المقال رقم 2 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

الكنيسة هي كائن متأصل ومتجدد يحمل مهمة إعلان المسيح، وهى ممتدة باتساع الجغرافيا، ومتعمقة وقائمة بامتداد التاريخ، بحسب توجيه المسيح لها “اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها” (مرقس .16 : 15)، بل ويمتد وجودها باعتبارها جسد المسيح، وهو رأسها، إلى ما بعد الحياة الأرضية، منذ اليوم الأول لتأسيسها.

وهى بهذا: جسد المسيح الحي الكائن وسط عالم البشر وبهم، يتشكل هيكلها الفكري الإيماني من ما أعلنه الإنجيل لها، وحفظته عبر ليتورجيتها، التي تؤكد على إدراكها للحقائق الإيمانية الأساسية، عن الله والخلق، والسقوط و عبر التجسد والفداء، وانتظار ، وحياة الدهر الآتي. وقد استوعدته الكنيسة في وثيقة الأيمان النيقاوي القسطنطيني، فيما قبل الانشقاق، وتلتف حوله بغير اختلاف كل كنائس العالم.

وتعتمد الكنيسة ـ خاصة في جناحها التقليدي ـ على التواتر الجيلي، التسليم، وهو ما قال به القديس في اكثر من إشارة بامتداد رسائله:

وَمَا تَعَلّمْتُمُوهُ، وَتَسَلّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيّ، فَهذَا افْعَلُوا، وَإِلهُ السّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُمْ.

(فيلبى 9:4)

لأَنّنِي تَسَلّمْتُ مِنَ الرّبّ مَا سَلّمْتُكُمْ أَيْضًا: إِنّ الرّبّ يَسُوعَ فِي اللّيْلَةِ الّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ فَكَسّرَ، وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي». كَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَمَا تَعَشّوْا، قَائِلاً: «هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هذَا كُلّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي». فَإِنّكُمْ كُلّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرّبّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ. إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرّبّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرّبِّ وَدَمِهِ.

(1 كورنثوس 11 : 23 ـ 27)

فَإِنّنِي سَلّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ،وَأَنّهُ دُفِنَ، وَأَنّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ.

(1 كورنثوس 15 : 3 ـ 5)

فَأَمْدَحُكُمْ أَيّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ التّعَالِيمَ كَمَا سَلّمْتُهَا إِلَيْكُمْ.

(1 كورنثوس 11 : 2)

فمن ثم ايها الاخوة نسالكم ونطلب اليكم في الرب يسوع، انكم كما تسلمتم منا كيف يجب ان تسلكوا وترضوا الله، تزدادون اكثر، لانكم تعلمون اية وصايا اعطيناكم بالرب يسوع. لان هذه هي ارادة الله: قداستكم.

(1 تسالونيكي 4 : 1 ـ 2)

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا نَشْكُرُ اللهَ بِلاَ انْقِطَاعٍ، لأَنّكُمْ إِذْ تَسَلّمْتُمْ مِنّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ، الّتِي تَعْمَلُ أَيْضًا فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ

(2 تسالونيكي 2 : 13 )

وَمَا سَمِعْتَهُ مِنّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا.

(2 تيموثاوس 2:2)

وقد استقر في الأرثوذكسية، المصادر الأساسية للتعليم:
ـ الكتاب المقدس
ـ التسليم الآبائي (المُحقق)
ـ قوانين وقرارات المجامع المسكونية التي أقرتها الكنيسة.
ـ ال ومنظومة صلوات الكنيسة.

التأصيل الإيماني ودور التسليم الآبائي:

نؤكد مجددًا على أن الكنيسة لها قواعدها الإيمانية، التي تقوم عليها، والتي تتأسس على ما سبق الإشارة إليه، وهذه القواعد الإيمانية، (العقائد)، لا تقبل الجدل حولها، لكن هذا لا يصادر الحق في تعدد الآراء ومدارس التفسير، باختلاف الثقافات والتنوع المجتمعي والجيلي، في إطار الإقرار بالمحاور الإيمانية الأساسية، كما بينا سلفًا.

فالعقيدة لا تقبل الاختلاف بينما يبقى الرأي والتفسير قابلان للتنوع والتعدد، دون أن يتبادل الفرقاء اتهامات الهرطقة والتشكيك، وتبقى الليتورجيا، وفى مقدمتها القداس الإلهي والتسبحة وصلوات الإجبية، المعيار الذي يقاس عليه الرأي والتفسير.

ويعد الكتاب المقدس نفسه دليلًا على أهمية ودور التسليم الآبائي، إذ كيف استقرت الكنيسة على اعتماد الأناجيل الأربعة دون غيرها من الأناجيل والكتب المنحولة التي ظهرت في توقيتات مختلفة؟، فلولا ما استقر في الكنيسة من تسليم استودِع أناس أمناء، بحسب بولس الرسول، لما امتلكت الكنيسة آلية تقنين هذه الأناجيل دون غيرها، وهو ما يشير إليه القديس لوقا البشير في مقدمة إنجيله:

اذ كان كثيرون قد اخذوا بتاليف قصة في الامور المتيقنة عندنا، كما سلمها الينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رايت انا ايضا اذ قد تتبعت كل شيء من الاول بتدقيق ان اكتب على التوالي اليك ايها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به

(لوقا 1 : 1 ـ 4)

حتى أننا يمكن أن نقول بثقة أن الكتاب المقدس نفسه وثيقة آبائية، وقد كتبه أناس مسوقين من الروح القدس. بحسب القديس في رسالته الثانية (1 : 21).

اختلفوا في الرأي وبقوا قديسين

ويحتفظ لنا التاريخ بنماذج عديدة لمعلمين كنسيين ثقاة اختلفوا في قضايا كنسية وكتابية مهمة، إلى درجة التضاد، ولم يقل احدهم بأن الأخر “هرطوقي”، لا في عصره ولا في العصور اللاحقة، لسلامة الأرضية الإيمانية التي يقفون عليها وينطلقون منها.

تطبيق : نقف أمام ثلاث وقائع خلافية في دائرة الرأي

1 ـ شاول الملك وتحضير روح صموئيل (عرافة عين دور)
ـ هل كانت روح صموئيل؟
كثير من الآباء رفضوا فكرة روح صموئيل؛ منهم ووس و، بينما يؤكد يشوع بن سيراخ في سفره أنها روح صموئيل، وقد رفع من الأرض صوته:

صموئيل المحبوب عند الرب نبي الرب سن الملك ومسح رؤساء شعبه … ومن بعد رقاده تنبأ واخبر الملك بوفاته ورفع من الأرض صوته بالنبوءة لمحو إثم الشعب.

(يشوع بن سيراخ 46 : 16 و 23)

ولم يقل أحد بهرطقة هؤلاء، ولم يشكك أحد في صحة ما قاله كاتب السفر، بل قُرأ الأمر على أنه رأى لأصحابه.

2 ـ النجم الذي ظهر للمجوس : نجم حقيقي أم ملاك؟
ـ يقول بأنه ملاك، وكذلك الأب الأسقف وهو عالم مصري من القرن الثالث عشر.
ـ بينما العلامة أبو يرى أنه نجم حقيقي!!.
ـ ولم يهرطق أي منهما لا في عصره ولا في العصور اللاحقة.

3 ـ هل تناول يهوذا؟
ـ ذهبي الفم و قالا بأنه تناول
ـ قداس القديس باسيليوس عند البيزنطيين يقول بأن يهوذا قد تناول

إن يهوذا هو ابن الأفاعي الذين اكلوا المن في القفر وتذمروا على المغذى… إذ كان الطعام بعد في أفواههم كانوا يتذمرون على الله في قلوبهم، وكذلك هذا الرديء العبادة المتسلسل منهم إذ كان الخبز السماوي بعد في فمه أسلم المخلص

(من ليتورجيا القداس الباسيلي للروم الأرثوذكس)

ولم يكل أحد تهمة الهرطقة لأي منهم ولم يعتبروا خارجين عن الإيمان
آباء قالوا رأيًا وآباء قالوا عكسهم، وكلهم محسوبين من معلمي .
ننتهي من هذا إلى أن الرأي يقبل الاختلاف ولا ينتهى بهرطقة قائله، طالما هو يؤمن بإيمان الكنيسة الذي قال به قانون الإيمان.
الاختلاف في الرأي محكوم بعدم خروجه عن العقيدة العامة للكنيسة

الرأي عند بولس الرسول غير ملزم

وأما العذارى، فليس عندي أمر من الرب فيهن، ولكنني أعطي رأيا كمن رحمه الرب أن يكون أمينا. فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا: أنت مرتبط بامرأة، فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة، فلا تطلب امرأة. لكنك وإن تزوجت لم تخطئ. وإن تزوجت العذراء لم تخطئ. ولكن مثل هؤلاء يكون لهم ضيق في الجسد. وأما أنا فإني أشفق عليكم.

(1 كورنثوس 7: 25 )

ورغم أنه من أعمدة الكنيسة، بل هو أحد “هامتا الرسل”، وربما لهذا، نجده يملك أمانة التفريق بين العقيدة (الترتيب الإلهي) وبين الرأي الشخصي له. ليؤكد على المساحة المتاحة لتعدد الرؤى وحرية القرار.

وبحسب أحد علماء اللاهوت الأرثوذكس السكندريين الأكاديميين، فإن من يقترب من منهج الكنيسة في الشرح والتفسير يجده يلتزم بثلاثة عناصر أساسية:

ـ تفسير وشرح أي عقيدة في الإطار اللاهوتي الشامل الذي يضم في تكامل كل العقائد.
ـ تفسير وشرح العقيدة على أساس ما يحدث في الليتورجية.
ـ تفسير وشرح العقيدة على أساس ما استقر في التقليد الكنسي نفسه.

ويقول في هذا:

هذه العناصر الثلاثة ذات دلالة روحية فى الأرثوذكسية لأن الإطار الشامل ـ أى العنصر الأول ـ إنما يعنى الإحتفاظ بنظرة شاملة وكلية، وعدم تجزىء العقائد إلى وحدات منفصلة. أما الخبرة الليتورجية والممارسة الكنسية والأسرار ـ العنصر الثانى ـ فهى تعنى أن يصب الشرح والتفسير فيما يٌمَارس فى الحياة اليومية وإلا أُعتُبر هذا الشرح شرحاً عقلياً أجوف لا قيمة له.، وهذا يعنى بدوره ضرورة العودة إلى التقليد الكنسى ـ العنصر الثالث ـ لأن الشرح العقلى ، مجرداً، يفصل بين الكنيسة والتقليد (التسليم)، ويباعد بين المؤمن وبين الممارسة فى الليتورجية، ويخلق فجوة روحية تسمح بالآراء الشخصية والتفسيرات الذاتية، والتى تأتى فى بعضها متأثرة بالظروف والمناسبات.

ولعل هذا يدفعنا مجددًا لإعادة الدعوة للشروع في تأسيس مركز أبحاث كنسي عند أعلى نقطة في الكنيسة يعكف على وضع المحددات التي تفصل بين العقيدة والرأي والتفسير.

وعلى الكنيسة أن تؤسس لقنوات تواصل تطرح فيها الأمور التي تستوجب حوارًا موضوعيًا راقيًا بين جنباتها.

والسؤال للفرقاء : لمصلحة من هذا التراشق وإلى متى؟

وللحديث بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١) ما قبل اﻷزمة[الجزء التالي] 🠼 ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨