المقال رقم 20 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

لم يكن الأمر ربيعًا لا في عام 2011 ولا في عام 2012، بل كان رياحًا خماسينية عاصفة، ففي الأولى تجمعت إرادات الغضب على تباينها، لتنفجر في غير اتجاه، وكانت السلطة قد شاخت على مقاعدها بحسب التعبير الذي نحته الكاتب المخضرم “”، فجاء سقوطه سريعًا، كان حراك 25 يناير 2011 العاصف بداية لخريف ممتد، شكلته سياسات سبقته عملت على تجريف الفضاءات السياسية والقيمية المصرية، سياسات رسمتها تحالفات مازالت غامضة محلية وإقليمية وعالمية، ومصالح لم نعرف تفاصيل تصالحها بعد.

وعلى الرغم من أن مارس هو شهر الربيع بحسب الأعراف المناخية النظرية السائدة، إلا أنه جاء عام 2012 ليؤكد ما ذهب إليه الفعل المناخي في مصر، الذي لا يعرف تقويمه المصري القديم رباعية الفصول، بل ثلاثيتها والتي احتفظت بها أواشي القداس القبطي بين مواسم الفيضان والزرع والأهوية، فقد حمل عاصفة نبأ رحيل قداسة ال الثالث، بعد أن صار أحد معالم يومنا القبطي والكنسي، وقد أمسك بدفة تشكيل الذهنية القبطية منفردًا بامتداد نصف قرن من الزمان، عشر سنوات أسقفًا للتعليم وأربعون سنة بطريركًا، يأتي رحيله بين عواصف السياسة ومعطيات سنوات الشيخوخة، ليطلق العنان لصراعات كانت تمور بها أروقة الكنيسة تحت السطح، ربما يقترب المشهد من التعبير الذي وصف به القديس بولس حاله وقت أزمة كنيسة كورنثوس “كنا مكتئبين في كل شيء: من خارج خصومات، من داخل مخاوف(رسالة الثانية إلى كنيسة كورنثوس فصل 7 عدد 5)

بحسب الترتيب الكنسي يذهب موقع القائمقام إلى اقدم مطارنة الكنيسة، ال، لكنه يرده إلى مجمع الكنيسة معتذرًا، ربما لتقدمه في العمر وربما لموقفه المبدئي الذي لم يحد عنه بامتداد حبرية البابا المتنيح، بالابتعاد عن تشابكات المشهد الكنسي بجملته، لأسباب لم يشأ أن يعلنها، إلا لدائرة صغيرة استراح إليها كنت واحدًا منها، فيذهب الموقع إلى اليوس ، باكورة رسامات قداسة البابا شنودة الثالث، فيجمع بين الحرف الأول في حبريته البابوية والحرف الأخير فيها. ويحسب له عدم انخراطه في صراعات ما قبل رحيل البابا أو انحيازه لتيار بعينه داخل الكنيسة، لذلك تم اختياره قبلًا عضوًا في ومجلس كنائس .

وكم أتمنى أن يسجل المطران الجليل مشواره في مذكرات يتركها للكنيسة والوطن، كما فعل اسقف البحث العلمي الأنبا غريغوريوس، وكما فعل . فعنده؛ شابًا وسكرتيرًا للجنة العليا ل وراهبًا وأسقفًا وقائمقام، ما يسهم بموضوعية في تفكيك وإماطة اللثام وتفسير الكثير من أحداث وملابسات مرحلة من أدق مراحل الكنيسة المعاصرة.

استطاع هذا الرجل في ثمان أشهر، ما بين رحيل قداسة البابا شنودة الثالث وقدوم قداسة ال، أن يعبر بسفينة الكنيسة بسلام، بين أمواج عاتية ومتلاطمة وعنيفة كادت تقتلعها وتفكك أوصالها، من الخارج ومن الداخل، فقد جاء و يدير دفة البلاد، ويشهد قفز جماعة على السلطة، وسعيهم الحثيث لتغيير وجه الوطن واقتياده إلى حلم الخلافة الأثير، وتصاعد وتيرة استهداف الأقباط، وتبنى تلك الجماعة للمغالبة بدلًا من المشاركة، وترجمة توجههم في إعلان دستوري يحصن قرارات الرئيس ويغل يد القضاء عن مراقبته، ثم وثيقة دستورهم ولجنة الخمسين التي كلفت بإعداده والتي اشتركت الكنائس المصرية فيها، فيدعو للاجتماع ويقرر بحسم “سحب ممثلي الكنيسة من اللجنة التأسيسية للدستور، وعدم مشاركة الأقباط في اللجنة بناء على نبض الشارع المصري، والقبطي خاصة” بحسب البيان الصادر عن المجلس برئاسة القائمقام. ليعقبه انسحاب بقية الكنائس وتؤسس لغضبة شعبية عارمة.

كان الحس القبطي يتوجس من خريطة الترشيحات لخلافة البابا الراحل، فقد احتشدت بكثيرين متبايني التوجهات، وتشهد ساحات الفضاء الإلكتروني ملاسنات يحركها بعضهم عبر كتائبهم الإلكترونية والتي استحضرت الصراعات بنكهة سياسات العالم الثالث إلى محراب الكنيسة، وتشهد الكنيسة في جانب قصي تضرعات من جموع قبطية، غير مؤدلجة، أن يرى الرب يسوع الجموع ويتحنن عليهم “إد كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها(متى 9 : 36)

يبدو أن التضرعات وجدت طريقها إلى السماء، فقد توالت انسحابات عدد من المرشحين بغير تفسير معلن أو مبررات واضحة، ربما تكشف عنها الأيام حين تذهب سطوتهم، لكن اللافت أن أهمها جاء بعد اجتماع القائمقام بأصحابها اجتماعًا مغلقًا ومطولًا، لم يرفع الغطاء بعد عما دار فيه، خرج أطرافه وقد لفهم الصمت، ليعقبه إعلان انسحاب أكثرهم إثارة للجدل، ذهب خيال البعض إلى استحضار ذلك المشهد الكتابي حين تقدمت قيادات مجتمع المسيح، حال تجسده، إليه طالبين حكمه على امرأة أمسكت في فعل الخطيئة متلبسة، ومعهم شهود عليها، ينحنى السيد ليكتب بضع كلمات على الأرض، دون أن يفصح الراوي عنها، فيبادرون بالانسحاب، لم تكتمل أركان الاتهام بانسحاب الشهود، فتكون البراءة من نصيب المرأة، ماذا كتب القائمقام في أوراق اللقاء؟

وتتأكد متلازمة “الكنيسة – الدولة” مجددًا فبينما الدولة تعبر مرحلة غائمة (انتقالية بقدر) تعبر معها الكنيسة أيضًا نفس المرحلة، بحنكة وتدبير محكم، وينتهى الأمر فيهما إلى مرحلة جديدة بوجوه جديدة، لم تكن مطروحة في صراعات السطح في كليهما.

يأتي البابا تواضروس الثاني محملًا بطموحات، ربما شكلتها خبرة من يتابع المشهد من بعيد وعن كثب في موقع الرجل الثاني، في إيبارشية نائية، لم يشتبك في صراعات المرحلة، ويملك ذهنية علمية بحكم الدراسة في كلية الصيدلة وعبر دراساته العليا في علوم الإدارة، بانجلترا، وتلمذته على أحد اساطين الإدارة منذ نعومة أظفاره وحتى تعيينه أسقفًا عامًا، مساعدًا له، وطبيعته المسالمة ونشأته في بيئة أسرية سوية، وتشهد السنوات الأولى لحبريته خطوات مرتبة في مأسسة الكنيسة، بصدور العديد من اللوائح المنظمة للكيانات الكنسية المحورية، الأسقف والكاهن والشمامسة ومجالس الكنائس، ولائحة ، في محاولة للانتقال بالإدارة من الفرد إلى المؤسسة، ويقيم حوارات جادة مع أطياف من أصحاب التوجهات المختلفة، ويعالج ملف المستبعدين، من ال والعلمانيين، بهدوء لم يكن الإعلام طرفًا حاضرًا فيه، استمرارًا للقواعد التي أرساها الأنبا باخوميوس في شهوره الثمانية. لكنه لم ينتبه إلى تجميع حبات السبحة، لتشكل ظهيرًا داعمًا لتوجه “الإحياء الآبائي”، فكاد مناوئيه أن ينفردوا به.

كان المنسحبون يعيدون ترتيب أوراقهم المبعثرة، ويبدو أنهم “تركوه إلى حين”، فقد بدأوا حملتهم الممنهجة بإطلاق قنابل دخان المقارنة بينه وبين البابا الراحل، وهم يدركون أن الصورة الذهنية الجمعية ستنحاز بالضرورة لقداسة البابا المتنيح الأنبا شنودة، هكذا الحال دائمًا مع الشخصيات التاريخية وفى ثقافات مجتمعاتنا، وكان العصب الملتهب الذي يجيدون الضغط عليه، الترويج لخشيتهم على العقيدة والطقوس وما وجدنا عليه آباؤنا، كان حقًا يراد به باطل، ولم تكن خبرات البابا قد اكتملت، فيتوقف عن مسار التحديث في تراجع تكتيكي، خشية أن تتشتت الرعية التي اُستُلب ذهنها الآبائي بموجات متصحرة أحلت التعليم الغيبي المدغدغ لمشاعر المتلقين وأزماتهم في المجتمع العام، محل تسليم الآباء، ويجوبون الكتب والمحاضرات عند التيار التنويري، ينقبون عن جملة يقتطعونها من سياقها ليهدموا “الإحياء الآبائي”

وتتصاعد وتيرة الكتائب الإلكترونية ضد سلام الكنيسة ووحدتها، قبيل انعقاد في جلسته العادية السنوية المواكبة لعيد العنصرة (مايو 2018)، لكن مشورتهم تلحق بمصير مشورة ، ويعبر المجمع بالكنيسة فوق الأزمة المصطنعة، وتأتى توصياته، واختياراته، لحساب التنوير، إذ يعيد ال، سكرتير عام المجمع في دورته المنقضية، الاعتبار لمبدأ تداول المسئولية، وهى لو تعلمون ثقيلة، ليختار المجمع اسقف المعادي سكرتيرًا عامًا خلفًا له، ويشكل من الأنبا غبريال . والأنبا جابرييل أسقف النمسا (انتخابًا) و أسقف عام كناس مصر القديمة (تعيينًا) لجنة سكرتارية المجمع.

ويصدر المجمع توصيات لها دلالتها، وفقًا للبيان الذي اعلنه المتحدث الإعلامي للكنيسة:

  1. اقترح قداسة البابا تواضروس عقد لقاء محبة يضم جميع بطاركة من العائلتين في وقد رحب المجمع المقدس بهذه الفكرة الرائدة وتم تشكيل لجنة من الآباء المطارنة والأساقفة لمتابعة تنفيذ هذا الاقتراح.
  2. تشكيل لجنة مكونة من 5 أعضاء من المجمع المقدس لدراسة ومراجعة الأخطاء التعليمية التي تصدر من بعض المعلمين الكنسيين.

ويناشد المجمع المقدس، الكلام مازال وفقًا للبيان، جموع الشعب القبطي عدم الانسياق وراء ما تبثه بعض المواقع المشبوهة والكاذبة التي تحمل بكل أسف أسماءً مسيحية، وتروج أخبارًا ملفقة وتجتزئ الحقائق وتسئ للتقاليد الراسخة في كنيستنا المجيدة وتشوه صورتها في أعين أبنائها.

انتهت جولة من جولات المواجهة بين الفرقاء، لكنها في ظني لن تكون الأخيرة، فالكنيسة بحاجة في سياق المأسسة، بحسب التعبير الذي نحته قداسة البابا في كلمته في الاجتماع العام للمجمع، إلى عدة خطوات إيجابية على الأرض منها:

  • كسر الحاجز الذي أفيم في مواجهة العلمانيين، بامتداد عقود، وإعادة الاعتبار لدورهم البنائي في تدبير الكنيسة، وفق تقليدها المتميز، في إعادة لبناء الثقة بينهم وبين الإكليروس، ضمن تكامل الجسد الواحد، وقد أقر المجمع استحداث لجنة دائمة تضاف إلى لجان المجمع، فلماذا لا يدرس المجمع إضافة لجنة للأراخنة، تترجم هذا التكامل، وتحققه، وتمثل إضافة له، وتذيب جدار العزلة بين العلمانيين والإكليروس تنظيميًا.
  • إعادة النظر في مفهوم الأسقف العام ورده إلى صحيحه بحسب ما قصده ال السادس وما أكده البابا شنودة الثالث، فهما لم يقيما اسقفًا عامًا بغير كيان أسقفي، بل أسسا أسقفيات عامة ثم أقاما عليها أساقفة لتدبيرها، فانشأ البابا كيرلس أسقفيات التعليم والخدمة الاجتماعية والبحث العلمي ثم أقام عليها الأنبا صموئيل والأنبا شنودة (1962)، والأنبا غريغوريوس (1967)، أساقفة كل في تخصص الأسقفية، وهكذا فعل البابا شنودة حين أنشأ ثم أقام عليها أسقفًا (1980)، وهو ما قال به البابا شنودة في دفاعه عن موقفه في شأن تنازع الاختصاص وتمسكه بأن التعليم أسقفية وليس مجرد مهمة طارئة مسندة إليه. فهو أسقف لأسقفية، وهو الأمر الذي يعالج ما نتج عن التطبيقات اللاحقة التي أخلت بالترتيب الهيراركي في الكنيسة، ونزعت الطمأنينة والاستقرار عن الأسقف العام الذي يبقى مرتهنا بموقف البابا منه، فضلًا عن أنها جارت على رتبة الإيغومانوس كما سبق وبينا.
  • إضافة لجنة للإعلام والثقافة تضم المركز الإعلامي والمركز الثقافي والفضائيات الكنسية المختلفة، تعالج التشتت وتضارب المواقف، وتضع سياسة واضحة تستند إلى رؤية كنسية جماعية تعبر عن توجه المجمع ككيان كنسى وليس كأشخاص.

ومازال للطرح بقية

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة[الجزء التالي] 🠼 ٢١) تفعيل آليات التنوير
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨