المقال رقم 30 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

“هذه هي الرهبنة التي تعلمناها: إنها أب روحي مرشد مع رهبان يسيرون في طريق الخلاص”، “نحن رهبان نسير وراء أبينا الروحي… الرهبنة ليست أسوارًا ولا حدائق ولا أكلًا وشربًا… إننا نسير وراء الأب الذي يقودنا ويرشدنا”

جاءت هذه الكلمات في حوار مقتضب بين مجموعة من الرهبان مع الأنبا ثاؤفيلس ، قرروا أن يلحقوا بأبيهم الروحي في خروجه من “” بوادي النطرون، قاصدًا العودة إلى ديره الأول “دير ” بمغاغة، المنيا، فيما كان الأب الأسقف يريد أن يبقيهم بالدير، وكان صاحب الجملة الأخيرة الراهب أنطونيوس السرياني، قداسة ال الثالث فيما بعد.
(جرت هذه المحاورة في 20 يوليو 1956، وسجلها كتاب : أبونا متى المسكين، السيرة التفصيلية، إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار، الطبعة الأولى 2008 ـ ص 138)

فما هي الرهبنة؟

هل هي مجرد مكان قصي عن العمران والناس يقطنه نفر ممن إختاروه مقرًا للإقامة؟ أم هي نسق حياة لها قواعد ومحددات تقودها نحو غاية رسموها لأنفسهم ويسعون إليها؟

هل هي هروب من العالم وتحلل من التزاماته، بضغط نفسي أو إخفاق في التحقق فيه، أو للتعرض لصدمات ما؟

هل هذا النسق من الحياة يلائم العصر؟ وماذا قدم للكنيسة من إضافة أو إسهام في سعيها لتحقيق رسالتها وسط العالم ولأجله؟

وتمتد الأسئلة خارج أسوار الأديرة، وتتشعب وتفتح الأبواب لحملات شرسة ليست كلها بريئة، وليست كلها في دائرة الموضوعية، إذ يأتي بعضها محملًا بمواقف أيديولوجية، وإسقاطات ذاتية، وربما لإدراك أصحابها أن تقويض الكنيسة يبدأ بالنيل من الرهبنة. واستأذن القارئ في اقتباس قدر من بحث تعرض لمنظومة الرهبنة، يقدم تعريفات موضوعية للرهبنة جاءت من دارسين وقامات علمية كنسية، طرحته عام 2009 (في كتاب: )

نقطة اتفاق:

دعونا، في رحابة حب المسيح وطول أناته، نتفق أن طرحنا لما نحسبه “إشكاليات كنسية” لا يأتي مدفوعًا من منطلقات ذاتية تحفز على اصطناع صراعات لا مكان لها إلا في مخيلة مثيريها، إنما نزعم ـ ولعلنا نكون محقين ـ أنها تأتي كإسهام في أن نرى “كنيسة مجيدة” تملك إمكانية “الحياة في المسيح” وإظهار رائحة معرفته في كل مكان، لذا فالضرورة تلزمنا أن نعبر مصيدة “الصراعات المصطنعة” التي تكشف عن قصور في استيعاب المفاهيم الإيمانية الأولية .
وتأتى “الحياة الرهبانية المعاصرة” على رأس القائمة ولهذا أسبابه ومنها:

1 ـ إن الرهبنة هي المدخل الرسمي لتولي مقاليد تدبير الكنيسة على مدى قرون طويلة، ولم تعد قضية تثير شهية البحث والتنقيب والتقييم والتقويم رغم أنني أحسبها بحاجة إلى كل هذا
2 ـ والرهبنة ذات مذاق شعبي وتأثير ميتافيزيقي، يسهم بقدر في تكوين وجدان بل وإيمان الشعب، لكنه يمكن أن يتحول إلى معوق ومغيب له إذا تجاوز كونه وسيلة ليصبح هدفًا يطلب لذاته، ويزداد خطر التغييب كلما تحركنا باتجاه التعتيم وتسطيح التعليم والانفصال عن تقليد الآباء وتعليمهم الصحيح وكأننا بلا جذور.
3 ـ والرهبنة “منطقة جذب” في ظرفنا هذا الذي يحفل بكم من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتباينة والتي تتجمع لتكون “عوامل طرد مجتمعية” يتعاظم في ظلها “التوجه الرهباني” باعتباره المنفذ للخلاص
4 ـ والرهبنة تحظى بتركيز إعلامي كنسي معاصر عبر كثير من أدبيات الكنيسة المكتوبة والمتواترة، على أنها مرتبة روحية أعلى من مرتبة الحياة في العالم!!، واستقر تبعًا لذلك عند كثيرين أن الحياة في العالم أمر غير مستساغ، حتى لقد سارع البعض ليعلن عبر كتب مطروحة بالمكتبة القبطية أنه اكتشف أن هناك “علمانيون أبرار” (!!)، وهذا التصور غير الكنسي مؤشر خطير يحتاج إلى أكثر من انتباهه.

ويدفعني المناخ الفكري السائد، والذي صارت فيه الأعصاب تحت الجلد مباشرة، أو ربما فوقه، وخصوصية الرهبنة بحسب ما بيناه، إلى تأكيد ما هو مؤكد ومستقر، أنني أجل “الرهبنة” ولها عندي مكان ومكانة، وأحسبها مثلًا يحتذى وملجأ حصينًا عند الضيق.

وإن كنت أتوقع أن أتواجه مع موجات هجومية متوالية خاصة ممن ارتبطت مصالحهم ومواقعهم القيادية، ببقاء الأمر بغير دراسة وتصويب، لكن عندما يتهرأ الثوب لا تصبح سياسات الرتق مجدية، وكذلك محاولات التجميل والتجمل ـ بكل بريقها وضجيجها وثقلها

وحسبي أن أسهم -ولو بفلسين- في أن أكشف لأجيالنا الواعدة بعضًا من مداخل “الطريق المستقيم” في سعينا للأبدية، وننجح في أن نقول “لا” للأنا… نعم “للمسيح”…

نقف في تتبعنا للجذور عند بواكير القرن الرابع عندما تحرك قلب الشاب الثرى “أنطونيوس” المصري في تفاعل تلقائي مع صوت الله الذي جاءه عبر قراءة إنجيل القداس، ليترك كل شيء -بحسب الآية- ويخرج باحثًا عن هدوء وسكينة يتيحان له مثلهما في داخله، فيتهيأ لسماع المزيد من صوت الحبيب ويتدرج ليصل إلى عمق الصحراء، ويلتقى بعد حين بسابقه أنبا بولا رائد النسك العظيم ليفوح عطرهما فيغطى العالم كله وتتأسس الرهبنة القبطية فيما عرف في بادئ الأمر “بالرهبنة الأنطونية”، وهي التي:

كان قوامها في عصرها الأول ينطوي على العزلة الفردية التامة، وإغراق الراهب في ضروب الزهد وتعذيب الجسد، كما كانت حياة القديس أنطونيوس مثلًا أعلى لهذا النوع من النسك

(أ.د. رؤوف حبيب: الرهبنة الديرية في مصر، ص 37)

ولكن هذا لم يمنع القديس أنطونيوس من النزول إلى العالم ليقف مع أبنائه في كنيسة العالم عندما اقتضت الضرورة ذلك، وتعضيدهم وتثبيتهم على الإيمان المستقيم، في موقفين بارزين :

أولهما: إبان محنة الاضطهاد الذي أهاجه الإمبراطور مكسيميانوس (311م)

وثانيهما: عندما سرت بدعة وكادت تبتلع إيمان الكنيسة قاطبة، فيما يخص شخص السيد المسيح، وتصدى لها ق. الرسولي في نزال عصيب، فإذا بالأنبا أنطونيوس يصير دعامة لا تلين تحمى الإيمان القويم للعالم كله

ويتوالى عبر القرنين الرابع والخامس بروز آباء عظام أرسوا قواعد الحياة الرهبانية، ولم تكن الكنيسة الرسمية هي المحركة أو المحرضة أو الداعية لهذه الحركة (الرهبنة). بل كانت وبحق “حركة شعبية مدنية بالأساس” كما لم تكن رتبة كهنوتية كنسية، بل هي تعبير شعبي عن حب جارف للفادي والمخلص، ضاق عليه العالم ـ على اتساعه ـ فكان الترك والفقر الاختياري وكان النسك والتقشف. كانت حركة باتجاه البحث عن خلاص للنفس في وعى مستنير يستشرف الأبدية ويستحضرها ويعيش بها، بل ويعيشها.

وتأسست الحركة الرهبانية -بحسب إجماع الدارسين- على ركائز أربع هي: [البتولية ـ الوحدة ـ التجرد (الفقر الاختياري) ـ الطاعة]، ويحوط هذا كله “فكر الإتضاع” الذي يحمى مسيرة الراهب في سعيه للأبدية، وبه يشعر الراهب بحاجته المستمرة لرحمة الله، وهى ركائز لها أبعادها الكتابية والإنجيلية، وتأخذ عمقها وحيويتها وتواجدها من ديمومة “الاستنارة” التي يعطيها الروح والتي بغيرها تتحول إلى مطالب مجردة لا تعطى شبعًا أو توصل إلى حياة مستقرة وثابتة في المسيح,

ومرجع قوة التوجه الرهباني وصموده أمام المحن والزمن والمتقلبات العاتية -في زمن القوة- أنه توجه شعبي لم يحركه أو ينظمه سوى شهوة الالتصاق بالفادي في اختبار حب جارف لم يقو العالم أو الذات أو -ثلاثية الأعداء- مجتمعين أو منفردين، على الوقوف أمامه أو احتوائه أو عرقلة خطواته

وتجرى في نهر الرهبنة مياه كثيرة، ويتصاعد الدور الرهباني في تدبير الكنيسة، ويصبح خطاب الرهبنة ومفرداته هو السائد، لتبدأ بوادر فقدان الكنيسة لبعض قدراتها على التواصل مع البيئة المحيطة، هدف خدمتها، فانفصلت الكنيسة عن واقعها, فلم تستطع أن تكون ملح الأرض ونور العالم، ولعل هذا ما اكتشفه شباب الأربعينيات وشكل الدافع الرئيسي لتحركهم.

وهنا تبرز أسئلة حائرة:

من خلال عقد مقارنة بين الواقع الرهباني الكنسي المعاصر وبين الجذور، نطرح بضع أسئلة بحاجة إلى إجابات موضوعية أمينة ومجردة:

كيف ولماذا ـ توغلت، ثم سيطرت، الرهبنة، وهى توجه شعبي خالص، وهى منهج نسكي تقشفي خالص وخاص بمن يقبلونه طواعية ولا يمكن بأي حال أن يكون هذا المنهج هو منهج الكنيسة كلها، إلى مضمار الخدمة الرسمية الكنسية؟

كيف تطور هذا الدخول إلى الدرجة التي صارت فيها مقاليد المراكز التدبيرية القيادية قي الكنيسة في يد الرهبنة وحدها؟

ثم من يخضع لمن: الرهبنة أم الكنيسة؟

ولا أدعى أنني أملك إجابة دقيقة علمية على هذه التساؤلات، وإن كنت انتظرها ممن يملكونها… شريطة أن تكون موثقة وموضوعية وكتابية آبائية … هادئة!!

ملاحظتان:

ثمة ملاحظتان لا تخطئهما عين دارس لتاريخ حركة الرهبنة، نتوقف أمامهما ونطرحهما:

الأولى: أن رواد الرهبنة الأوائل -في عصور الازدهار- لم يحصلوا على أية درجة كهنوتية بل رفضوا هذا بإصرار، وهربوا من الضغوط المتوالية من قِبل الكنيسة لإعطائهم أيًا منها حتى درجة الشموسية، وكان الهروب لا من باب الإتضاع بقدر ما كان مبعثه امتلاكهم لقدر كبير من الوعى الروحي المستنير والمستقبلي، المستوعب للهدف الذي من أجله خرجوا من العالم، وتيقنهم من أن خروجهم إلى درجات الكهنوت الرسمية وانفتاحهم عليها سيقودهم إلى مخاطر عدة لعل منها تحمل مشاغل جديدة تفوق تمتعهم بالوحدة مع المسيح وفيه (نيافة ـ مطران البحيرة ـ الرهبنة القبطية ص 32)، ثم الصراعات التي يمكن أن تتولد فيما بينهم عندما يطرح سؤال يفرزه تنظيم العمل الجديد: من يجلس على اليمين ومن يجلس على ؟ وطاحونة الأحقية المدمرة.

الثانية: أن الآباء الأساقفة المعاصرين الذين تناولوا الحركة الرهبانية في كتاباتهم، لم تستطع كتاباتهم أن تخفى أنينًا مكتومًا يعتمل في قلوبهم، وأزعم أن هاجسهم فيه أن يجدوا فرصة للعودة إلى قلاليهم!!
فالرهبنة عند أسقف الغربية (مذكرات في الرهبنة المسيحية): مسلك تعبدي وطريق اعتزال وانفراد في الصحارى والبراري والقفار، ولها مراتب ودرجات روحية مستقلة عن درجات الكهنوت. ويذكر مؤكدًا: أن آباء الإسكيم (مؤسسي الرهبنة) قد حرصوا طيلة حياتهم على عدم نوال أية درجة كهنوتية حفاظًا على الرهبانية كطريق للتعبد الخالص وصونًا لفكرتها الأصلية نقية من كل هدف للبلوغ إلى مراتب الكهنوت. ويرى أن قمص الدير أو قمص البرية أو الإيغومانس في الرهبنة لا تعني بالضرورة أن صاحبها يحمل درجة كهنوتية، بل كانت في بعض الأحيان تمنح له باعتباره (مدبرًا) للدير أو البرية، وقد يطلق عليه (الأبا) أو (الأنبا) بغير أن يحمل درجة كهنوتية.

ويرى نيافة الأنبا باخوميوس “أنه كمبدأ فإن الكنيسة حاليًا تسمح للرهبان بالمشاركة في مسئولياتها للضرورة، ولكن لا يجب على الرهبان مزاولة أي عمل بالكنيسة لأن حياة المجتمع تمنع الراهب من ممارسة تأملاته الفردية الضرورية له ليكون مع الله.” (المرجع السابق).

والرهبنة عند الأب متى المسكين (كتاب الخدمة جزء 3) “دعوة” لها خصوصيتها ولها منهج معين في السلوك والصلاة، وتختلف عن دعوة الكهنوت ويرى أن: المدعو للرهبنة عليه أن يبنى قلبه وفكره وكل حياته على سيرة الآباء القديسين ويضع أمام عينيه باستمرار وصيتهم الأولى والعظمى: أن يبتعد عن العالم والرئاسات وأن ينتبه إلى أن الحرب ضده ستكون بحب الخدمة وسط العالم، وهى إلحاح من اللاشعور للهروب من الواقع.

وتتأكد نفس المعاني في دراسة للأستاذين الدكتور والدكتور منير شكري (أ.د.عزيز سوريال و أ.د. منير شكري: عبقرية القديس باخوميوس) إذ يريان: أن الرهبنة حركة لم يكن للكنيسة دخل فيها، ولم يكن الرهبان سوى جمهرة من العلمانيين الأتقياء، وكان تركيز الراهب منصب على وسائل خلاصه. ولم يُرفع أحد إلا بشكل استثنائي جدًا إلى مرتبة الكهنوت وخدمة لجماعته.

ويفسران إصرار الأنبا باخوم -- على عدم نوال أبنائه أية درجة كهنوتية بأنه يرى ذلك حتى لا يحدث شجار وحقد أو شقاق بين الإخوة، وبحسب قوله: أنه كما أن الشرارة التى تسقط على القمح كفيلة بأن تقضى على عمل سنة بكاملها هكذا فإن الفكرة في أية رتبة كهنوتية قد تشعل في القلب الطمع في أشد صوره، وتقضى على السلام الذي يرفرف على الدير.

وقد أوجز الدكتور رؤوف حبيب (الرهبنة الديرية في مصر) معنى الرهبنة في قوله: الرهبنة معناها الزهد والتنسك والانعزال والانفراد بقصد التبتل والعبادة مع اختيار الفقر طوعًا.

وبعد… لعلنا متفقون على أن الرهبنة هي واحدة من مسالك السعي للأبدية في الأساس بحسب صورتها النقية، لا تتقاطع أو تتصادم مع مسالك أخرى تعيش في العالم وتتفاعل مع مشاكلة وأزماته.

يبقى أن نطرح ضوابط الرهبنة كما رآها أحد مؤسسيها “ال” (القرن الرابع)، وأحد أعلامها “القديس السينائي” (القرن السادس). ومعهما نضع ايدينا على الأسباب الحقيقية لاختلالات الرهبنة المعاصرة، وربما ندرك دوافع مصرع الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أنبا مقار.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها[الجزء التالي] 🠼 ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨