المقال رقم 17 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

كانت واحدة من القلاع اللاهوتية ليس في مصر وحدها بل في العالم المسيحي بجملته، وما بين القرنين السادس والسابع الميلادي تتعرض لاستهداف ومطاردات لأسباب عديدة، في مرحلة الصراع المذهبي وتبنى الحكام ـ الرومان ـ آنئذ للتيار المناوئ لها، فكان القرار هو الاحتماء بأسوار أديرة وادي النطرون، فترحل بمكتبتها وعلمائها إلى دير أنبا مقار ببرية شيهيت، وفى ظلاله يجتمع العلم اللاهوتي والفلسفي مع النسك والعبادة بالروح والحق،

ولعل ذلك يفسر لنا أمرين، الأول احتشاد مكتبة هذا الدير بالمخطوطات والوثائق الآبائية للكنيسة الأولى التي انتقلت إليها فضلًا عن إنتاج معلمي هذه المدرسة بين جدران هذا الدير، والتي اعتمد عليها غالبية المؤرخين في العصور التالية، ومنهم أول من أرخ للكنيسة القبطية باللغة العربية الأسقف ساويرس (إبن المقفع) أسقف الأشمونين، في القرن العاشر، وله نحو ست وعشرين كتابًا في اللاهوت والعقيدة والتاريخ، لعل اشهرها “تاريخ البطاركة”. والأمر الثاني استقرار الكنيسة على اختيار الآباء البطاركة من الرهبان، خاصة هذا الدير، بعد أن كانت تختارهم من مديري مدرسة الإسكندرية، إذ صار الدير ورهبانه الامتداد التاريخي لهذه المدرسة.

لهذا يمكننا أن نقول أن حال الكنيسة مرتبط بشكل كبير بحال الأديرة والرهبنة، باعتبارها المصدر الوحيد الذي يمدها بقياداتها من مطارنة وأساقفة، والحارس التاريخي لعقيدتها، ومخزونها اللاهوتي الإستراتيجي، فعندما تصح الرهبنة تصح الكنيسة، وعندما تهن الرهبنة تئن الكنيسة وتدخل في دوامات بلا قرار.

تجرى في نهر الكنيسة والوطن مياه غزيرة وعاتية، تغير الخريطة، وتنزوى الكنيسة في ركن قصي وتتحول إلى كنيسة أقلية، وتتوالى الانقطاعات المعرفية، بفعل التغيير القسري للسان، وتكاد الأديرة أن تفرغ من قاطنيها، وينزح المستشرقون الكثير من مخطوطاتها، وقد غاب عن بسطاء الرهبان قيمتها، لتسكن في متاحف العالم ومكتبات جامعات أوروبا والغرب، ويمتد البيات الخريفي حتى مطلع القرن التاسع عشر، لتبدأ إرهاصات النهضة في سياق نوبة صحيان أوسع مع حراك محمد على وبعثاته، ومطبعته الأميرية (1805 ـ 1848)، إذ يأتي إلى الكرسي البابوي، بعد نحو خمس سنوات من رحيل الوالي، ال الرابع (1854 ـ 1861) ليطلق شرارة البعث ويلتفت إلى التعليم الديني والعام ويستقدم ثاني مطبعة كبرى، وتدور عجلة التنوير، ويبدو أن ثمة علاقة بين اسم كيرلس وبين التنوير، إذ يواصل البابا المسيرة، وتنطلق في حبريته منظومة القبطية، ويتتلمذ على البابا كيرلس السادس حين كان راهبًا متوحدًا رهط من الشباب الجامعي الذي يقصد الرهبنة في جرأة محفوفة بالمخاطر، وحين يصير بطريركًا يقدمهم إلى الكنيسة أساقفة يحملون مسئولية التعليم والخدمة الاجتماعية والبحث العلمي، وفى رحلتهم من الرهبنة إلى الأسقفية يلهبون قلوب وأذهان الشباب القبطي فيتوافد على الأديرة عشرات ومئات من الشباب لينتعش الإسقيط والبراري مجددًا، وتعمر الأديرة.

وبين البابا كيرلس الخامس والبابا كيرلس السادس ينتبه البابا (1928 ـ 1942) لأهمية إعداد الرهبان لتولى مسئوليات الأسقفية فيفتتح مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان (1929) ويدعمها البابا (1946 ـ 1956)، كلاهما كان يؤمن ويدرك حاجة الرهبان إلى تأهيل علمي لاهوتي وطقسي وذهني قبل توليهم مهام الأسقفية، لكن اللافت أن تغلق هذه المدرسة أبوابها عقب رحيل البابا يوساب. ومع غيابها تغيب القواعد الموضوعية للاختيار للأسقفية، والتي كانت واحدة من مطالب الإصلاحيين وقتها!!.

لم يكن للأديرة بالضرورة أسقفًا يترأسها، بل كان يتولى هذا الأمر أحد الرهبان برتبة قمص، ومن ثم يمكن تغييره بحسب أحوال واحتياجات الدير، ولم يكن بالأديرة كثير من الرهبان يحملون درجة كهنوتية، بل كان الكهنوت بالقدر الذي تحتاجه الخدمة الطقسية وخدمة الأسرار، فالرهبنة بالأساس حركة شعبية تأسست على يد أناس لم ينالوا رتبة كهنوتية ولم يخرجوا بتوجيهات أو ترتيبات كنسية، وشكلوا حائط دفاع عنها في مواجهاتها مع الهراطقة، يتقدمون صفوف المدافعين ثم يعودون أدراجهم إلى صوامعهم و “قلاياتهم” بعيدًا عن صخب الصراعات التي يموج بها العالم خارج أسوارها.

وكان الترتيب المعيشي بالأديرة يقضى بتقسيم وقت الراهب ما بين الصلاة بحسب قوانين الرهبنة وإرشاد المدبرين بها، وبين العمل لتوفير احتياجات الراهب والدير، فيما يعرف بعمل اليدين، وبين القراءة فى الإنجيل وكتب الآباء، أو نسخ الكتب قبل ظهور الطباعة، فإذا بعمل اليدين يتطور إلى استصلاح الصحارى والتصنيع الزراعي ومهام التسويق حتى التصدير. وإذا بالنسخ يتحول إلى عمل مؤسسي للطباعة والنشر بأحدث التقنيات. وهى تطورات إيجابية تنعكس بالضرورة على الدور التنويري والاجتماعي للأديرة، فبعضها نجح في أقامة منظومة رعاية للأسر الفقيرة ومساعدة طلبة الجامعات. بغير ضجيج أو صخب دعائي.

على أن الحياة الديرية والرهبنة شهدت تطورات تحتاج إلى توقف وإعادة تقييم؛ فقد شهدت الأديرة استقرار نسق جديد في العقود الأخيرة وهو انتظار كل الرهبان لدورهم لنوال نعمة الكهنوت، بحسب أفدمية الرهبنة، وهو أمر يخرجها من كونها حركة إلى كيان “ي”، من جانب، ومن جانب أخر يفقد الراهب تركيزه وسعيه في استكمال حياته كراهب فقط، وتغازله طموحات التدرج في رتب الكهنوت، بعد أن كان يهرب منها، كما تخبرنا سير الآباء الرهبان الكبار، ولعلنا نتذكر أن مؤسسي الرهبنة لم ينالوا في غالبيتهم أية درجة كهنوتية، وفى مقدمتهم القديس أنطونيوس أب الرهبان والقديس بولا أول السواح، فضلًا عن استخدام قوائم الانتظار في تطويع الراهب لتوجه من يقرر منحه الدرجة الكهنوتية أو منعها عنه، ليصير الأمر دلالة على رضا أو غضب الرياسات داخل وخارج الدير، ويصبح تجاوزه بمثابة عقوبة عليه.

ثمة تطور أخر هو انفتاح الأديرة للزيارات الجماعية المنتظمة، فماذا أنتج انفتاح الأديرة على العالم خارجَه من آثار؟ طالت الآثار ثلاث أطراف؛ الدير والشباب والكنيسة.

• أولًا: الدير

إذا سلمنا اتفاقًا أن الدير هو ذلك المكان، والمناخ، الذي يقصده المرء ساعيًا للهدوء والسكينة، في سعيه لفرصة حقيقية للالتصاق الدائم بالله في عزلة تامة عن العالم الذي تركه خلف ظهره غير نادم، متجنبًا قدر الطاقة مصادر العثرات مجتهدًا أن يحفظ نفسه طاهرًا بلا لوم، فإن هذا الزحف شبه اليومي ينجم عنه:

  • فقدان الدير للهدوء، سمته الأساسية، ودخول الآباء والإخوة الرهبان في دائرة التوتر التي تؤثر سلبًا على سلامهم وتعطل نموهم الروحي.
  • زيادة عدد زوار الدير يتطلب تجنيد عدد كبير من آباء الدير لخدمتهم، مما يستنزف طاقاتهم والتي يحتاجها في القيام بالتزاماته الأساسية الأخرى، سواء في مجال العمل أو الخدمة أو إتمام قوانين الرهبنة.
  • عدم التزام كثيرين من مرتادي الدير بالسلوك اللائق به، فيدخل الرهبان في دوامة حروب مستعرة هم في غنى عنها خاصة في دوائر العفة وضبط النفس!
  • مع توافر “الدالة” والاقتراب المتواتر بين الشباب من زائري الدير وبين الرهبان، كنتيجة لتكرار الزيارة، تسقط كثير من الحواجز ويبدأ الراهب في استضافة “أصدقائه” بقلايته، أو المضيفة الملحقة بها، وشيئًا فشيئًا تتهاوى كثير من قيمه الرهبانية وتتزايد الحروب والمتاعب والمشاكل.
  • يبدأ الأب “الراهب الكاهن” في تلقى اعترافات ممن وجدوا لديه ارتياحًا، ويفتح على نفسه بابًا كان موصدًا لهبوب رياح عاصفة وعاتية قد تقتلعه من جذوره، وتزيف عليه حياته فيختلق المبررات ويسوقُ الأسبابَ التي تقف وراء استسلامه للسقوط، وقد تتمزق نفسيته، ويتحول الدير إلى (مصحة نفسية) تموج بالسعي الباحث عن علاجات نفسية وعصبية.
• ثانيًا: الشباب

لما كانت غالبية الرحلات تكاد تكونُ وقفًا على الشباب من الجنسين، ولما كانت هذه الرحلات، في كثير منها واقعيًا، ترفيهية أكثر منها روحية بنائية، ولا يستطيع منصف مدقق أن يلمس سوى بصيص من مردود روحي، فإن ردود الفعل العكسية لابد وأن تطل برأسها وتطوق الشباب وتعوقهم وتجرفهم إلى متاهة بلا قرار، وعبر ملامستنا للواقع نجد عندهم:

  • ترسخ اعتبار رحلة الدير كافية وربما بديلة عن الالتزام بالصلاة في الكنيسة المحلية، ويتنامى الإحساس الكاذب والمغلوط، بعدم الشبع إلا من خلال الصلاة بالدير.
  • ظهور الازدواجية في أوج صورها، فالشابُ وسطَ الرهبان واحدًا منهم يكاد يعيش حياتهم وتسيطر على أحاديثه مفرداتهم، بينما هو في العالم أكثر انفلاتًا وعدم التزام من أقرانه، منفصلًا عن كنيسته؛ فلا تعليم ولا تسليم ولا استفادة ولا نمو!
  • وعندما يكتشفُ (عادية) حياة الراهب، وقد يسمع منهـ في غالب الأحوال وبحكم الدالة ـ شكواه من معاناته داخل الدير، ربما من إخوته الرهبان أو اسقفه، وتطلعاته للخدمة في العالم، أو تخطيه في الاختيار للمراكز القيادية التدبيرية. تهتز مصداقية الرهبنة بجملتها في داخله، فيكون ارتداده قاسيًا وفى صور متباينة!
  • وقد تتزيفُ عليه هو أيضًا معاييرُ الحياة الروحية، فتتحول عنده إلى ممارسات مسطحة، وتبقى زيارة الأديرة واحدة من هذه الممارسات، بغير مردود روحي يغير حياته للأفضل.
  • ومع تكرار الزيارات تكتسب صفة التعود بعد أن يخف الانبهار، ويتولد بعد ذلك تصلب القلب أمام كلمات المنفعة (إن قيلت وإن سُمعت)
  • الدخول في علاقات خاصة مع الراهب وما يمكن أن تجلبه من متاعب، وقد تكون مصيدة مؤلمة ينصبها المُجرِّب، وهى أمور واردة خاصة في المجتمعات المغلقة أحادية النوع، ما لم تتوافر فيها انساق الأبوة الروحية والمتابعة المترتبة عليها، والمتاعب والتداعيات قد تطول الراهب وقد تطول الشباب الزائر.
• ثالثًا: الكنيسة

ما أكثر أن تصطدم بشباب، داخل الكنيسة المحلية، لم يستطع أن يتعاملَ مع الواقع ولم يقوَ على الانضواء تحت لواء الرهبنة، فجمع بين الأمرين فصارَ يعيش في العالم بصورة رهبانية باهتة، وعددُهم ليس بقليل بل آخذ في التزايد وقد يمثل تيارًا أو يكاد. لكنه يشكلُ نمطًا باهتًا يتسم بالضعف ولا يقوى على بناء حياة روحية سوية، أو حياة مجتمعية طبيعية، وتتولد عندهم قدرة نفسية على تقمصِ شكل الرهبان؛ فينخفض الصوتُ حتى لا تكاد تسمعه، وتتدلى الرأسُ على الكتف، وتردد الألسنة بعضًا من العبارات الشهيرة التي تلتقطها الآذان في جنبات الدير.

بينما الحياة الخاصة والعلاقات الحياتية لهم تموج في بحر من الازدواجية وعدم الانضباط، وتسبب المتاعب للأخوة والخدمة والكنيسة وقبلهم للأسر التي ينتمون إليها، ثم تعقد داخلهم مقارنة مستمرة بين آباء الدير وآباء الكنيسة، والغلبة بالضرورة للأولين، والقلق والمضايقات وربما الملاحقات والتشهير تكون من نصيب آباء الكنيسة المحلية!

ويفقد آباءُ الكنيسة المحلية قدرتهم على قيادة وتوجيه وإرشاد أبنائهم بالتبعية طالما انحازت المقارنة من الأساس ضدهم، وطالما كان لأبنائهم آباء اعتراف في الدير، وهو وضع غير سوى وغير كنسي بالمرة. ويدعم هذا التوجه ما نراه من استعانة القيادة الكنسية بالآباء الرهبان في تدبير الكنائس التي تعانى من المشاكل أو تمر بظروف خاصة، أو لها ثقل اجتماعي، ومالي، مما يرسخ مفهوم أفضلية الآباء الرهبان على نظرائهم المدنيين.

ويزداد ضغطُ الشعب على الرئاسة الدينية فى طلب آباء رهبان لتدبير كنيستهم، وقد استقر في وجدانهم أنهم أسمى وأكثر روحانية من كهنة الكنيسة، وهو طلب يجد قبولًا جذلًا لدى الكنسية وتستند في الاستجابة له إلى كونه مطلبًا شعبيًا يتحتم تلبيته. فيفقد الآباء المدنيون وضعهم التدبيري الرعوى، لأسباب عدة فلا يقدرون على توجيه أبنائهم وتدفع الخدمة الثمن، وتتعثرُ الكنيسة، وتتولد المشاكل بين الرهبان ومجالس الكنائس والخدام وقد تصل إلى حد الصدام.

وفى سياق أخر، واتصالًا بما اشرنا إليه في مستهل هذا المقال عن انتقال مدرسة الإسكندرية إلى الدير، نسأل عن الدور التعليمي للأديرة، وقد توافرت لها المراجع الآبائية المحققة سواء فيما تبقى لديها وتحتفظ به من مخطوطات ووثائق أو ما استقدمته من مراجع مثيلة من مكتبات الجامعات الأرثوذكسية -كما بينا في مقالات سابقة- وما يتوفر لها من مناخ داعم للبحث والتنقيب اللاهوتي الموثوق به، وما لديها من كوادر بشرية مؤهلة، لكل هذا على الكنيسة أن تعيد هيكلة الأديرة لتولى مهمة إدارة المنظومة التعليمية بالكنيسة، بالتكامل مع الأكاديميين المتخصصين خارج الأديرة، كمدخل لإعادة التواصل مع زخم الكنيسة الأولى، ووضع نقطة في نهاية سطر المواجهات التي نراها اليوم، والتي في غالبها تفتقر للتحليل الأكاديمي المتخصص، خاصة وأن من يقودون حملة التشكيك في أرثوذكسية من أعادوا إحياء فكر الآباء، والهجوم عليهم لا يحملون أية درجات علمية يستندون إليها في حملتهم، بينما جل من يتصدون لإحياء الفكر اللاهوتي الأرثودكسي الآبائي مؤهلين علميًا ولاهوتيًا.

لذلك، هل تكفى الدرجة الكهنوتية وحدها سندًا للجانب المشكك في هذا الصراع؟

ومازال للطرح بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية[الجزء التالي] 🠼 ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨