المقال رقم 11 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

كدتُ أن أُبتَلع في موجة اكتئاب عنيفة وأنا اقلب في صفحات تاريخ الكنيسة في القرون ما بين القرن السابع الميلادي، الذي شهد نقطة تحول درامية إثر الدخول العربي الجامح، وما استتبعه من قطع حاد مع التراكم اللاهوتى كنتيجة للانتقال القسري من اللسان القبطي، وقبله اليوناني، إلى اللسان العربي، وبين النصف الأخير من القرن العشرين، والذي شهد محاولات عديدة لوصل ما انقطع، لكنها واجهت متاعب جمة وتعثر الكثير منها، وبعضها حملت في تطبيقاتها إسقاطات ذاتية، انعكست سلبًا على مساراتها، كانت أبرزها، تجارب و، و، أُجهضت الأولى في مهدها، واستمرت الثانية حتى وصلت بكوادرها إلى قمة الهرم الكنسي لكنها لم تستطع أن تتخلص من صراعات اجتحتها، بينما تأرجحت وتعثرت الثالثة بين نجاحات الأراخنة وتخوفات ال وتدخلات الدولة التعسفية.

وعندما تهاجمني موجات الاكتئاب، ألوذ بواقعة يسجلها الكتاب المقدس، كان بطلها الثائر، حين أُصيبت الأرض بجفاف امتد لأكثر من ثلاث سنوات، وعندما أخبر الله إيليا بعودة الأمطار لتروى الأرض وتعيد إحيائها، أرسل تلميذه ليتطلع نحو البحر لعله يشهد تجمع السُحب توطئة لهطول المطر، فعاد إليه مخيبًا توقعاته، بأنه لم ير شيئًا، ويتكرر الأمر لسبع مرات، وَفِي الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ قَالَ:

«هُوَذَا غَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ قَدْرُ كَفِّ إِنْسَانٍ صَاعِدَةٌ مِنَ الْبَحْرِ» وَكَانَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَا أَنَّ السّمَاءَ اسْوَدّتْ مِنَ الْغَيْمِ وَالرّيحِ، وَكَانَ مَطَرٌ عَظِيمٌ.

(سفر ملوك الأول ص 18)

ظهرت السحابة التي تبدو “قدر كف” في سماء الكنيسة في أفق عام 1958، باتفاق نفر من العلمانيين على تأسيس “” بأحد أحياء القاهرة “حدائق القبة” ثم ينتقلون به بعد عام إلى الضاحية الهادئة ـ وقتها ـ حلوان، وتنطلق منه رسالة جديدة تسعى للشباب تقدم لهم قراءة ميسرة في كنيسة الآباء وتخرج من كنوزهم ما احتفظت به خزائن المخطوطات اليونانية والقبطية، في كتيبات صغيرة. ثم تعود مجددًا إلى حدائق القبة، بعد أن اجتذبت الرهبنة ثلاثة من أعمدتها الأربعة.

سنفرد لهذه التجربة، تأسيسًا وفعلًا ومراحل، مساحة خاصة فيما بعد..

دعونا نقفز إلى عام 2010، وفيه تشهد واحدة من “الكافيهات” لقاء بين شاب وخطيبته، لم يكن حديثهما رومانسيًا أو حالمًا تستوجبه عشرينية عمرهما، ولم يكن متجهمًا قلقًا يبحث عن كيفية تدبير نفقات تأثيث البيت الجديد، كان يشغلهما البحث عمن يجيب على أسئلتهما حول الكنيسة والعقيدة واللاهوت، والممارسات الطقسية، و، وقد تضاربت الآراء حولها، حتى عرفا الطريق إلى “” وهو إحدى الآليات التي خرجت من عباءة “بيت التكريس”، وفيه يتعرفان على نظرائهم من الشباب، وتنتظم المجموعة في دورة دراسية “دبلومة في الآبائيات”، وكان من بينهم من درس بالإكليريكية، ويلتحق بعضهم فيما بعد بواحدة من أعرق الجامعات اللاهوتية الأرثوذكسية بالخارج، عبر دراسة بالمراسلة، كانوا شبابًا يقتربون من نهاية العشرينات وبداية الثلاثينيات على أقصى تقدير، كانوا خمسة شبان وفتاتان، رأوا أن ما تجمع لديهم يحتاجه كثيرون من أقرانهم وأبناء جيلهم، فقرروا، 2012، أن يضعونه على “شبكة النت” ويجتذب الجروب مئات من الشباب في فترة وجيزة، وفجر طوفانًا من الأسئلة، وطلب المزيد من المعلومات، فكان قرارهم تأسيس حركة تعليمية بشكل مؤسسي لتولد “حركة محبي التراث الآبائي”، بدأت على الشبكة العنكبوتية، ويتوالى نشر مقتطفات من تعاليم الآباء على موقع الحركة، ثم يشهد عام 2013 نقلة نوعية في نشاطها، إذ تتواصل مع اجتماعات الشباب بالكنائس وترتب لمحاضرات متخصصة فيها، تشهد إقبالًا وتفاعلًا إيجابيًا، وكان اتفاقهم، ألا يكونوا طرفًا في الصراعات الضيقة التي تشتت أصحابها عن دورهم البنائي، كان اعتمادهم الأساسي على ما يصدره مركز دراسات الآباء من كتب ودوريات، وما يعقده من ندوات ومؤتمرات.

ليتطور عملهم إلى توزيع بعض هذه الكتب على شباب الخدام مجانًا، وكان أبرزها كتاب “هكذا أحب الله العالم” للقس موسى فايق غبريال، كاهن كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس سيدي بشر، الإسكندرية”. وقد قاموا بتوزيع نحو ثلاثة آلاف نسخة منه على الشباب.

ثم يقتحمون دائرة القضايا الشائكة فيصدرون كتابًا بعنوان “المرأة في المسيحية: قضايا مثيرة للجدل” يناقش بموضوعية: بعد الولادة، ختان الذكور / ختان الإناث، وسائل تنظيم الأسرة والإجهاض، هل ورثنا خطية أم ورثنا الموت، هل تتواجد الروح مع اتحاد الخليتين أم مع الزيجوت ببطانة الرحم.

ويعقدون كورسات لاهوتية متعمقة ومنضبطة تتناول قضايا الخلق والإنسان و والمجامع وغيرها من المحاور الأساسية في الإيمان المسيحي، في ضوء خبرات الكنيسة.

ثم تصدر الحركة سلسلة من الكتب لمجموعة من الباحثين بها، كان أبرزها:

  • “سر ـ استعلان حياة وخلاص”،
  • “سر تدبير الفداء ـ من السقوط إلى المصالحة”،
  • “رحلة الله والإنسان نحو الخلاص”،
  • فضلًا عن العديد من الإصدارات الخاصة بالأطفال
  • ويعقدون مؤتمرًا عن “الآباء الأوائل” لأطفال ابتدائي في كنيسة مار مرقس بشبرا حضره 300 ولد وبنت.

ويلتفت التنويري، الأنبا بفنوتيوس، إلى هؤلاء الشباب، ويتابع عن كثب جهدهم وعملهم فيدعوهم إلى إقامة مؤتمرهم التعليمي الأول في إيبارشيته، على هامش معرض الكتاب السنوي لإيبارشية سمالوط (من 1 إلى 4 مارس 2018)،

وتتناول المحاضرات موضوعات ثرية:

  • أعجوبة نقل جبل المقطم ـ الأستاذ شريف رمزي.
  • سر الثالوث ـ الأستاذ عماد نبيل.
  • الذبائح ـ الأستاذ عادل الفونس
  • سر التدبير ـ الأستاذ .
  • سر الكنيسة ـ الدكتور فادي سامي.
  • الهوية القبطية ـ القس باسيلي سمير.

وعند إعلان قيام الحركة تصدر بيانًا للتعريف بها:

نعلن انطلاق حركة محبي التراث الآبائي فى يوم 1 يونيو 2013 الموافق 24 بشنس 1729 وهى حركة تعمل على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال الفاعليات المختلفة بالإستعانة بجهود .

أولاً: من نحن؟
“نحن مجموعة من الدارسين والدارسات للتعاليم والفكر الآبائي الأرثوذكسي، ونعمل على إيصال تعاليم الآباء للجميع، بالاستعانة بمجهودات المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، إيماناً منا أن التعليم والعقيدة السليمة هما الطريق السليم لحياة حقيقية مع المسيح والنفس والغير”.

ثانياً :ملفات الحركة:
الحركة تعمل على تنفيذ 4 ملفات:

1 ـ ملف التعليم: نعمل على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال فاعليات مختلفة.
2 ـ ملف الوحدة بين كنيسة الأقباط الأرثوذكس وكنيسة .
3 ـ ملف التواصل بين الآباء والعصر الحالي.
4 ـ ملف إنعكاس تعاليم الآباء على الحياة المعاصرة.
للحركة هيئة تأسيسية من 13 فرد وتم عمل انتخابات داخلية لتحديد المسئوليات المختلفة.

الحركة تعمل بشعار:
“أنا مسئول عن إظهار النور الذي عندي، وليس إظهار الظلام الذى عند غيري”

لذلك نمنع تماماً فى فاعلياتنا الهجوم على أى معتقد أو كنيسة أو فكر أو أشخاص.

ثم تعاود الحركة تأكيد مبادئها في بيان ثان:

• تؤمن الحركة أن تعاليم الآباء الأوائل هى مصدر رئيسي من مصادر التعليم الكنسي بجانب الكتاب المقدس والتقليد وتعاليم المجامع المقدسة والفن الكنسي، وتعمل الحركة على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال الفاعليات المختلفة.
• تؤمن الحركة بالوحدة الكنسية بين الكنائس الرسولية، وتعمل الحركة على السعي في تحريك ملفات الوحدة على مستوى القيادات

للحركة مكتب إدارى يتكون من :
منسق عام، ومتحدث رسمي، وأمين سر، ومسئول الشباب، ومنسق مالي، ومسئول تواصل، وعضو تحت السن.
• تمنع الحركة الهجوم على أو السخرية من أى شخص أو عقيدة أو فكر أو كنيسة، بل تعمل فقط على نشر ما لدينا من تعاليم الآباء الأوائل.
• يمكن إضافة أو تعديل أى مبدأ من المبادئ العامة بتقديم طلب للمكتب الإداري، ويجب موافقة 65 % من أعضاء المكتب لتفعيل أي مبدأ جديد.
• الحركة بالأساس تعليمية، وليس لها أية انشطة أخرى غير التعليم الكنسي.

كان تعرفي على شباب هذه الحركة تأكيدًا على صحة انحيازي للتفاؤل رغم موجات التشاؤم التي تلفنا، ويعطينا أملًا في انطلاقة جديدة للكنيسة “لتعود بقوة أعظم” بحسب تعبير القديس يوحنا ، وأنها قد تمرض لكنها لا تموت.

كان لبيت التكريس دورًا في البعث الجديد، تأسيسًا على القاعدة التي تقول بأن التنوير يبدأ فكرًا.

وهو ما سنتناوله في المقال القادم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني[الجزء التالي] 🠼 ١٢) كتاب يصنع حراكاً
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨