المقال رقم 29 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

كان السطر الأخير في المقال السابق يحمل السؤال الذي احتل عنوان الكتاب وتردد عبر كل فصوله: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ وحسبته آنئذ السطر الأخير في الكتاب، ورحت ارتب لطباعته وطرحه للقارئ، وأقر أنني طفت حول السؤال وتأرجحت بين الفرضيتين اللتين حملهما، ولم يكن ترجيح “إرهاصات الميلاد” من الأمور المتيقنة عندي، ربما لاقترابي من تفاعلات الشارع الكنسي بقدر، وتتبعي لمنحنى إدارة الكنيسة وخاصة في سنوات حبرية قداسة ال الأخيرة واحتراب الدائرة القريبة منه المكتوم، وقد ناء كاهله بأعباء المواجهات العاتية داخل الكنيسة وخارجها،

فضلًا عن انهاك الجسد وهو يخوض غمار الشيخوخة التي تضافرت عليه فيها قائمة أمراضها، لكن ظل مخاض الميلاد هاجسًا يشاغلني وأنا أتابع شتلات التنوير تزرع بغير ضجيج أو افتعال في ارضها وقد أشرت إلى بعضها بامتداد صفحاتي، وكان التاريخ يدعمني، حتى في عصورنا الوسيطة، فالليتورجيا التي تحمل جينات الإيمان وسر حياة الكنيسة وجدت لها مستقرًا لدى الأجيال الواعدة وصارت مكونًا ضميريًا راسخًا في ذهنيتهم. ربما لذلك لم اقطع بإجابة على السؤال وتركتها مفتوحة فكل الاحتمالات مطروحة.

وفيما الأمر كذلك تصدمنا أنباء مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس بوادي النطرون، داخل ديره وهو في طريقه إلى الكنيسة فجر يوم الأحد ـ 29 يوليو 2018 ـ للصلاة، وتتوالى الأنباء عن تورط راهبين وربما أكثر في الجريمة، وبحسب ما تواتر نقلاً عن ما نسب إلى الفاعل الأساسي قوله أن ثمة خلافات عقائدية ومالية دفعته لقتله، ثم نكتشف أن الراهبين كانا ضمن مجموعة من الرهبان الجدد الذين تمت رسامتهم بعد رحيل وشكلوا جناحًا مناوئًا لفكره ومنهجه.

ولست هنا بصدد تناول هذه الواقعة في دائرتها الجنائية، أو حتى طرح محاولات تفسيرها المختلفة والمتباينة إلى حد التضاد، أو الاقتراب من ردود فعل الفرقاء التي لا تقل في حدتها عن محاولات التفسير تلك، لكن الواقعة وتداعياتها كانت بطعم الصدمة، ولا تبتعد كثيرًا عن سؤالنا المحوري المطروح، وتنقل مسئولية إجابته إلى القائمين على تدبير الكنيسة.

كانت الواقعة كافية لرفع الغطاء عن واقع يئن من الخلافات عند القاع والقمة على السواء، وجاء المعلن عن وقائع الأحداث على قلته متجاوزًا لكل التوقعات، وصادمًا للصورة الذهنية الجمعية الطوباوية التي تشكلت عندنا عن الرهبنة ككيان إنساني يصح ويمرض، ويعبر بقمم وقيعان.

لكن ردود الفعل تكشف ما لهذه المنظومة من ثقل عند من يقبل بها أو يرفضها، والتي تراوحت بين رفض أن يكون الجاني من الرهبان، فهم بحسب الصورة الذهنية “ملائكة أرضيين وبشر سمائيين”، بفعل الإلحاح الذي تحمله مرويات الرهبنة، الكيان والشخوص والتاريخ، وبين من يُحمِّلها كل إخفاقات الكنيسة في رسالتها ويراها عبئًا يعوقها ويذهب إلى حتمية التخلص منها، ويختطف البعض الرهبنة ليعيد إنتاج مواقف تاريخية رافضة للكنيسة بجملتها ويطرح الصراع المذهبي تحت غطاء مناقشة ماهية الرهبنة وكتابيتها، فيما يذهب آخرون إلى شخصنة القضية ليصفي حسابات عالقة مع شخوص بعينهم، فيما كان للبعض فيها مآرب أخرى.

ورغم ذلك كان هناك من يقرأ المشهد بعقل بارد يحلل ويناقش ويطرح مخارج على الأرض تعيد للمنظومة الديرية تماسكها وللكنيسة سلامها.

وإذا تخلينا عن انفعالات الصدمة ربما نكتشف أن عوامل كثيرة تضافرت لتصل بهذه المنظومة إلى واحدة من اختلالاتها، تتقدمها الإشتباك بينها كمنظومة (شعبية) وبين المنظومة الية، حتى صارت تجلس على قمتها وتنفرد بها، وبعد أن كان من الممكن أن تختار قيادات الكنيسة من أطياف متنوعة وفئات متعددة صار الاختيار محصورًا في الرهبان، وصار، تأسيسًا على ذلك، حال الكنيسة مرتهنًا بحال الرهبنة صعودًا وهبوطًا، وبفعل عوامل عديدة انتقلت أمراض المجتمع العام إلى بعض من المجتمع الديري بقدر يُختلف على مساحته. وصار الفعل الثقافي السائد خارج أسواره أكثر تأثيرًا داخل المجتمع الرهباني من الفعل الثقافي الكنسي التقليدي، الذي خفُت بفعل تراجع التلمذة واختفاء الشيوخ.

ومن يرجع إلى التكوين الديري القبطي يستطيع أن يلحظ بغير عناء التمايز النوعي بين الأديرة، رغم اتفاقهم على محاور ونذور الرهبنة الأساسية، البتولية والفقر الاختياري والعزلة والطاعة، فثمة أديرة لها سمت طقسي وأخرى تجد عندها هوى تاريخي وثالثة تذخر بالبحوث اللاهوتية ورابعة تبحر في محيطات ال، وهكذا يمكن أن تلمس التعدد والتنوع قي كل جماعة رهبانية الأمر الذي يكشف لك سر غنى الكنيسة، لذلك كانت “القولبة” و “التنميط” حتى في الشكل الرهباني الخارجي أحد الأخطار التي عرقلت تطورها ونموها، وكان دير الأنبا مقار أحد القلاع التي اربكها سعى القولبة والتنميط والذي انتهى بنا إلى صدمته الأخيرة.

وكانت الجماعة الرهبانية تدرك هذا، لذلك استقر فيها لقرون أن لا يتجاوز من يقودها ـ على مستوى الدير ـ أحد رهبانها، أحيانًا بغير رتبة كهنوتية، وغالبًا ممن لا تتجاوز رتبته “الإيغومانس” -المدبر- والذي يمكن الاتفاق في إطار الجماعة على تنحيه، أو تنحيته، واختيار غيره، بحسب احتياج الدير وحفاظًا على توافقه وسلامه، وهو الأمر الذي لا يمكن حدوثه حال كون رئيس الدير أسقفًا. إذ يقف العرف الكنسي الذي استقر، وقفز إلى مصاف القانون، حائلًا دون تغييره.

لكن منظومة الرهبنة شأن كل كائن حي تتأثر بما يعترى الإنسان ـ قوامها الأساسي ـ من تغيرات وتفاعلات، فتراها تتراوح بين صعود وهبوط، وبقدر التزامها بمحاورها تكون قوتها، وبقدر انتباهها لخصوصيتها وقدرتها على مراجعة واقعها قياسًا على هدفها الذي تأسست وقامت لتحقيقه، تأتى إمكانية خروجها من أزماتها وانتصارها في حروبها التي لا تتوقف، من داخلها ومن خارجها.

ولا شك أن الرهبنة المعاصرة تحتاج إلى وقفة جادة، مع نفسها أولًا، ومن الكنيسة معها ثانية، لكونها أحد أهم الأرقام في معادلة الكنيسة الفكرية واللاهوتية، بل ومن المجتمع العام خارجها، خاصة بعد أن صارت رقمًا مهمًا في الناتج القومي، بعد أن انتقلت من الصورة البدائية البسيطة “لعمل اليدين” التي كان أنطونيوس الأب المؤسس قد وضعها لأبنائه بعد أن هاجمه الضجر في يومه الطويل، المنقطع فيه للصلاة والهذيذ والتأمل في كلمة الله، لتنتقل إلى أنماط العمل المكثف بفعل توفر خبرات متقدمة في رهبانها بتعدد تخصصاتهم، في استصلاح الصحارى والزراعة الحديثة وما استتبعهما من تصنيع زراعي ودوائر الثروة الحيوانية والداجنة، والتحول من التسويق المباشر البسيط إلى شبكات التسويق الأكثر تعقيدًا.

وقد أسهمت التراجعات المتتالية والضغوط والارتباكات السياسية والاقتصادية التي أصابت المجتمع العام، والاستهدافات الطائفية التي حاصرت المجتمع القبطي، وقصور الكنائس المحلية في أغلبها عن تقديم رسالتها لرعيتها خارج الأديرة، بفعل اختلالات آليات إعداد القائمين على التعليم والرعاية والخدمة، والاتجاه إلى تقزيم دور الأراخنة ومن ثم افتقاد التوازن لحساب الإكليروس، اسهم كل هذا في أن تتجه الأنظار إلى الأديرة ملاذًا وبديلًا وحلًا، لأزمات واحتياجات المجتمع القبطي.

وتجد الأديرة نفسها أمام التزامات جديدة؛ تبدأ بتوفير ما تتطلبه مهمة استقبال وضيافة الزائرين، إقامة وخدمة، بل وبناء كنائس جديدة داخل الأديرة ـ صارت في بعضها كاتدرائيات ـ لتستوعب الأعداد الغفيرة، وتخصيص آباء رهبان للقيام بهذه المسئولية، وتتمدد الاحتياجات فتظهر الاستراحات على مداخل الأديرة وأماكن الضيافة داخلها، وتضيق المسافات بين الزائرين والرهبان، وتسقط الحواجز وتفتر الضوابط، فترتبك التزامات الرهبنة وتتهدد في عفتها ووحدتها وسكينتها، وتتنوع حروب الفكر على الراهب، ويشاغله حنين متنام للتعليم والإرشاد فتضيق عليه جدران قلايته وأسوار ديره ويتلمس الأعذار للنزول إلى العالم، حتى يجول معلمًا ومرشدًا، أو هكذا يتصور، بينما في الخارج خطايا رابضة، لم يشر إليها أحد فقد توارى الشيوخ والمدبرين، وغابت التلمذة، ولم يعد للمرشد الروحي المختبِر مكانًا.

وعلى صعيد مواز تتخفف بعض الأديرة من بعض شروط القبول، في طالبي الرهبنة، وفى المقبولين منهم لها، لتزايد الحاجة إلى من يغطى احتياجات الدير المتنامية، فيتسلل إليها أنماط متباينة يسعون إلى تحقيق أهداف لم تتحقق في صراعات وشروط مجتمعاتهم خارج أسوار الأديرة، وتتضافر عوامل عديدة لتختفى مسحة الروح فتظهر أمراض المجتمعات أحادية النوع والمغلقة، ويقفز الإنسان العتيق ليفرض صراعاته وأمراضه وانحرافاته على المشهد فيئن الدير ويضج ساكنيه ويسقط بعضهم، ويصدم من يتابعه عندما يرفع الغطاء عن واقعه، وتفرض العملة الرديئة نفسها وتكاد تبتلع العملات الجيدة.

نحن، في سياق تناول الرهبنة، أمام أزمة حقيقية تتجاوز واقعة مقتل الأب الأسقف، وتتجاوز احتراب الفرقاء، وصراعاتهم الضيقة، والتي تحتاج قراءة أعمق من ردها إلى شخوص بعينهم، فالرهبنة ليست مجرد منظومة لنفر من الناس توافقوا على قواعدها، ويعانون من اختلالاتها، في أزمنة الضعف، فقد تجاوز تأثيرها أسوار أديرتها بعد أن صارت ولقرون هي المصدر الوحيد الذي يمد الكنيسة بقياداتها، من أساقفة وبطاركة، وقد شهدت العقود الأخيرة حراكًا ممنهجًا لتحويلها إلى منظومة إكليروسية، سواء فى وضعها تحت السيطرة الكاملة برسامة أساقفة لتدبيرها، أو برسامة رهبانها كهنة وفق جداول زمنية صارت نسقًا مستقرًا فيها، لتفقد سمة أساسية فيها وهى طبيعتها المدنية الشعبية (العلمانية مجازًا)، وتعمق فقدان الأرثوذكسية لتمايزها بالتوازن بين مكونيها الأساسيين الإكليروس والعلمانيين.

ولم يعد أمامهما، الرهبنة والكنيسة، إلا رد الاعتبار، والحياة، إلى محاورها الأساسية التي قامت عليها، وإلى انساق الحياة التي استقرت فيها عبر تاريخها الطويل، وهو ما سوف نعرض له في الفصل القادم باستعراض رؤية أحد مؤسسيها الأوائل، القديس أنبا مقار، عبر بحث تحليلي قدمه باحث غربي تناول فيه رسالة لهذا الأب إلى أولاده الرهبان، وسنضع الرسالة والبحث بجملته أمام القارئ في ملحق خاص بنهاية الكتاب.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٢٨) لكنها تدور[الجزء التالي] 🠼 ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨