العمل الجماعي في ترجمة لمعنى الجسد الواحد.
وأمامنا تجارب في كنائس شقيقة نطرحها في هذا السياق في مقالات قادمة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس[الجزء التالي] 🠼 ٢٢) الخروج إلى النهار
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨