المقال رقم 16 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

يأتي البابا الجديد، الأنبا ، محملًا بأماني عريضة، يحملها هو نفسه، وقد كتب عنها الكثير حين كان علمانيًا على صفحات مجلة ، وحين صار اسقفًا للتعليم على صفحات في إصدارها الأول، وتتوقعها الكنيسة، بعد التي انطلقت وقد أنفحت عيونها على نسق جديد أسسه قداسة ال السادس، في محاور متعددة، الذي أعاد للصلوات الطقسية رونقها، وقدم بنفسه القدوة والنموذج، بعكوفه على صلاة القداس يوميًا في الكنيسة الصغيرة “القديس إسطفانوس” رئيس الشمامسة والشهيد، ودفع بالشباب إلى صفوف قيادة الكنيسة، في تطور نوعى، فلأول مرة في التاريخ المعاصر يقيم أساقفة لا يحملون مسئولية إيبارشيات ورعية محددة بنطاق جغرافي، بل يحملون مسئوليات خدمة عامة، فكان “الأسقف العام”

وكانوا ثلاثة أساقفة؛ للتعليم والخدمة الاجتماعية والبحث العلمي، وكان كل واحد منهم طاقة إيجابية في دائرته، وبينما اسقف التعليم، الأنبا شنودة، يجوب الإيبارشيات ويحفز الشباب على الخدمة ويفتح لهم طاقات المعرفة، كان اسقف الخدمات الاجتماعية، الأنبا صموئيل، يمد بصره إلى أقباط الخارج ليعيد ارتباطهم بكنيستهم المصرية ويؤسس العديد من الكنائس في بلاد المهجر، ويمد خيوط التعاون مع المؤسسات المسيحية الإقليمية والدولية، وحين تقع هزيمة يونيو 67، يبادر بالتواصل مع كلاهما؛ والمؤسسات الإنسانية الأممية، وعبرهم تتوالى المعونات الأجنبية لدعم وتغطية احتياجات تلك المرحلة العصيبة في حركة مكوكية لا تهدأ، فضلًا عن حشد الدعم المعنوي لها في المحافل الدولية، ويؤسس اسقف البحث العلمي، الأنبا غريغوريوس، للنهوض ب، ونشر الثقافة القبطية بين الشباب وعبر اجتماعه الأسبوعي المتخصص، ويثرى المكتبة العربية بسلاسل من الكتب التي تتناول القضايا اللاهوتية رفيعة المستوى.

يعيد البابا الجديد إصدار مجلة الكرازة ويواصل اجتماعه الأسبوعي، ويشرع في رسامة أساقفة جدد من رفقاء مسيرته، فكانت باكورة رساماته كما أشرنا قبلًا، على إيبارشية الغربية، واليوس على إيبارشية البحيرة والخمس مدن الغربية التي تمتد إلى داخل “ليبيا”.

وتشهد الأديرة مزيدًا من الإقبال من الشباب طالبي الرهبنة، وتشهد أيضًا موجات من الزيارات من عامة الناس، الذين وجدوا فيها متنفسًا روحيًا واجتماعيًا، ويتوافر داخل الأديرة خبرات علمية وتقنية مع شباب الرهبان الجدد فتعرف الطريق إلى استصلاح الصحارى حولها، ومنها إلى التصنيع الزراعي. وتشهد الكنائس بالمدينة والقرية حراكًا في إنشاء الاجتماعات النوعية المتخصصة، إيذانًا بنهضة روحية متوقعة قادمة، تعيد التواصل بينها وبين رعيتها.

كان آباء مجمع الكنيسة -المطارنة والأساقفة- في غالبيتهم من الشيوخ، وكانت الإيبارشيات مترامية الأطراف، بعضها يضم أكثر من محافظة، فيتوالى بحكم الطبيعة انتقال الآباء ونياحتهم، وكانت رؤية قداسة البابا تقسيم هذه الإيبارشيات التي خلت برحيل اسقفها إلى عدة إيبارشيات ورسامة اسقف لكل إيبارشية جديدة، “رعية صغيرة خدمة أفضل”، فضلًا عن التوسع في رسامة الأساقفة العموم، ويكاد الأسقف العام يشبه “وزير دولة” فيكتسب خبرات تدبيرية عامة تؤهله للتجليس حال الاحتياج لقدراته وخبراته المكتسبة في واحدة من الإيبارشيات بالداخل والخارج، أو تخفيف العبء ـ كأسقف معاون ـ عن كاهل أحد الآباء المطارنة الذين يعانون من متاعب صحية أو بسبب عوامل تقدم العمر، وبحسب المتوفر من إحصاءات فقد قدم قداسته بامتداد حبريته للكنيسة من شباب الرهبان مائة أسقف، منهم تسعة عشر اسقفا عامًا، بعضهم تولى إدارة إيبارشيات بالخارج من إجمالي سته وعشرون اسقفًا لرعاية الأقباط بإفريقيا وأوروبا والأمريكيتين، وبعضهم لمعاونة آباء مطارنة بالداخل، أو تولى مهام عامة، مثل ، أو تولى مسئولية بعض مناطق إيبارشية البابا.

نحن أمام تجربة فريدة، على الأقل في عصرنا، فقد امتدت ولاية البابا شنودة لأربعة عقود في موقع المسئولية (14 نوفمبر 1971 ـ 17 مارس 2012)، يسبقها نحو عشر سنوات أسقفًا للتعليم كان فيها قريبًا من دائرة صنع القرار ومشتبكًا معها، وشهدت تلك السنوات تغيرات حادة وعاتية في المجال العام، الديني والسياسي، فقد تزامن قدومه إلى الكرسي البابوي مع رحيل ال (28 سبتمبر 1970) وتولى ال، وصعود تيار ، ويرحل البابا والبلاد تجتاحها تغيرات عاصفة ضبابية، بينما إرهاصات الثورة الرقمية تلوح في الأفق وتسهم في رسم العلاقات البينية السياسية والاجتماعية وتخلخل قبضة مؤسسات التنشئة، والكنيسة واحدة منها.

وهى تجربة تستحق التوقف معها خاصة فيما له صلة بالتعليم والرعاية، وقد نجد فيها إضاءات لجذور مواجهات اليوم بين الفرقاء.

فعندما نقترب من التعليم والرعاية تقفز أمامنا الإكليريكية والرهبنة، فالأولى تمد الكنيسة بالآباء الكهنة والخدام الذين يشكلون قاعدة التعليم والرعاية المباشرة، بينما الرهبنة هي المصدر الوحيد الذي يمد الكنيسة بالآباء الأساقفة الذين يشكلون قيادة التعليم والرعاية.

الإكليريكية:

تضم الإكليريكية قسمان؛ قسم نهاري وقسم مسائي، أما القسم النهاري فينتظم في الدراسة فيه الطلبة الحاصلين على شهادة الثانوية العامة، ومدة الدراسة فيها أربع سنوات، والدراسة فيه بنظام الإقامة الكاملة، فتجمع بهذا بين الدراسة النظرية والتلمذة والمعايشة الحياتية مع المشرفين عليها وفى مقدمتهم أسقف التعليم، في سعى لإحياء نسق القديمة، وهى تؤهل طلابها للخدمة الكهنوتية في الإيبارشيات المختلفة بعد تخرجهم، وفى مرحلة من مراحلها كانت تتيح لهم التدرب في الإجازات الصيفية في كنائسهم، وكان يتم تعيينهم كشمامسة مكرسين عقب تخرجهم لاكتساب خبرات ومهارات عملية تصقلهم وتؤهلهم للخدمة الكهنوتية.

بينما القسم المسائي (أسسه عام 1946 الدكتور ـ الأنبا غريغوريوس فيما بعد) ـ للمزيد راجع في هذه السلسلة مقال “الدور العلماني بين التكامل والتقزيم” ـ فيقبل للدراسة فيه شباب الخدام من حملة المؤهلات العليا، فيما يشبه التعليم المفتوح بغرض دعم تثقيف الخدام على الأصول الكنسية اللاهوتية والطقسية وغيرها من العلوم الكنسية، والدراسة فيه تقتصر على المحاضرات والدورات التدريبية.

وتنتشر الإكليريكيات في الأقاليم في مبادرات فردية، لكنها تفتقر للرؤية والقواعد العلمية الأكاديمية، مع ضعف الإمكانيات باستثناء إكليريكية الدير المحرق وإكليريكية طنطا، في تأسيسها الأول في حبرية المتنيح الأنبا يوأنس، ولا تعدو في غيرهما مستوى اجتماع نوعى متواضع، الأمر الذي انعكس على خريجيها، حتى الإكليريكية الأم لم تستكمل هيكلها الأكاديمي العلمي في العديد ممن يقومون بالتدريس فيها، حتى اضطر قداسة البابا شنودة إلى تدريس أكثر من مادة، اللاهوت العقيدي، اللاهوت المقارن، تاريخ الكنيسة، العهد الجديد، اللاهوت الرعوى، اللاهوت الروحي، سواء في الإكليريكية أو ملحقاتها كمعهد الرعاية، وحتى في معهد الدراسات القبطية.

وفى تطور لاحق يفضل قداسته رسامة الكهنة من خريجي القسم المسائي دون النهاري، الذي يجتهد خريجوه في البحث عن فرصتهم التي أوقفوا عليها حياتهم في إيبارشيات خارج القاهرة، أو البطالة، الأمر الذي كان له تأثيره في تقلص عدد الراغبين في الالتحاق بالقسم النهاري، حينها، وننتهي إلى غياب الخبرة الكنسية المعيشة عبر التلمذة التي يتميز بها هذا القسم.

ويعاني معهد الدراسات القبطية من هجرة الكوادر المؤهلة وكذلك رموزه المؤسسة، وكلاهما، الإكليريكية ومعهد الدراسات يفتقران إلى المأسسة الأكاديمية التي تتيح لهما التواصل مع نظرائهما في الجامعات بالداخل والخارج، ويزداد الأمر تعقيدًا بعد توقف البعثات للجامعات بالخارج، وتجاسرهما على منح درجات علمية عليا لا يتوافر لها أبسط القواعد العلمية المتعارف عليها في الدوائر الجامعية، إذ يمكن أن يترأس لجنة مناقشة الرسالة (ماجستير ودكتوراه) من لا يحمل درجة “أستاذ” بل ولا يحمل دكتوراه أو حتى ماجستير (!!).

وإن كان يحسب لقداسة البابا شنودة الثالث الاستعانة ببعض باحثي من الحاصلين على الدكتوراه من جامعات اليونان في العلوم اللاهوتية والكنسية في السنوات الأخيرة.

وكان لغياب التخصص الأكاديمي دورًا مبكرًا ومؤثرًا في الصدام بين الفرقاء، بين من يبنون رؤيتهم في القضايا الخلافية على مصادر مترجمة عن لغة حديثة وسيطة وبين من يعتمدون في ذلك على مصادر آبائية بلغتها اليونانية، وهو ما اشرنا إليه في تناولنا للدور المحوري الذي قام به الدكتور في مشواره الممتد مع إحياء كتابات الآباء، عبر مركز دراسات الآباء ومؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية الأرثوذكسية (للمزيد راجع في هذه السلسلة مقال: البناء الصامت)، وقبله الدوائر التي أحدثها كتاب للأب متى المسكين، وما تبعه من إصدارات عن دير القديس أنبا مقار.

كان الصدام تنويعة معاصرة على جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة، ومثالنا في هذا تلك المواجهات الدائرة بين الأب المطران الأنبا بيشوي، السكرتير الأسبق للمجمع المقدس، والعصا الغليظة التي تتعقب من يرونه تجاوز الخطوط الحمراء المسموح بها برؤيتهم، وبين الدكتور بباوي، الذي انتقل من مربع الموالاة إلى مربع المعارضة، وقس على ذلك الموقف من الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي و، والدكتور أحد مؤسسي معهد الدراسات القبطية، والمؤرخة ، صاحبة موسوعة “”، والقائمة ممتدة.

وكنا ننتظر، ومازلنا، أن يبادر بتناول قضية المواجهات التي خرجت عن خطها الفكري إلى مسارات أخرى، أقرب إلى الصراعات السياسية، بأن يشكل لجنة علمية لاهوتية تضم في عضويتها بالإضافة إلى المتخصصين من أعضاء من الكنائس الشقيقة المتفقة معنا في العقيدة، الكنيسة الهندية والتي صدر عن أحد آبائها مبحث هام وموثق يطرح مجددًا تحت عنوان “مجمع خلقيدونية… إعادة فحص”، وكذلك الكنيسة الأرمينية و، وكنيسة أثيوبيا، وغيرهم من الباحثين الموضوعيين، بغية الوصول إلى إعلان مبادئ يلتزم به كافة الأطراف، ويعيد للكنيسة وحدتها وسلامها بعيدًا عن الكيانات التي تعيش على الصدام والخلاف وتستثمره في دوائرها الضيقة ومصالحها الأضيق.

الرهبنة

يبقى في هذا السياق تناول التحولات التي شهدتها الرهبنة في النصف الثاني من القرن العشرين، فيما يتصل بقضية التعليم، وجدلية تعاليم الآباء، بين دورها التاريخي وواقعها على الأرض،

وهو موضوع المقال القادم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود[الجزء التالي] 🠼 ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨