المقال رقم 27 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

ما أظن أن ما يحدث بين الفرقاء في الكنيسة صراعٌ لاهوتي في أغلبه، فكثيره له مآرب أخرى، وحتى فيما يتعلق بالجدل الفكري ما أظنه واقعيًا ذلك لأن قواعد القياس غائبة، فعلام نقيس هذا التعليم أو ذاك؟ هل لدينا مجموعة قانونية لمعتقدات الأرثوذكسية يمكن أن نسميها دستور إيماننا؟ لدينا مراجع ولدينا اتفاق عام علي العقائد الأساسية لكنها متفرقة بين الكتب والوثائق والمخطوطات، وبعضها يحتاج إلى تحقيق علمي تاريخي ولاهوتي، خاصة المتأخر منها، والذي حملته إلينا قرون التدوين بالعربية.

وقد أشرنا قبلًا إلى الجهود المضنية التي قام بها الرواد المحدثون عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، وتجاربهم المؤسِسة، وكانت الملاحظة أن نجاحها كان مرتبطًا باتفاق إرادات ال والعلمانيين، ومقارنة تجربتي و تقولان بهذا، فقد انطلقتا في نطاق زمني متقارب، وجاءت مبادرتهما من أراخنة أفاضل لهم خبراتهم المقدرة، وكان البابا المعاصر لهما واحدًا، لكن الأولى، مدارس الأحد، وجدت دعمًا واحتضانًا، من قداسته، رغم مقاومة قاعدة عريضة من الكهنة، فنمت باطراد حتى جلست على الكرسي البابوي، بعد نصف قرن من انطلاقها، بينما الثانية، المجلس الملي، لم تحظ بالقبول، لولا فرضها بقرار عال من الدولة، وتوارثت الرفض والمقاومة بامتداد عمر التجربة مع تعدد الآباء البطاركة، حتى أنها جُمدت في حبرية قداسة ال السادس، وعادت منزوعة الصلاحيات بفعل تدخلات سياسية سابقة في الحقبة الناصرية، ليصبح المجلس كيانًا بلا فاعلية في حبرية قداسة البابا ، ومازال أمره معلقًا حتى اللحظة.

لهذا فالكنيسة بحاجة إلى مبادرة والنخبة المتخصصة من العلمانيين بالعكوف على ترتيب ورش عمل تضع إطار فكرى لدستور إيماني موثق، يبدأ بما اقترحناه قبلًا “المجمع المرقسي الأول” على غرار المجمع الي الثاني، يسبقه تنظيم لجان تحضيرية رفيعة المستوى، تنتهى إلى جدول أعمال المجمع، يتناول المحاور الرئيسية للعقائد ومراجعها ووثائقها، وتوفيرها من مصادرها، اليونانية والقبطية والعربية، وتحقيق ما يحتاج منها إلى تحقيق، ونوطن أنفسنا على أن هذا الأمر، بدءًا من الأعمال التحضيرية حتى صدور دستور العقائد، قد يمتد إلى عدة سنوات، وهو يستحق، وفى مسيرة الضبط والتصحيح نكتشف أن الأمر نفسه يشمل دستور الطقوس وتنقيتها من مدخلات عصور التراجع، والتي لا تختلف كثيرًا عنها في دائرة العقائد.

يبقى شخص المسيح يسوع هو المسيحية ذاتها، فهو الذي أعلن لنا سر الآب، وأدخلنا في شركة الثالوث، ووهبنا الحياة الأبدية، فبغيره تصبح المسيحية ـ إن وجدت ـ مجرد مجموعة من القيم الأخلاقية التي يمكن أن نجدها في غيرها، وربما نجد ما يوازيها وأكثر في تجمعات لا دينية، وتتحول العبادة إلى فروض وممارسات تطلب لذاتها، فنجتهد في تدقيقها بضمير مثقل بمحاذير المخالفة، وتتلبسنا الازدواجية بين ما نقول به وما نعيشه، نرسم صورة التقوى وننكر قوتها.

ربما في هذا نجد تفسيرًا لإغراقنا في الشكل، وتصير التراتبية هدفًا، يتراجع المسيح وتتقدم الذات، ويختطف البعض نصًا كتابيًا في إجتزاء متعمد “فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟(ملاخي 1)، بينما رب المجد يصحح هذا المفهوم في واقعة أعقبها بتوجيه “قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتّزَرَ بِهَا، ثُمّ صَبّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الّتِي كَانَ مُتّزِرًا بِهَا…. فَلَمّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلّمًا وَسَيّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السّيّدُ وَالْمُعَلّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا.(يوحنا 13).

كان الاتضاع وكانت المحبة هما الدافعان لكل معاناة السيد في ، وكان الكبرياء وكانت الذات وراء كل رفض لقبول هذا التدبير، فالذين ذهبوا إلى تأويل التجسد بعيدًا عن حقيقته التي جمعت الطبيعتين، الإله الكامل والإنسان الكامل، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا ابتلاع أو ذوبان ولا تغيير، في المسيح يسوع، والذين رفضوا مساواته للآب في الجوهر وكونه واحدًا فيه، والذين رفضوا استحقاقاتنا التي صارت لنا عبر التجسد، لم يدركوا، ولم يختبروا تلك المحبة وذاك الاتضاع، لأنهم لو قبلوا بهما لصاروا ملزمين بالتخلي عن كل مجد اغتصبوه وكل كرامة إختطفوها لذواتهم في مواقعهم المتقدمة. وما الهرطقات في الدائرة الة إلا تنويعات على تصدى الذات والكبرياء لفهم التجسد، واستيعابه،

وقد نجد في اقترابنا من الرجل الذي تصدى لهذه المدرسة فى بداياتها، ق. الرسولي، وهو بعد شماس وشاب غضًا، أهمية التكوين الذهني والقلبي عنده، فلم يكن تعرفه على شخص الرب يسوع المسيح مدرسيًا، فقد عاش ال وخبرها، فتكشفت له من خلالها ملامح رب المجد المتفرد، كانت الخيوط تتجمع لتشكل وجدانه ورؤيته، فقد تربى في وسط تَقَوّى في بيت كهنوتي -بمعطيات زمانه- واحتضنه صبيًا وشابًا البابا البطريرك ق. ألكسندروس، صاحب البصيرة النافذة، وكانت خطوطه موصولة مع مؤسس الرهبنة، ق. أنطونيوس، فكانت سياجات النسك تحميه من صلف المعرفة المجردة، كانت مكتبة الإسكندرية تمده بالزخم الآبائي، وبين المعرفة والاختبار ودفء الليتورجيا وتهذيب النسك وقدوة الآباء وتلمذته عليهم، تشكلت ذهنية ق. أثناسيوس، فكان مدخله لمعرفة كنه الرب يسوع المسيح هي المحبة، وقد وصفه أحد الباحثين الذين تعمقوا في سيرته “احب أثناسيوس المسيح فعقله، بينما حاول أن يعقل المسيح فلم يسعفه عقله لذا لم يستطع أن يدرك طبيعة الإله المتجسد”، ومن يتوفر على كتابات ق. أثناسيوس ورسائله يلمس هذا التوجه بقوة.

ولعل السؤال الوجوبي ونحن نعيش مناخ تتوفر لنا فيه كل هذه المعطيات؛ فالمعرفة صارت متاحة بما لم يتح لأجيال عديدة سبقتنا، عبر قنوات مبهرة، ما بين تقنيات طباعة متقدمة وإخراج فني مبهر، وبين فضاء رقمي إلكتروني يجعل البحوث والكتب اللاهوتية رهن ضغطة على لوحة مفاتيح الوسائط الإلكترونية التي صارت “في كل يد”، والاجتماعات الكنسية بتنويعاتها ومؤتمراتها تغطى الأسبوع بجملته، والفضائيات المسيحية دخلت كل بيت، لماذا صرنا “محمولين على كل ريح تعليم؟”، ولماذا صارت الهشاشة تحتل ذهنية كثيرين؟ ولماذا تراجع التعليم اللاهوتي ليحتل مكانه التعليم الاجتماعي والغيبي وفى بعضه التعليم بالخرافة؟ وفى جسارة احتل القديسون -رغمًا عنهم- مكان المسيح!!، هل هو الخواء الفكري والخوف من الوقوع في محاذير تحيط بمن يتصدى للتعليم؟ ربما نجد تفسيرًا إذا اقتربنا من آليات التكوين التعليمي؛ الإكليريكية والأديرة. بغير أن نستنفر ذهنية الدفاع وجدل عقيم نطارد به كل من ينبه لحتمية المراجعة والتقييم والتقويم، فمن الثمر تعرف الشجرة.

اللافت أن الكنيسة وفرت لنا زادًا لاهوتيًا لا ينقطع في قراءات القطمارس اليومية والموسمية، والتي رتبت برؤية مبدعة تكفى وحدها وجبة دسمة تشير بإلحاح إلى الطعام النازل من السماء المن العقلي الذي لا يفسد، وعندما نصغى بوعى إلى صلوات الكنيسة، وبخاصة في وليمة ال، الحضور الدائم لله وسط شعبه، نكتشف أنها ترجمة حياتية موقعة على كلمة الحياة، التي تبنى وتصون وتبكت وتقودنا لشركة حقيقة مع المسيح وفيما بيننا، لنصر ونحن أعضاء كثيرون جسدًا واحدًا رأسه المسيح.

ومازالت اذكر وأنا بعد صبي صغير كيف كانت الليتورجيا المدرسة التي قادت قدماي للكتاب المقدس، قبل أن افتح صفحاته والهج وراء حكاياته، وعندما صرت شابًا كانت مدرستي ملاصقة للبطريركية المرقسية وقت البابا القديس كيرلس السادس، وكانت أسئلتي لا تتوقف وكانت إجاباته مقتضبة، كلها كانت من صلوات الكنيسة، لكنها تحمل ما لا تقدمه كتب وعظات مسهبة، وعندما تعرفت على كتب ، كان في كنيستنا -مار جرجس بالقللي- كاهنٌ متقدم في الأيام، أبونا يوحنا عبد المسيح أبادير، يمكن أن تصفه بفلاح الكتاب المقدس، يجوس في صفحاته بمحراث يقلب أرضه المباركة، كانت جلساتي إليه شبه يومية، وسؤاله اليومي، قريت إيه النهاردة؟ وكانت إجابتي المتكررة في كتاب كذا لأبونا متى، يطلب إلى أن آتى له بهذا الكتاب، اقرأ عليه بعض من سطوره، يستوقفني، عارف دي جابها منين، افتح أشعباء .. أو رسالة بولس الفلانية … أو ، ويفتح كنوزه ويخرج منها ما يجعلني لا أنتبه إلى أن الليل انتصف،

ما بين أبونا متى وأبونا حنا (هكذا كنا نناديه) بدأت في اكتشاف شخص المسيح، وبدأت أتذوق حلاوة كنيستنا التي لن تسترد مجدها إلا باسترداد وعيها اللاهوتي في تعليمها المعاصر الذي يتأسس على معرفة شخص ربنا يسوع المسيح حجر زاوية إيماننا، والذي يلتقينا يوميًا على المذبح، بينما الشماس ينبهنا: فلنقف حسنا، لنقف بتقوى، نقف باتصال، نقف بسلام، نقف بخوف الله ورعدة وخشوع. أيها الإكليروس وكل الشعب بطلبة وشكر بهدوء وسكوت ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق لتنظروا المذبح وجسد ودم عمانوئيل إلهنا موضوعين عليه.

الكنيسة تدعونا لأن نعرفه.. ذاك الذي أخذ الذي لنا، وأعطانا -حقيقة لا مجازًا- الذي له.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب[الجزء التالي] 🠼 ٢٨) لكنها تدور
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨