- ١) ما قبل اﻷزمة
- ٢) نؤمن
- ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
- ٤) محاولات مبكرة للخروج
- ٥) البابا يوساب: من ينصفه؟
- ٦) أيقونات علمانية قبطية
- ٧) الدور العلماني بين التكامل والتقزيم
- ٨) إرهاصات بعث ملتبسة
- ٩) والعلمانيون يضرسون
- ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
- ١١) جدداً وعتقاء
- ١٢) كتاب يصنع حراكاً
- ١٣) البنّاء الصامت
- ١٤) سنوات البعث
- ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود
- ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية
- ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
- ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
- ☑ ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
- ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس
- ٢١) تفعيل آليات التنوير
- ٢٢) الخروج إلى النهار
- ٢٣) خبرات غائمة
- ٢٤) خبرة معاصرة
- ٢٥) مسارات التفكك وسعي المقاربة
- ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب
- ٢٧) لنعرفه
- ٢٨) لكنها تدور
- ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها
- ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
- ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
- ٣٢) أما بعد
النصف الأخير من القرن العشرين، والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، جملة مرتبكة ممتدة، شهدت محاولات لبعث الكنيسة كانت تشبه الحمل خارج الرحم، وكانت منظومة مدارس الأحد، وقد انطلقت من منطلقات مشوشة وهجين، واحدة من الأسباب المؤثرة التي انتهت بنا إلى حالة الارتباك الحادثة الآن. وإن كانت في مجملها واحدة من الآليات التي شكلت حائط سميك داعمًا لبقاء الكنيسة.
لكن يبقى عنصر أكثر عراقة ورسوخًا، يمثل عصب الحياة للكنيسة والذي أبقاها على قيد الحياة حتى اللحظة؛ “الليتورجيا”، وفى قلبها “الإفخارستيا”. وقد اختزنت في ثناياها، إيمانها وترجمته في صلواتها وممارساتها طقوسًا وأصوامًا وعبادة يومية، تنطلق من “كلمة الله” وتنتهى إليها، وبقدر إدراك الكنيسة لعمق ليتورجيتها تكون قوتها، ففيها تدرك سر تدبير الخلاص، وسر التجسد، الذي فيه نلنا شركة لا تنقضي في الثالوث.
وظني أن ثمة مخاض يعتمل فيها وهو لن يفضى إلى ثورة أو تصحيح آني، لكنه ينبئ ببعث قادم وإن تأخر.
كانت أزمة دورة البعث الأولى، والتي تعرضنا لبعض من محطاتها قبلًا، هي نقطة الانطلاق، والتي كانت تعانى من غياب المرجعيات الآبائية التي لم تكن متاحة بالعربية، وعندما وجدتها جاءت معربة عن لغات وسيطة بيننا وبين اليونانية التي كتبت بها، ومن الطبيعي أن تأتى الترجمة في اللغة الوسيطة متأثرة بذهنية المترجم الأول وخلفياته، ومن الطبيعي أن تأتى الترجمة عنها إلى العربية ناقلة ذلك التأثر، ومثالنا ما يمكن أن تكشفه المقاربة بين ترجمة كتاب “تجسد الكلمة” للقديس أثناسيوس الرسولي، والتي ترجمها الأستاذ حافظ داود، القمص مرقس داود، في مستهل القرن العشرين، عن الإنجليزية وبين مثيلتها عن اليونانية لغة الكاتب التي كتب بها، وترجمها إلى العربية دكتور جوزيف موريس فلتس 2002.
كانت الساحة القبطية في النصف الثاني من القرن العشرين تشهد انتشار الكتب المترجمة عن مؤلفين غربيين، وكانت المكتبات الأرثوذكسية تتولى طباعتها وتوزيعها، لعل أشهرها مكتبة المحبة، التي تبنت ترجمة ونشر وتوزيع سلسلة كتب القس الإنجليكاني ماثيو هنري (متى هنري)، وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ف. ب. ماير، وقد أسهمت في تشكل ذهنية أجيال متتابعة في الكنيسة، بعضها حمل لواء التعليم في الكنيسة عبر منظومة اجتماعاتها وعبر صفوف مدارس الأحد، وبعضها صار طرفًا فاعلًا في مواجهات اليوم بين فرقاء الكنيسة.
ولا يمكن أن ندرك ونفهم جذور مواجهات اليوم، دون أن نقترب أكثر من حبرية الأنبا شنودة، أسقفًا وبطريركًا، وقد احتلت خمسة عقود متواصلة، وهو اقتراب محفوف بالمحاذير، في مناخ قبطي مثخن بالجراح، ومازالت ندوبه لم تندمل بعد، وبعض جروحه غائرة، يتحسب لكل إضاءة تقترب من تلك المرحلة، الكنيسة والرجل والوطن والفعل السياسي، وقد شهد الفعل السياسي تحالفات لا يمكن أن تكون بريئة بين صاحب القرار السياسي وبين جماعات الإسلام السياسي، في أيام الرئيس السادات وما يملكه من دهاء وخبرة العمل تحت الأرض، وخبرات الرجل الثاني الداهية الذي احتفظ بموقعه بالقرب من الرئيس عبد الناصر دون أن تطاله ما طال أقرانه الأقرب والأكثر حظوة وداله لدى ناصر، استبعادًا أو إقصاء أو حتى تصفية، مختلف عليها.
ذهب السادات بعد أن أصدر قراراته المفاجئة فى 5 سبتمبر 1981، والتي أربكت مصر في مجملها، كان أبرزها قرارات الاعتقالات التي تضم كل التيارات على تناقضها، فجمعت ما يمكن أن نحسبه رموز كل التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولأول مرة ـ على الأقل في التاريخ المعاصر ـ تمتد يد البطش إلى آباء أساقفة وقسوس، كان المجتمع المصري بجملته، قبل أن تغشاه رياح التطرف، يرى في مواقعهم سياجات تحميهم من الزج بهم خلف الأسوار، وكان قرار عزل البابا بحسب تعبير الأنبا غريغوريوس في كلمته أمام الرئيس السادات حين استدعاه للقصر الجمهوري ( الثلاثاء 15 سبتمبر 1981.) ضمن اللجنة الخماسية التي شكلها الرئيس ـ ضمن قراراته تلك “للقيام بالمهام البابوية”، كان القرار (*)
“ضربة على الرأس مؤلمة أشد الإيلام، لها دوي هائل على المستويين المحلي والعالمي. ولقد أثارت ردود فعل قوية.”
(موسوعة الأنبا غريغوريوس، الكتاب 40، السيرة الذاتية، الجزء الثالث؛ من اللجنة الخماسية حتى نياحته)
ويأتي رد السادات تعقيبًا على هذه الجملة
“حقاً كما تفضلتم إنها ضربة على الرأس، ولكنني كنت مضطراً إلى ذلك، إذ لم يكن ممكناً أن أصبر على الفتنة الطائفية التى استشرت وكادت مصر كلها أن تحترق بها، فلم يكن مفرِّ من عمل شئ لإنقاذ الدولة كلها مما كان مدبراً لها”
(موسوعة الأنبا غريغوريوس، الكتاب 40، السيرة الذاتية، الجزء الثالث؛ من اللجنة الخماسية حتى نياحته)
واستطرد الرئيس
“على أنني لم أمس وضعه الديني والكنسي، فأنا أعلم تقاليدكم، ولكنني استخدمت حقي كرئيس للدولة في إلغاء القرار الذي أصدرته فى سنة 1971 بتعيينه طبقاً للدستور”
(موسوعة الأنبا غريغوريوس، الكتاب 40، السيرة الذاتية، الجزء الثالث؛ من اللجنة الخماسية حتى نياحته)
ثم عقب بالقول
“أعلم أنه فى حالة غياب البطريرك يتولى قائمقام أعمال البطريرك، فأنا عينت لا شخصاً واحداً وإنما لجنة خماسية حتى تتولى كل الأشياء، لأنه يهمني أن لا تتعطل أعمال الكنيسة”
(موسوعة الأنبا غريغوريوس، الكتاب 40، السيرة الذاتية، الجزء الثالث؛ من اللجنة الخماسية حتى نياحته)
( للتعرف على المزيد راجع “موسوعة الأنبا غريغوريوس، إعداد الإكليريكي منير عطية إصدار جمعية الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي.)
قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بتاريخ 2 سبتمبر 1981، والذي يقضى في مادته الأولى بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 2 / 27 لسنة 1971 بشأن تعيين الأنبا شنودة بابا للإسكندرية وبطريكًا للكرازة المرقسية، بينما تنص مادته الثانية على تشكيل لجنة للقيام بالمهام البابوية من الأساقفة: الأنبا مكسيموس أسقف القليوبية، الأنبا صموئيل أسفف الخدمات العامة وكنائس المهجر، الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي والدراسات القبطية ومدير المعهد العالي للدراسات القبطية، الأنبا أثناسيوس أسقف بنى سويف والبهنسا، الأنبا يوأنس أسقف الغربية وسكرتير المجمع المقدس.
اللافت في هذا السياق ما يرد على لسان الأستاذ عدلي عبد الشهيد، المحامي القبطي المقرب من الرئيس السادات ووزير الهجرة فيما بعد، في حديثه في لقاء جمعه عقب الأزمة مع بعض القيادات القبطية، ينقلها الأنبا غريغوريوس في مذكراته، قال:
“إن جلسة المجمع المقدس وجلسة المجلس الملِّي العام نُقلا إلى الرئاسة بكل تفاصيلها، وعرف -الرئيس- ما قاله كل عضو فى المجمع والمجلس” ولم يذكر كيف انتقلت التفاصيل، هل من خلال أجهزة تنصت زُرعت بمقريهما، أم بواسطة شخوص تم استمالتهم أو ربما تجنيدهم؟!.
(عدلي عبد الشهيد، وزير الهجرة في وقت ﻻحق، موسوعة الأنبا غريغوريوس كتاب 40 ص 20)
يأتي الرئيس مبارك في هذه الأجواء التي تصاعد ارتباكها باغتيال السادات، ويبقى الحال بالنسبة لقداسة البابا على ما هو عليه، لسنوات ثلاث، حتى يصدر قرارًا جمهوريًا بعودة البابا إلى كرسيه، وبحسب رواية الأستاذ موريس صادق المحامي القبطي المقيم حاليًا بالولايات المتحدة، يقول:
استدعاني في وقتها -عقب الردود الغاضبة بالداخل ومن أقباط المهجر بالخارج- الدكتور رفعت المحجوب، وعدلي عبد الشهيد وكان وزير الهجره في ذلك الوقت، والدكتور عاطف صدقي، وقالوا لي أن سيادة الرئيس موافق علي عودة قداسة البابا إلي كرسيه البابوي، ولكن هناك شرط مطلوب من قداسة البابا. هذا الشرط هو أي أمر يخص الأقباط باعتباره الرئيس الروحي فقط، فليس له الحق أن يعترض لأن الأقباط هم مسئولية الحكومة والرئيس. فاعترضتُ علي هذا الكلام وكان معى ممدوح رمزي المحامي واعترض هو الأخر علي الشرط.
ولكن تم الاتصال بقداسة البابا، وقداسة البابا وافق علي هذا الشرط، وفي اليوم التالي سافر الوزير عدلي عبد الشهيد إلي دير وادي النطرون، ووقع قداسة البابا علي القرار وعلى وتحفظ رئاسة الجمهورية.
وصدر قرار رئيس الجمهورية ونصه:
رئيس الجمهورية بعد الاطلاع علي الدستور وعلي قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 1971 بتعيين بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازه المرقسية، وعلي قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بإلغاء قرار رئيس الجمهورية السابق ذكره.وبناء علي ما عرضه علينا وزير الداخلية قرر:1. يعاد تعيين الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازه المرقسية.2. علي وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار.3. صدر من رئاسة الجمهورية في 11 ربيع الثاني 1405 هـ ،3 يناير 1985م.
(“موريس صادق يكشف صفقة شنودة ومبارك عقب مقتل السادات”، تحقيق الصحفية: لوتس كيوان، جريدة صوت الأمة 24 / 10 / 2009.)
عاد البابا إلى كرسيه، لكن شرخًا عميقًا قد أصابه، فقد أدرك السادات ما تمثله أدوات الاتصال الجماهيري لقداسة البابا فتضمنت قراراته السبتمبرية منع اجتماعه الأسبوعي وعدم إصدار مجلة الكرازة، وكانت هناك تعليمات أمنية بمغادرة البابا لمقر كرسيه بالقاهرة قبيل إعلان تلك القرارات ليستقر خلف أسوار دير الأنبا بيشوي بصحراء وادي النطرون، لتتحول المنطقة المحيطة به إلى ثكنة أمنية تحول الدير إلى شبه معتقل. وتشهد سنوات الاعتقال تحولًا في قراءة الرجل للأمور، ووساطات لإنهاء “التحفظ” المسمى الذي تم ترويجه للاعتقال الفعلي، ويلجأ البابا للقضاء الإداري طعنًا على القرار، لكن المحكمة تنتهى إلى تأييد قرار العزل وإجراءات التحفظ.
كان التحفظ بسنواته الثلاث مرحلة فاصلة مؤثرة انعكست آثارها على ما بعدها، (1985 ـ 2012)، وتحصن البابا بالعديد من الأساقفة الشباب ليكونوا حائط صد في مواجهة التحديات التي أحاطته، ولم يلتفت إلى نصيحة السادات له في مرحلة المواجهات الباردة التي شهدتها سنوات ما قبل الصدام حين قال في واحدة من خطبه مشيرًا إلى دائرة الأساقفة المحيطة بالبابا “بَيّض لحاهم”. والسؤال هل دفع البابا فاتورة حراك هؤلاء الشباب بعد انفرادهم دون الشيوخ بدائرة المستشارين الثقاة؟!
ما بين أحلام نظير جيد وانطلاقات الأنبا شنودة في أسقفية التعليم وسنوات بابويته الأولى، وانفراده بالقرار، وتقلبات العلاقة مع السادات، وسنوات التحفظ العجاف، والعودة المشروطة للكرسي، كانت قضية التعليم تتراجع، وكان الأساقفة الشباب يحكمون غلق دائرة البابا، لتشهد السنوات العشر الأخيرة صراعات بينهم سعيًا لاحتلال المقعد المجاور لقلبه وأذنه، ويقفز الأنبا بيشوي إلى مقدمة المشهد، ويصبح العصا الغليظة في يد البابا، “لتأديب” قائمة ممتدة من الإكليروس، خاصة أولئك الذين يملكون منابر جماهيرية، لتشهد الكنيسة سلسلة من المحاكمات الكنسية يقودها هذا الأسقف، بغير قواعد قانونية محددة بل استنادًا إلى تقديراته الشخصية، وكانت إحالة ملف أحد الكهنة إليه تشبه إحالة أوراق متهم إلى فضيلة المفتي، توطئة لصدور حكم إعدام بحقه، (راجع مجلة مدارس الأحد سنوات 1992 ـ 1994 والتي تعرضت لملف المحاكمات الكنسية والعديد من الملفات الساخنة المتعلقة بتدبير الكنيسة).
ويقفز الأسقف خطوة فيترقى إلى رتبة المطران، ويحتل موقع سكرتير المجمع المقدس لخمس دورات متتالية منذ عودة البابا من منفاه وحتى نياحته، ويدفع بتلميذه الراهب القمص إرميا ـ من دير مار مينا بمريوط ـ إلى سكرتارية البابا، لمزاحمة الأنبا يوأنس السكرتير الأثير لدى البابا، وسرعان ما يرسم هذا القس أسقفًا عامًا ويثبت موقعه في السكرتارية، وتشكل العلاقة بينهما ـ المطران العتيد والأسقف الطموح. واحدة من مفاتيح فهم مرحلة ما بعد عودة البابا شنودة من التحفظ وحتى اللحظة، ويمثلون رأس حربة الحرس القديم، في مواجهة البابا تواضروس الثاني الذي جاء خلفًا للمتنيح قداسة البابا شنودة الثالث. ويدعمهم بعض من مطارنة وأساقفة وكتائب إلكترونية تحتشد في فضاء العالم الافتراضي، وبعضًا من المواقع التي تعمل لحسابهم. في مواجهة تيار الإحياء الآبائي، وينتج عنهم ما يغشانا من صراعات ومواجهات بين الفرقاء.
في هذا السياق يقفز الأنبا إرميا إلى إدارة المركز الثقافي القبطي الذي يتحول إلى غرفة عمليات وخلية نشطة يحتلها الغموض، ويسعى ليصبح واحدًا من مراكز صنع القرار وتوجيهه، ويمتد تواصله إلى مؤسسات خارج الكنيسة تثير الكثير من علامات الاستفهام، والتي سنحاول البحث عن إجاباتها في مقالنا القادم: “البابا تواضروس: طموحات ومتاريس”
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨