- ١) ما قبل اﻷزمة
- ٢) نؤمن
- ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
- ☑ ٤) محاولات مبكرة للخروج
- ٥) البابا يوساب: من ينصفه؟
- ٦) أيقونات علمانية قبطية
- ٧) الدور العلماني بين التكامل والتقزيم
- ٨) إرهاصات بعث ملتبسة
- ٩) والعلمانيون يضرسون
- ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
- ١١) جدداً وعتقاء
- ١٢) كتاب يصنع حراكاً
- ١٣) البنّاء الصامت
- ١٤) سنوات البعث
- ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود
- ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية
- ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
- ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
- ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
- ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس
- ٢١) تفعيل آليات التنوير
- ٢٢) الخروج إلى النهار
- ٢٣) خبرات غائمة
- ٢٤) خبرة معاصرة
- ٢٥) مسارات التفكك وسعي المقاربة
- ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب
- ٢٧) لنعرفه
- ٢٨) لكنها تدور
- ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها
- ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
- ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
- ٣٢) أما بعد
عطفًا على محور التعليم لابد أن نتوقف لفحص النصف الأخير من القرن العشرين، وقد انتبهنا في بواكيره إلى المخاطر التي تتهددنا بفعل الانقطاع المعرفي عن الكنيسة الأولى، وبقى لها ليتورجيتها التي تحمل إيمانها موقعًا على الطقوس والصلوات، حتى وأن كانت ـ وقتها ـ تتناقلها كموروث دون إدراك الغالبية لمضامينه.
وقد اشرنا إلى إرهاصات الاستنهاض في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لكن النصف الثاني منه، والمحتشد بالأحداث ذات الصلة، يشهد تفاعلات من شباب الأقباط على عدة محاور برؤى متباينة، ليست منبتة الصلة بما يحدث بيننا اليوم، كان ابرز هذه التيارات جماعة الأمة القبطية وجماعة مدارس الأحد. وغير بعيد عنها حراك الجمعيات القبطية، على محاور التعليم الخدمة الاجتماعية والتعليم.
جماعة الأمة القبطية:
تشكلت هذه الجماعة في أغلبها من الشباب الجامعي، ائتلفوا حول شاب نابه، إبراهيم فهمى هلال، والذي كان قد تخرج لتوه في كلية الحقوق، جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليًا)، يستشعرون أن تغييرًا حاسمًا لابد أن يحدث للأقباط والكنيسة، على الصعيدين السياسي والديني، وهو ما سطروه في بيانهم التأسيسي لجماعتهم التي انطلقت في 11 سبتمبر 1952.
وكان تاريخ التأسيس والبيان التأسيسي يحملان العديد من الرسائل.
- 11 سبتمبر، رسالة تنبئ بتوجههم، فهو يوم احتفال الأقباط برأس السنة القبطية، والموافق لعيد الشهداء أيضا، ما بين إحياء الهوية المصرية ورفع شعار الشهادة، في مواجهة تيارات عتيه.
- 1952، رسالة بتأثرهم بحراك الثورة، التي كانت كوادرها من جيلهم، وأن التغيير السلمي لم يعد هو الخِيار المطروح.
- حمل بيان التأسيس شعارًا يحاكى شعار جماعة الإخوان المسلمين، في إشارة مبكرة، لحراك الاصطفاف الديني، وفق قانون الفعل ورد الفعل، “الله ملكنا، ومصر بلادنا، الإنجيل شريعتنا، والصليب رايتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غاية الرجاء”.
- وأكد البيان في رسالة واضحة أن هدف الجماعة : رفاهية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تطبيق حكم الإنجيل على أهل الإنجيل، تكلم “الأمة القبطية” باللغة القبطية.
واشتركت الجماعة بمذكرة ضافية تحمل رؤيتها للدستور المزمع وضعه 1954، وبحسب مؤسسها فقد أثنى عليها المستشار عبد الرزاق السنهوري بأنها “اكثر الرؤى إحكامًا” وهو رأى له وزنه لصدوره عن أحد أهم الفقهاء الدستوريين ورئيس لجنة إعداد الدستور، والجدير بالإشارة أن مشروع الدستور هذا لم ير النور.
لكن هذا لم يكن رأى السلطة الحاكمة، التي رأت فيها خطرًا وهو ما تكشفه قائمة الاتهامات التي اعتمدتها المحكمة العسكرية العليا في إدانة عناصر قيادة الجماعة، وكانت تتصدرها ما ورد في مذكرة الجماعة المقدمة للجنة إعداد الدستور في سبتمبر 1953، والعمل على تكدير السلم العام ومقاومة السلطات، ثم يأتي في مؤخرة قرار الاتهام أنهم “قبضوا بدون وجه حق على غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب الثاني وتمكنوا من اقتياده خارج الدار البطريركية وإقصائه عن مقر منصبه“، وتم الترويج للتهمة الأخيرة ولم تأت وسائل الإعلام وقتها، ولا من تناول سيرة هذه الجماعة فيما بعد لغيرها، وقد انتهت محاكمتهم إلى صدور أحكام بحبس غالبيتهم، وكان نصيب مؤسسها سبع سنوات قضاها كاملة بسجن طرة، قام خلالها بتأسيس مكتبة قراءة للمساجين داخل السجن.
وكان الدرس الذي وقر في ذهن كثيرين أن التغيير والإصلاح لا يمكن أن يأتي من خارج الكنيسة المؤسسة.
منظومة مدارس الأحد:
كانت الفكرة مقدمة للبابا البطريرك (كيرلس الخامس) من الأستاذ حبيب جرجس، في تطوير لفكرة الكتَّاب، والذي كان يتولى فيه “العَرِّيف” في ذاك الزمان تعليم الأطفال الألحان الكنسية تلقينًا، وقد جاءت الإرساليات الأجنبية وشرعت في تجميع الأطفال والصبية وإعطاءهم دروسًا في حكايات الكتاب المقدس ومعها تنشر رؤيتها وعقائدها، ووجدت قبولًا وإقبالًا، والتقط الأستاذ حبيب جرجس الخيط، وسعى لتمصير الفكرة، خاصة وهو بجوار عمله الوظيفي في دواوين الحكومة، يقوم بالتدريس في مدرسة الإكليريكية، بمهمشة إحدى ضواحي القاهرة، والتي تولى عمادتها فيما بعد، وبدأ التطبيق في أثناء القداس، إذ يتجمع الأطفال والصبية في فناء الكنيسة بينما أسرهم يؤدون الصلوات داخلها، وكانت شبرا والفجالة هما البداية، وسرعان ما انتشرت الفكرة في كل أرجاء القاهرة، ومدريات مصر، ويشكل “الأستاذ” لجنة عليا لمدارس الأحد من الشباب اليافع الذين تتلمذوا عليه، وكان لكنيسة الأنبا أنطونيوس النصيب الأوفر، ويبدأ أسم نظير جيد في الظهور ضمن هذه الكوكبة من الشباب
كانت مشكلة التأسيس التي واجهها “الأستاذ” بحسب أحد الباحثين الذين اقتربوا من المشهد، ورصد تطورها، وكتب بعضها في كتاب له، ندرة المراجع العربية الآبائية، وربما غيابها تمامًا، والمتوفر منها “مأخوذ عن الترجمات الإنجليزية والفرنسية”، ومثال ذلك ترجمة كتاب “تجسد الكلمة” للقديس أثناسيوس الرسولي، عن الإنجليزية، بجهد الأستاذ حافظ داود “القمص مرقس داود”، وعكوفه على ترجمة سلسلة تفاسير الكتاب المقدس للقس الإنجليكاني ماثيو هنري (متى هنري)، والعديد من الكتب الروحية وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ف. ب. ماير، فضلًا عن كتاب الدسقولية (قوانين الرسل)، وتاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري. يقول الباحث:
“لقد جاهدت الكنيسة بفضل علماء أفذاذ عصاميين شقوا طريقهم وحدهم وقدموا الكثير. فعندما أراد الأستاذ حبيب جرجس أن يقدم كتاباً دراسياً فى اللاهوت النظري اختار محاضرات الأب أوجين دى بليس الفرنسي الكاثوليكي فصارت مادة تُدرَّس في الكلية الإكليريكية. وعندما وضع كتابه المشهور عن أسرار الكنيسة السبعة كان أهم مرجع استند إليه الأستاذ حبيب جرجس هو كتاب “الأنوار في الأسرار” للمطران جراسموس مسرة مطران اللاذقية للروم الأرثوذكس. وفى عرضه لموضوع الكهنوت سجل أستاذنا حبيب جرجس أنه قد اعتمد على مقالة نشرتها الكنيسة الإنجليكانية، وأنه ضم أغلب ما فيها إلى الفصل الخاص بالكهنوت“
وتولت جمعية المحبة التي أسسها نفر من أراخنة الكنيسة (العلمانيين) مهمة طبع ونشر وتوزيع هذه الكتب، عبر مكتبتها “مكتبة المحبة” التي تولى إدارتها الأستاذ يونان نخلة، والتي صارت أهم المكتبات المسيحية في نشر الكتب الروحية والكنسية الطقسية، في مرحلة شهدت مدًا مؤثرًا للجمعيات الدينية المسيحية في دوائر التعليم وبناء المدارس والمستشفيات والكنائس أيضًا. وقد نعود إليها بتفصيل لاحقًا.
وأصدرت اللجنة العليا لمدارس الأحد مجلة شهرية “مجلة مدارس الأحد”، أبريل 1947 لتكون صوتها وتحمل رؤيتها، وتكشف عن توجهها الذي أكدته افتتاحية العدد الأول لها:
“بيد قوية، هي يد الله العلى القدير، تصدر مجلة مدارس الأحد، وما قصدنا من إصدارها زيادة عدد ما يصدر من مجلات. لكننا رغبنا في أن نبعث بعثًا جديدًا في المجتمع القبطي. لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدى لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع، ليجد فيها هؤلاء جميعًا غذاءهم الروحي والاجتماعي والأدبي والعلمي”
(إفتتاحية مجلة مدارس الأحد، أبريل 1947)
. وفى افتتاحية العدد الأول من عامها الرابع (يناير 1950) يؤكدون من جديد توجههم ويضيفون:
“هذه المجلة تريد أن ترفع الصوت عاليًا، وتنبه كل مسئول، وكل فرد، وإنها تريد أن تخلق الرأي العام في الكنيسة، وأن توجهه، حتى يضطر كل واحد ممن يقود كنيستنا أن يتوارى، ولا يظهر أمام الناس حين يعمل ما يخالف رسالة الكنيسة، أو حين يحاول أن يشغلنا بالأمور التافهة”
(إفتتاحية العام الرابع لمجلة مدارس الأحد، يتاير 1950)
كانوا يؤمنون أن الإصلاح يبدأ فكرًا، وكان مدخلهم التعليم، وكانت أدواتهم منظومة مدارس الأحد ومنبرهم “مجلة مدارس الأحد”. وكانت تحتشد بالمقالات الصارخة التي تتناول إشكاليات الكنيسة المعاشة واختلالات الإدارة، وأزمات الديوان البطريركي آنئذ، ويقفز اسم الشاب نظير جيد إلى رأس المجلة، في ديسمبر 1949 يصبح مديرًا للتحرير، والمسئول الفعلي عنها، وفى عام 53 يعتقل الأستاذ مسعد صادق -رئيس التحرير الرسمي- لمعارضته سياسات 52، ويُطلب من المجلة تحديد شخص يتولى رئاسة التحرير وسوف يتم قيده بنقابة الصحفيين، فيقع اختيار المجموعة على الأستاذ نظير جيد ليصبح رئيسًا للتحرير ويظهر اسمه بهذه الصفة بدءًا من أبريل 53 وحتى دخوله الدير يوليو 54.
اللافت تزامن دخوله الدير مع القبض على جماعة الأمة القبطية، رغم عدم وجود صلة بينه وبينهم بحسب تأكيدات مؤسس وقائد تلك الجماعة لي في حديث معه أودعته كتابي “العلمانيون والكنيسة”.
على أن مجموعة مدارس الأحد قبل ذلك أرادت أن تقفز إلى الأمام في سعى الإصلاح، فدفعت برائدها الأستاذ حبيب جرجس مرشحًا للرسامة مطرانًا للجيزة بعد رحيل مطرانها، واشتعلت صفحاتها بالمقالات والأبحاث التي تؤكد أن قوانين الكنيسة تبيح ترشح العلمانيين للأسقفية بل ولكرسي البابا البطريرك، لكن الكنيسة وقتها لم تقبل بهذا، ولم يتم اختيار “الأستاذ” للأسقفية.
لتشهد الأديرة قدوم نحو أحد عشر شابًا طلبًا للرهبنة في تتابع بدأه رئيس تحرير مجلة مدارس الأحد، (يوليو 1954)، تأسيًا بشابين سبقاه قبل سنوات قليلة (1948) إلى هذا المضمار، الدكتور يوسف إسكندر (الأب متى المسكين فيما بعد)، والأستاذ سعد عزيز (الأنبا صموئيل أسقف الخدمات الاجتماعية فيما بعد). فيما يصير الأستاذ نظير جيد قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد.
لم تكن هذا المحاولات ما بين جماعة الأمة القبطية وقيادات مدارس الأحد والتوجه للرهبنة، وبينهما جهود القمص مرقس داود وجمعية المحبة، إلا محاولات مبكرة للخروج بالكنيسة إلى النور وإن تعددت المسارات، ولم تكن بعيدة عن المصادمات الآنية، وهو ما تبلور فيما تلى ذلك من تطورات خلف أسوار الأديرة، وهو ما سنقترب منه في المقال القادم. في مسار سعينا لإجابة السؤال المطروح: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨