- ١) ما قبل اﻷزمة
- ٢) نؤمن
- ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
- ٤) محاولات مبكرة للخروج
- ٥) البابا يوساب: من ينصفه؟
- ☑ ٦) أيقونات علمانية قبطية
- ٧) الدور العلماني بين التكامل والتقزيم
- ٨) إرهاصات بعث ملتبسة
- ٩) والعلمانيون يضرسون
- ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
- ١١) جدداً وعتقاء
- ١٢) كتاب يصنع حراكاً
- ١٣) البنّاء الصامت
- ١٤) سنوات البعث
- ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود
- ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية
- ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
- ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
- ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
- ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس
- ٢١) تفعيل آليات التنوير
- ٢٢) الخروج إلى النهار
- ٢٣) خبرات غائمة
- ٢٤) خبرة معاصرة
- ٢٥) مسارات التفكك وسعي المقاربة
- ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب
- ٢٧) لنعرفه
- ٢٨) لكنها تدور
- ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها
- ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
- ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
- ٣٢) أما بعد
قبل السطور:
ليس هدفنا أن نقدم تاريخًا للكنيسة أو الأقباط، ولا نؤرخ لأشخاص بعينهم ونتعقب منهجهم، وعندما يأتي التاريخ في سياق الطرح أو تَعبُر بنا شخوص بعينهم بحكم ارتباطهم بالطرح فلا يعنى هذا موقفًا منهم بشكل مطلق، فللتأريخ والتحليل مسارات وأدوات لا نملكها ولا نسعى إليها.
هذه السلسلة من المقالات تسعى للبحث عن جذور المواجهات الحادثة بين فرقاء العقيدة داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهى مواجهات ضلت طريقها إلى الفضاء الإلكتروني، لأسباب عديدة، ليست كلها شر، وصار معها ما كان يقال في المخادع ينشر على “السطوح”، وعلى قارعة الطريق.
وهى مواجهات كاشفة لواقعنا، ليس الكنسي فقط بل الفكري والثقافي والمجتمعي أيضًا، وفى يقيني أنها لم تأت من فراغ بل هي حلقة في سلسلة ممتدة تتجاوز الماضي القريب أو الوسيط، لتصل بنا ربما إلى النصف الأخير من القرن الخامس الميلادي، والذي شهدت فيه الكنيسة الجامعة أول مواجهات تُفضى إلى التفكك والانقسام، وكان نصيبنا “عُزلة فرضت علينا”، وتدعمت بفعل التحولات السياسية التي حملتها العقود التالية من ذلك القرن، ليأتي القرن السابع ليترجم فوران الصراعات العقائدية إلى واقع سياسي يغير مجرى التاريخ، وتنبنى عليه التغيرات الحادة والعنيفة في منظومات الحكم والحكام عبر القرون التالية.
واستأذنكم في أن انقل لكم بعض من سطور كتبها الأب متى المسكين في مذكراته، اقترب فيها من جذور الأزمة، قبل أن يصبح واحدًا من أطراف معادلتها، وقد نُشرت في كتاب “أبونا القمص متى المسكين”، الذي أصدرته مجلة مرقس بعد رحيله، ويقول فيها متعلقًا بما نطرحه: (وهى سطور كتبت في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين تعليقًا على لقاء جمعه مع بعض الشباب من جيله صاروا فيما بعد من القيادات الكنسية). يكتب الأب متى المسكين في تتابع:
“لقد عانى العالم كله من صراع العقائد الدينية تمامًا كما عانى من صراع الأحزاب السياسية، بل لا أخرج عن الواقع كثيرًا حينما أقول أن منشأ الصراع العقائدي الديني هو منشأ سياسي دوليّ، لكن مصر بنوع ممتاز عانت من كلا الصراعين ولا تزال تعانى.”
(متى المسكين، مجلة مرقس)
“إنها عتمة العقول وضيقها وانحصارها في أفق شخصي ورؤيا ضيقة. عتمة فُرِضَت علينا نحن الأرثوذكس المصريين منذ مجمع خلقيدونية (سنة 451 م) بحصار ثقافي ولغوى وحضاري. فقد فقدنا كل صلة بالعالم الخارجي، فقدنا اللغة اليونانية وهى لغة اللاهوت والفلسفة والعلم، وفقدنا معها كل امتداد في الماضي والمستقبل، وفقدنا معها تراثنا الآبائي كله، ثم فرضنا على أنفسنا هذه العزلة بأيدينا وأحكمناها كلما شاء الله ليُخرجنا من هذا المأزق بتعصبنا، نتيجة الخوف والوحدة والعزلة الطائفية. ”
(متى المسكين، مجلة مرقس)
“ثم جاء غزو العرب ودخل الإسلام بعد مجمع خلقيدونية بمأتى عام ليُحكِم هذه العزلة ويُفقدنا اللغة الثانية، لغة الأم، اللغة القبطية. إذ خرج أمر من الخليفة بأن كل من يتكلم القبطية يُقطع لسانه، فانقطع لساننا بدون قطع، وانتهت اللغة القبطية، لغة الوطن والحضارة الأولى. واستيقظ الأقباط وإذا بهم قد نسوا لغتهم الأصلية، فباتت كل مخطوطاتهم التي ملأت خزانات الكتب في البيوت والكنائس والأديرة ـ مئات الألوف المكتوبة باليونانية والقبطية ـ بلا قيمة ولا معنى ولا أثر، كحجر رشيد الملقى على شاطئ البحر ينتظر من يترجمه لأولادها، لذلك كانوا يُفرِّطون فى بيعها لسارقي المخطوطات من الأجانب. ”
(متى المسكين، مجلة مرقس)
“بلغ الأقباط أقصى غاية الضعف منذ القرن السابع فما بعده وحتى اليوم. فلا تعجب أيها القارئ حينما تسمع بأننا متعصبون، إنها العزلة والخوف والجهل معًا فرضت علينا هذا التعصب الفكري والإيماني الذميم، وطغى علينا التعصب ـ الذي هو في حقيقته عتمة رؤيا وانحصار فكرى ـ ليشمل ويحكم كل علاقاتنا.”
(متى المسكين، مجلة مرقس)
“أدركتُ ـ بعد لقاء مع بعض الإخوة وكانوا خيرة شباب جيلهم ـ ألّا فرق بين العلم والسياسة والدين، فالكل يحتاج إلى قائد أمين جدًا ومتفتح جدًا وحر جدًا، كما يحتاج إلى تلميذ لا يبيع عقله لكل منادٍ أو يجرى وراء القطيع ليدخل أية حظيرة. وكان ألعن ما واجهت في اختباراتي ومشاهداتي في أيام شبابي هو رؤيتي كيف يعرض الزعيم رأيه [مدرسًا كان أو زعيمًا أو أمين مدارس الأحد] على مَن يتبعه فيستعبده، وكيف يبيع الشباب عقولهم ونفوسهم بسذاجة عن حماس وإخلاص وثقة لمن هم ليسوا أبدًا أهلًا لهذه الثقة، وبمضي الأيام تكتشف الأجيال أنه قد غُرِّر بهم وأنها سارت وراء شخصيات تافهة أضلَّتهم الطريق وأفقدتهم الرؤيا الصحيحة”
(متى المسكين، مجلة مرقس)
غير بعيد عن هذه النخبة كانت هناك مجموعة أخرى من الشباب سبقتهم زمنيًا، (1900)، يؤرقهم حال الكنيسة والأقباط، هم أيضًا يطرقون أبواب التعليم العالي، برز بينهم شاب، تخرج لتوه من الإكليريكية، ويعين مدرسًا للدين المسيحي بمدرسة الأقباط بطنطا وواعظًا بكنائس وجمعيات تلك المدينة، ويصدر العديد من الإصدارات التعليمية المسيحية، فيقرر المجلس الملي نقله للعمل مدرسًا بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة، ليصير ثالث أشهر وعاظ العاصمة مع القمص فليثاؤس عوض والأستاذ حبيب جرجس زميل دراسته بالإكليريكية، والذي تولى نظارتها بعد رحيل ناظرها يوسف بك منقريوس.
يدرس أعضاء المجلس الملي العام إنشاء جمعية قبطية ويختارون باسيلي لهذه المهمة، وتم إيفاده في بعثة إلي كلية ”ليدز” اللاهوتية بإنجلترا ليدرس نظم الجمعيات علي نفقة المجلس الملي لمدة أربع سنوات، وعاد 1907 بعد أن حصل علي الدبلوم بتفوق.
بعد عودته فكر في تأسيس جمعية تحمل اسم الكتاب المقدس وعرض الفكرة علي صديقه حبيب جرجس، فيوافقه الرأي، ويطرحان الفكرة على عضو المجلس الملي مرقس سميكة باشا الذي يتحمس لها، لتبدأ خطوات تأسيس الجمعية ويتولى رئاستها مرقس سميكة باشا، وينضم لعضويتها حبيب جرجس وإبراهيم بك تكلا، ويُختار باسيلي سكرتيرًا عامًا لها، لتبدأ نشاطها عام 1908.
لم تكن جمعية دينية حصرًا بالمعنى المتداول اليوم، بل كانت جمعية مدنية (أهلية) تهتم بتكوين الشباب بشكل متكامل، فشرعت في توفير منازل للطلبة المغتربين 1910، وابتكار ما نعرفه اليوم بالمؤتمرات الصيفية، عرفت باسم “خيام الأصدقاء” 1912 للشباب والعائلات، تخصص لدراسة الكتاب المقدس والتأملات الروحية، تقام بضواحي القاهرة ـ وقتها ـ وعلى شاطئ النيل في أماكن متفرقة تمتد من شبرا إلى المعادي.
ومنها تتولد “مؤتمرات الأصدقاء” 1915 وهى اجتماع سنوي يجمع كل فروع الجمعية يعقد في القاهرة أو في إحدى عواصم المحافظات بالتتالي.
وأسست الجمعية العديد من النوادي للشباب، يمارسون فيها هواياتهم الرياضية والفنية والأدبية والروحية، وكانت ترى أن رسالة النادي لا تقل عن رسالة الكنيسة بل وتتممها، ويتكامل معها المصيف الخاص بالأصدقاء.
وتصدر الجمعية “مجلة الأصدقاء” لتكتمل المنظومة الثقافية لها.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى يصبح شباب هذه الجمعية نجومًا على منابر الوعظ بالكنيسة، يملكون ناصية الشرح والتفسير، بلغة عربية رصينة، ووعى مسيحي متعمق، تبدأ معه الكنيسة في استرداد وعيها، وتظهر معهم “خدمة القرى” والكشافة وخدمة الكورال، مبكرًا.
كان الأستاذ حافظ داود (القمص مرقس داود فيما بعد) ابرز أعضاء الرعيل الأول لهذه الجمعية والذي تولى إدارتها بعد الرحيل المبكر لمؤسسها، ومن يتتبع حياة الأب مرقس داود يرصد أنه كان محبًا للكتاب المقدس وقد ترجم الكثير من أقوال الآباء وساهم في إعادة التذكير بالتقليد الآبائي، وأسس كنيسة مار مرقس بشبرا.
وتمتد قيادته للجمعية من 1922 حتى 1986، وتقدم الجمعية للكنيسة جيلًا متميزًا من الخدام، منهم إبراهيم لوقا (القمص إبراهيم لوقا) المؤسس لكنائس وخدمة مصر الجديدة، ويعتبرونه البطريرك غير المتوج، والأراخنة الذين تركوا بصماتهم وأسسوا العديد من الجمعيات المدنية الأساتذة : عياد عياد، بانوب عبده، يسى عبد المسيح، شاكر خليل المعصرانى، حليم بشارة، يونان نخلة، بشارة بسطوروس، بطرس رزق الله، جيّد جندي الفيزي.
وقدمت الجمعية للكنيسة العديد من المطارنة والأساقفة والقمامصة والقسوس والرهبان والعلمانيون.
كانت جمعية الأصدقاء واحدة من طابور ممتد للجمعيات القبطية التي تعكس الدور العلماني المبكر ـ بعيدًا عن الصراعات ـ لإقالة الكنيسة من عثرتها، في مناخ عام يشهد مدًا مدنيًا مؤثرًا، قبل أن تأتى الرياح لتوقف هذا المد، داخل الكنيسة وخارجها، إذ يتوازى تقليص دور العلمانيين الفعلي داخلها مع محاصرة العمل المدني خارجها، وتأميم العمل الأهلي، وتراجع الجمعيات الأهلية لتنحصر في النشاطات الاستثمارية بنكهة دينية.
وترصد منارات الخدمة من العلمانيين المؤرخة المصرية إيريس حبيب المصري، والتي كانت هي أيضًا واحدة من ابرز هذه المنارات وقد قدمت للمكتبة القبطية أحد أهم الكتب التي تؤرخ للكنيسة القبطية، بشكل متوازن وتحليلي مبدع، موسوعة “قصة الكنيسة القبطية”.
ومع تراجع الدور العلماني -الذي سنعرض لأسبابه لاحقًا- تعانى الكنيسة من غياب أحد جناحيها، فتتعثر قدرتها على التحليق في أجواء التأصيل الآبائي والتواصل مع الأجيال الجديدة، فتتعمق أزمتها، وتبدأ الصراعات بين الأجنحة المتعارضة، في غياب ذهنية التعددية والتنوع المؤسسة على القواعد المستقرة والتي اشرنا إليها سابقًا، ومن أهمها أن العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين بحسب خبرة كنيسة الآباء هي علاقة تكاملية لا تعرف التنافسية، ولا المفاضلة. ولهذا كان الإسهاب في رصد دور الجمعيات الأهلية ونموذجها “جمعية الأصدقاء”.
لكن سنوات القلق مازالت محلًا للطرح سنواصله في مقالات قادمة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨