- ١) ما قبل اﻷزمة
- ٢) نؤمن
- ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
- ٤) محاولات مبكرة للخروج
- ٥) البابا يوساب: من ينصفه؟
- ٦) أيقونات علمانية قبطية
- ٧) الدور العلماني بين التكامل والتقزيم
- ٨) إرهاصات بعث ملتبسة
- ٩) والعلمانيون يضرسون
- ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
- ١١) جدداً وعتقاء
- ١٢) كتاب يصنع حراكاً
- ١٣) البنّاء الصامت
- ١٤) سنوات البعث
- ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود
- ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية
- ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
- ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
- ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
- ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس
- ٢١) تفعيل آليات التنوير
- ٢٢) الخروج إلى النهار
- ٢٣) خبرات غائمة
- ☑ ٢٤) خبرة معاصرة
- ٢٥) مسارات التفكك وسعي المقاربة
- ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب
- ٢٧) لنعرفه
- ٢٨) لكنها تدور
- ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها
- ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
- ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
- ٣٢) أما بعد
ونحن نجوس في بحثنا عن إجابة لسؤالنا الأثير، نحتاج إلى الاقتراب من تجارب معاشة سعت على الأرض لاختبار السؤال، من هذه التجارب، ما حدث في العقد السادس من القرن العشرين في الكنيسة الكاثوليكية، في لحظة كان العالم بأسره على أبواب تغيرات تتجمع خيوطها لتنفجر قبل أن يخطو خطواته الأولى إلى سبعينياته، وكأن الكنيسة كانت تملك قرون استشعار لما هو آت، والذي تمثل في ثورة الشباب في مجتمعات الرفاهية والتي انطلقت من فرنسا وكان خروج مؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال شارل ديجول من المشهد السياسي، بسببها، إيذانا بعصر جديد تتلاحق فيه المتغيرات العاصفة.
كانت البداية سعى الكنيسة الكاثوليكية لاسترداد عافيتها، فكان أن رتبت لطرح واقعها على مائدة البحث والدراسة، بغير أن تبنى حصونَ التبرير والدفاع عما هي فيه باعتباره موروثًا مقدسًا، واستطاعت أن تفصلَ بين القواعد الإيمانية الأساسية وبين ما تسللَ إليها عبر عصورها الوسطى، تسلُّل تحولت معه من خادمٍ يبحث عن الضال والخاطئ إلى سيدٍ يمنح ويمنعُ ويحتجز مواقع الصدارة، وينطبق عليه قول الكتاب المقدس:
«هكذا قال السيد الرب للرعاة، ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، تأكلون الشحمَ وتلبسون الصوف وتذبحون السمينَ ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم، فتشتتت بلا راعٍ وصارت مأكلًا لجميع وحوش الحقل وتشتتت، ضلت غنمي في كل الجبال وعلى كل تل عالٍ. وعلى كل وجه الأرض تشتتت غنمي ولم يكن من يسأل أو يفتش»
(سفر حزقيال 34)
امتلكت الكنيسة شجاعة المواجهة والتصحيح، فتصدت بموضوعية لثلاثية الإلحاد والوجودية والشيوعية، التي وجدت لها مكانًا عند شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفجرت في نهايات الخمسينيات من القرن العشرين وإطلاله الستينيات.
كانت المواجهة عبر رؤية واقعية تقر بوجود أزمة مصيرية تتهدد الكنيسة ووجوبية تحليلها والوقوف على مداخلها، وعلاج العوار الذي اخترق الكنيسة، ترجمتها في أوراق المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965) التي انطلقت منها لتتفاعل من أجيال الشباب الواعدة، وتعلن مجددًا رسالتها بلغة معاصرة، في تحديد مفاهيم عقائدها الأساسية وعلاقاتها مع الآخر المختلف مذهبًا ودينًا، وحتى غير المتدينين، وتحررت من مظاهر الفخامة والانفصال الوجداني عن الرعية، ورفعت وصايتها عنهم لتعود إلى دورها الرعوى والتعليمي، كما تسلمته من الكنيسة الأولى.
قد نكون بحاجة للتذكير، قبل أن نستعرض معًا هذه التجربة، بأننا بصدد عرض تجربة حياتية معاصرة وليس تقييم ما تم التوصل إليه في بعده اللاهوتي ـ على أهميته ـ وإنما منهج التفكير وآليات التنفيذ، والإعداد الجيد والجاد، ودعوة كل المؤسسات الدينية للمشاركة كمراقبين في فعاليات المجمع، يشاركون في الحوار والنقاش دون حق التصويت على القرارات. كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مشاركة بوفد على رأسه الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، وقد تناول المجمع في أكثر من مقال ومحاضرة.
نقطة الانطلاق كانت في خريف عام 1962 عندما انطلقت دعوة البابا يوحنا الثالث والعشرين لعقد مؤتمر دولي كنسي (مجمع مسكوني بلغة الكنيسة) يبحث في واقعها ومستقبلها، وحدد في خطابه الهدف منه «أن يحقق تجديدًا في الكنيسة وفق مطالب العصر، وأن يجرى مزيدًا من الضبط وأن يواجه مطالب الساعة»، ونبه خطاب الدعوة إلى أن هذا الضبط وتلك المواجهة «لا يرتبان بداهة تغييرات في العقائد بل يرتبان سلوكًا في تقديمها لتساير بموضوعية أوضاع العالم الحديث، إذ إنه منذ عدة قرون طرأ تغيير عميق على الإطارين التاريخي والاجتماعي للكنيسة»، ويطالب البابا في السياق ذاته الكنيسة بأن «تبحث عن كيفية تقديم إجابات تناسب العالم في ضيقاته»، وتمتد أعمال المجمع لتنتهي في ديسمبر 1965، ويشير البابا بولس السادس في خطاب جلسته الختامية إلى أن التحدي الحقيقي الذي واجهه هو معالجة «التباعد والانفصامات التي فرقت بين الكنيسة والحضارة المادية خلال القرون الأخيرة، لا سيما القرن التاسع عشر وقرننا الحالي». لم يقتصر المجمع على رجال الدين بمختلف مستوياتهم وتنوعاتهم من كافة أرجاء العالم، بل شارك فيه خبراء مدنيون (علمانيون) من كافة التخصصات الأكاديمية وأصحاب الخبرة في الأطروحات والقضايا محل البحث. بل وسبقه استبيان شعبي وفر رصدًا للمشكلات المتنوعة التي تشغل بال المؤمنين في العالم، توافر على فحصها وتبويبها وتقديمها لجلسات وأعمال المجمع عشر لجان تحضيرية.
ظني أن تجربة المجمع الفاتيكاني الثاني هذه، تحتاج من الكنيسة المصرية إلى إعادة فحص وقراءة بدءًا من الفكرة والآليات والمنهج لتمصيرها في لحظة فارقة، بعيدًا عن التصورات المسبقة والتربصات التي تحتشد بها اللحظة، فقد خرجت منها كنيسة روما وقد استردت عافيتها وتواصلت مع احتياجات العالم بأسره وتجاوزت الصراعات الطائفية، وانتصرت للإنسان لكونه إنسانًا.
ولم تستبعد كنيسة روما أيًا من الملفات أو القضايا وتسلحت بالشفافية والمكاشفة وسعت لمواجهة واقعها بجلد وشجاعة وأعادت صياغة مفهوم الكنيسة والسلطة الرئاسية بها، والعلمانيين والرهبنة ومفهوم القداسة همها الأثير، والطقوس ومفهوم الوحي والحركة المسكونية والعلاقة مع الأديان غير المسيحية، التي امتدت خارج مربع الديانات السماوية، بحسب المستقر في ثقافتنا، والتعاطي مع المشكلات الآنية في دوائر الأسرة والثقافة والحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وفى سياق الوعى بأهمية تقييم التجربة الإدارية الكنسية، وإيمانًا بحاجة الكنيسة إلى نسق المراجعة المستمرة يقوم الفاتيكان، بحسب مصادر كنسية مقدرة، بالإعداد لعقد المجمع الفاتيكاني المسكوني الثالث، لبحث ودراسة المستجدات التي طرأت على الكنيسة والعالم، في الفترة المنقضية بعد مجمعه الثاني وحتى الآن.
ونحن في كنيستنا القبطية وفى ظل المتغيرات المتسارعة التي تجرى من حولنا، بحاجة إلى أن نملك شجاعة الإقرار بتراجع العديد من آلياتنا وربما مفاهيمنا المستقرة عن الوفاء بمسئوليات الكنيسة تجاه الرعية، قياسًا على أهدافها الصحيحة، لا تغازلُ العالم ولا تزاحمه في صراعاته، ليس فيما يتعلق بقواعد وأسس الإيمان والثوابت اللاهوتية، بل في وسائلها.
لدينا العديدُ من الأمور والقضايا المفارقة لصحيحها الآبائي والكتابي، ولدينا إشكالياتٌ تضخمت فيها الذاتُ وتشابكت مع المصالح الضيقة وتدعمت بها، هل يمكننا أن نقر بالانفصال المعرفي في بعض الموروثات مع لاهوت كنيسة الآباء بفعل الضغوط التاريخية التي اجتاحتنا، وبفعل الانتقال من يونانية الكنيسة الأولى إلى قبطية العصر الوسيط إلى عربية العصور التالية، الذي لم يواكبه تواصلٌ جيلي معرفي لاهوتي مدقق؟
لدينا تصوراتٌ تحتاج إلى ضبط مفاهيمي موضوعي في دوائر الرعاية والتعليم والرهبنة، والسلطة الكهنوتية، ولدينا حاجة ملحة إلى صياغات أكثر وضوحًا في دائرة لاهوت الأسرار، المعنى والمبنى والمضمون والممارسة، والإجابة دون أن تلاحقنا كتائبُ التكفير والتشكيك على أسئلة مسكوتٍ عنها، فيما استقر بيننا في مفهوم «الاعتراف» وخفوت جناح التوبة اللصيق به، وقياسه على تسليم الكنيسة الأولى، وتخليصه من إضافات انحرفت به عن غايته، ومواجهة المقارنات المجحفة بين البتولية والزواج التي تسللت إلينا بغير أساس، والتي تقف وراء غالبية الأزمات الزوجية، التي تنتهى إلى تدمير الأسرة والوقوف على أبواب محاكم الأسرة والمجالس الإكليريكية بحثًا عن الطلاق وتداعياته التي تهدد سلام الأسرة والكنيسة، وغيرها من الإشكاليات الحياتية المعاشة.
أدرك أن هذا يتصادمُ مع ما استقر بيننا لأجيال وربما لقرون، وقد يترجم هذا إلى صدامات مع من استقرت لهم وضعيات تمييزية وظيفية كنسية واجتماعية، يصعب الاقتراب منها، أو تحريكها وقد تحصنت بتأويلات نصوصية تدخلهم في دائرة الحصانة المقدسة، لكن مسئولية التصحيح تتجاوزها، لحساب تحقيق رسالة الكنيسة والخدمة.
أنتظر أن تدرسَ الكنيسة «قداسة البابا تواضروس الثاني ومجمع الآباء الأساقفة والأراخنة» الترتيبَ لمؤتمر علمي يناقش حاجات الكنيسة المعاصرة، وكيفية تنقيتها من مدخلات تسللتْ إليها واستقرت فيها وتشابهت مع التسليم الآبائي، حتى تنطلقَ مجددًا لفعل بنائي مثمر. وليكن “المجمع المرقسي الأول”، بعد أن ينال ما يستوجبه من إعداد جيد؛ المحاور والمشاركون والأوراق، وإدارة الحوار والمناقشات، وتشاركنا فيه الكنائس الشقيقة فى العائلة الأرثوذكسية الشرقية، (القبطية الأرمنية والسريانية المتواجدة في بلاد المشرق والهند وأثيوبيا وأريتريا وبلاد المهجر).
ولعل اجتماع رؤساء الكنائس الشرقية الذي عقد مؤخرًا بلبنان (يونيو 2018) وما توصل إليه من تفاهمات يعطى بادرة إيجابية في هذا السياق، توطئة للانتقال إلى دوائر أوسع تضم الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، ثم الكنائس الكاثوليكية بتنويعاتها العرقية والجغرافية، ثم ننتهي إلى الكنائس غير التقليدية، لنصل معًا إلى كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.
قد يبدو طرحى عند كثيرين خياليًا وعند بعض أخر غير قابل للتحقق على الأرض، لكن كل القضايا الكبرى تم تفكيكها بطرح أو بفكرة وجدت من يتفاعل معها ويخوض مغامرة تفعيلها، بعقول باردة وقلوب ملتهبة. وثقة في فعل الروح القدس الذي مازال يعمل في دأب ليجمعنا إلى واحد.
وتكون نقطة الانطلاق مؤسسة على أن الإنسان بحسب لاهوت التجسد هو حجرُ الزاوية، والأنسنة هي القاعدة الإيمانية التي يقوم عليها البناء الكنسي المسيحي بجملته، ومن خلالها تتحدد ملامح العلاقة بين الله والبشر، فبينما يعلن السيد المسيح أنه نور العالم، يعود فيقول موجهًا كلامه لتلاميذه ومن قبلوه «أنتم نور العالم» و«أنتم ملح الأرض»، وفى تعريف التنوير يقول الدكتور وسيم السيسي إنه إضاءة المناطق المعتمة في الذهنية الجمعية للشعب، ومن هنا يصبح التكليفُ الأساسي للخطاب الديني المسيحي هو سعى التنوير، فيعود الإنسان إلى إنسانيته، ويصبح التجديد فعلًا متواترًا ولازمًا. والاسترشاد بالخبرات الإنسانية في هذا الأمر يوفر لنا قاعدة انطلاق نواجه بها واقعًا تتنازعه دعوات البغض والكراهية وتفككه الأنانية واختلال القيم.
ويبقى الطرح قائمًا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨