المقال رقم 5 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

ما يحدث بين ظهرانينا اليوم غير منبت الصلة بما تشكل ورُسم عبر القرنين الفائتين، والذي تبلور في النصف الأخير من القرن العشرين، وقد توقفنا قبلًا عند تجربتي جماعة و؛ النشأة والرؤية والصدام، وما آلت إليه كلا التجربتين، ومن يتوقف عندهما تتجمع عنده العديد من الأسئلة، لكنها تبقى مفتقرة لإجاباتها الحقيقية، ربما لأن من يملكون الإجابة قانعون بصمتهم، أو لأن الإجابات تضع أصحابها في مرمى نيران الفرقاء، أو لأن طيف منهم قد رحل بسلام عن عالمنا ومعه أسرار المرحلة. وليس من بين خياراتنا “ثقافة المذكرات” أو حتى تسجيل “شهادات على العصر”.

ولعل جيلي مازال يتذكر ذلك النفور الذي كان يحكم العلاقة بين الشمامسة و”بتوع” مدارس الأحد، وكان ال المحلى ينحاز في الغالب لإخوتنا الشمامسة، لكن الأمر تبدل إلى النقيض بعد أن جلست مدارس الأحد على ، في شخص قداسة ال، أحد أهم رموز الرعيل الأول. والذي نحت هذا التعبير في احتفاء الكلية الإكليريكية باختياره للموقع البطريركي.

ولم يقترب أحد من تقييم التجربة بجملتها، رغم مرور قرن كامل على ولادتها، ولم نشهد توثيقاً موضوعياً لسنوات القلق الممتدة من أربعينيات القرن العشرين وحتى إطلاله سبعينياته، والتي شهدت أحداثًا وتقلبات غاية في الأهمية والتأثير على الصعيدين الكنسي والعام، ومازلنا نعتمد على روايات قيادات مدارس الأحد، دون غيرها. ربما لأنها تسجلت على صفحات مجلة مدارس الأحد، في الفترة من 1948 وحتى 1954. ومؤخرًا تسجلت في سفر كبير صدر في احتفالية الكنيسة بمئوية مدارس الأحد.

اللافت أن ما استقر في الذهنية القبطية عن هذه الفترة “فساد الإدارة الكنسية”، وتم الترويج لهذا على مستويات متعددة وظهرت أصوات عديدة تطالب بالإصلاح، تراوحت بين حدة القول، ونموذجه “مجلة مدارس الأحد” وبين حدة الفعل، ونموذجه ما قامت به جماعة الأمة القبطية باختطاف ال، عشية الاحتفال بعيد الثورة، وإيداعه أحد أديرة الراهبات بمصر القديمة، وبعد تحريره بواسطة قوات الأمن وعودته لمقره بالبطريركية، يبادر “” بإيداعه دير “المحرق” بأسيوط، ويتعرض لأزمة صحية تعيده للقاهرة لكن ليس إلى كرسيه بل إلى المستشفى القبطي (21 يونيو 1956) ليرحل عن عالمنا بين جدران المستشفى في (13 نوفمبر 1956).

وتقفز أمامنا أسئلة عديدة : كيف اجتمع الفرقاء على الرجل؟ وما هي ملابسات تأسيس وحل جماعة الأمة القبطية (1952 ـ 1954)، وسر اقترابها من اللواء رئيس الجمهورية آنئذ، ودعوته لها للمشاركة بالرأي في وضع دستور 54؟، ثم انقلاب القيادة السياسية الجديدة عليها، إلى درجة تقديم قيادات الجماعة لمحاكمة عسكرية، بسبب المذكرة التي تقدموا بها إلى لجنة وضع الدستور؟ وهل لهذا علاقة بصراعات الأجنحة داخل قيادة ؟ وماذا عن توجه المجلة وتصعيد مدير تحريرها إلى رئاسة التحرير، بعد صدام الأستاذ مع توجه الثورة؟ وهل لهذا امتدادات تضعه على أبواب الدير طالبًا للرهبنة؟ وهل تقف الامتدادات ـ في اتجاه معاكس ـ وراء الاعتراض على ترشحه للكرسي البابوي (1957)؟

والأسئلة ممتدة، لكنها شائكة ومحيرة.

والسؤال الغائب الحاضر هل كان البابا يوساب ضعيفًا ومتهاونًا في إدارة الكنيسة؟ بحسب رصد المؤرخة الأستاذة أيريس حبيب المصري (قصة ، الكتاب السادس، جزء ب، ص 83) وتذكر فيه أنه كان لمجمع الكنيسة “مطالب إصلاحية” من هذا البطريرك ـ بحسب البيان الصادر عن اجتماعه (سبتمبر 54) ـ من أهمها (إبعاد حاشية غبطته وخادمه “مِلك جرجس”)، وبين شد وجذب ينتهى الأمر إلى استبعاد الحاشية وكف يد البطريرك عن إدارة شئون الكنيسة وإبعاده للدير ثم وفاته، كما اسلفنا!!.

على أن للمشهد جوانب أخرى فيما يتعلق بهذا البابا، ربما تجعلنا نعيد قراءة هذه المرحلة وما تواتر عنها، ومعها يظل السؤال الافتتاحي قائمًا كيف اجتمع الفرقاء على الرجل؟.

فهذا البابا كان عالمًا ذهب وهو بعد راهبًا شابًا إلى اليونان في بعثة دراسية امتدت لعامين فى جامعة أثينا، (1903 ـ 1905)، وعاد محملًا برؤية مستنيرة، انعكست على قراراته حين أُختير لقيادة الكنيسة، فيذكر عنه اهتمامه بالأديرة وسعيه لرفع مستوى الرهبنة، ودعمه لمدرسة الرهبان بحلوان، والتي كانت تُعِد وتؤهل الرهبان المرشحين للخدمة خارج أسوار الدير، على اختلاف درجات خدمتهم، واجتمع ب وانتهى معهم إلى قرار بنقل الكلية الإكليريكية من مقرها بمهمشة إلى المبنى الجديد بالأنبا رويس بالعباسية (1953) وكانوا قد اختلفوا حوله، داخل المجلس الملي: بين من يريدونه مدرسة للتمريض وبين من يرون تخصيصه لخدمات الكنيسة، فتُرك بلا استخدام، حتى أن وزارة التربية والتعليم رأت الاستيلاء عليه والاستفادة منه، الأمر الذي عجل باستدعاء البابا للمجلس وقراره المشار إليه، وافتتح معه القاعة اليوسابية، والتي بقيت على اسمها، حتى بداية السبعينيات، لتتغير إلى القاعة المرقسية، وافتتح المعهد العالي للدراسات القبطية (1954) (المرجع السابق ص 52 ـ 72).

وشهدت حبريته صدور العديد من الكتب والمجلات القبطية، وامتدت خدمته إلى جنوب أفريقيا وأثيوبيا والسودان ولبنان، وسعى لدى الدولة لمنح الأقباط من موظفي الحكومة أجازات رسمية في أعيادهم، ونجح في إقرار خمس أيام متفرقة إجازة لهم في مناسبات دينية مسيحية مختلفة، وإقرار السماح لهم بالتأخر ساعتين صباح كل يوم أحد لحضور القداس.

ويأتي تعيينه للقمص وكيلًا للبطريركية بالإسكندرية ودعمه له، في سياق اهتمامه بضبط الإدارة الكنسية هناك، وهى وقائع يرصدها الدكتور ماجد عزت إسرائيل (دكتور ماجد عزت باحث أكاديمي في الشأن القبطي حاصل على دكتوراه موضوعها :وادي النطرون في القرن التاسع عشر ـ كلية الآداب جامعة القاهرة 2008 م، واصدر عدة كتب منها كتاب : الأب متى المسكين الراهب المستنير، ويكتب مقالات دورية في العديد من الصحف والإصدارات الثقافية. في كتابه “الأب متى المسكين الراهب المستنير”، ويتميز الرصد باحتشاده بالوثائق المحفوظة بمكتبة ، وهى بدورها، إضافة إلى ما كتبه الدكتور في مجلة مدارس الأحد (يونيو 1955)، تدحض الكثير من المرويات التي تشوه صورة الرجلين، البابا يوساب والقمص متى المسكين.

  • هل خشى الفرقاء من نجاح هذا البطريرك في استنهاض الكنيسة، الأمر الذي يتعارض مع توجهات كل فريق بشكل ما؟
  • هل دراسته باليونان مثلت تحديًا للمتقدمين في المشهد الكنسي وقتها فدبت الغيرة بينهم منه وخشوا أن تعقد المقارنات بين الأطروحات الجديدة وبين ما يقولون به؟
  • مع تسليمنا بعلامات الاستفهام التي أحاطت بالحاشية، هل كانت كافية للتصعيد ضده وتكتل الفرقاء على هذا النحو؟

أسئلة لا أملك إجاباتها لكنها تلح علىَّ.

وقد دفعت إلى ذهني بفعل طيف من الأحداث الجارية اليوم والتي تتماس معها بقدر. والتي تبدو في شقها الظاهر أنها مواجهات فكرية وصراعات عقائدية، بينما خلف الأبواب أمور أكثر تعقيدًا وأكثر إيلامًا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٤) محاولات مبكرة للخروج[الجزء التالي] 🠼 ٦) أيقونات علمانية قبطية
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨