المقال رقم 1 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

شهدت ساحات التراشق الإلكتروني وبعض من “الميديا” مواجهات فكرية تدور حول الشئون الإيمانية المسيحية في باحة الأرثوذكسية تحديدًا، الأمر الذي أزعج وأقلق الكثيرين من المتابعين، خاصة وأنها تدور بين متقدمين في الكنيسة، لهم ثقلهم وتقديرهم ولا نملك أن نشكك في حسن نواياهم وحرصهم على سلامة الإيمان وسلامة الكنيسة.

على أن الأمر لا يمكن تناوله بعيدًا عن السياق العام والمناخ السائد والمتغيرات التي نعيشها والتي تؤثر بشكل فاعل على المشهد بجملته، في إطار الفكر، ولا يمكن إغفال ما جاءت به ثورة الاتصالات ومن ثم المعلومات، وخروجها عن السيطرة أو الحجب أو التوجيه. والتي تستدعى المزيد من القراءة المتبصرة والتحليل الموضوعي، والفحص الدقيق.

ولما كان الأمر متعلقًا بالكنيسة والشأن الإيماني فلا يصح أن نستدعى أدوات التحليل السياسي في تناوله، وعلينا أن ننتبه لمن يسعى لاختطاف المواجهات لتسوية حسابات عالقة، قديمة أو مستحدثة، في احتراب سياسي لا محل له.

وقد نكون بحاجة إلى فهم المسار التاريخي للكنيسة، والتي تعد واحدة من الكنائس الخمس الكبرى (أورشليم، روما، الإسكندرية، أنطاكية، ثم القسطنطينية) وكان لها باع طويل وإسهامات لاهوتية في توثيق وتقنين الإيمان المسيحي، والذي تبلور في وثيقة “قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني”، عبر المجامع المسكونية في قرون المسيحية الخمسة الأولى، حتى جاء بعد مصادمات (451 م)، وتداعياته المتلاحقة، لتشهد تحولًا ومصادمات من نوع مختلف، وصراعات محتدمة بينها وبين فرقاء العقيدة، ليأتي القرن السابع الذي يشهد الدخول العربي، لتجد نفسها إزاء مواجهات مختلفة، ومع القرن العاشر تتحول إلى “كنيسة أقلية”، وتجرى في نهر الكنيسة والوطن مياه كثيرة، وتواجه الكنيسة فترات تراجع مريرة، وهى تنتقل من اليونانية إلى القبطية إلى العربية (لسانًا)، ومع كل انتقال تسعى بجلد لإعادة بناء صرحها اللاهوتي باللغة الجديدة، وما يحتاجه هذا من سنوات ممتدة حتى تجيد النقل بأدوات اللغة الجديدة، في مناخات غير مواتية وعنيفة في أحيان كثيرة.

كان سر بقاءها في “تها” وهى منظومة عقائدها التي حفظتها في ممارساتها التعبدية الحياتية، التي تعرف بـ “الطقوس الكنسية”، وتأتى “ال” في مقدمتها، والتي تناقلتها حتى في أزمنة الضعف، في حرص وتدقيق، فطريين، ليشهد النصف الأخير من القرن التاسع عشر إرهاصات استعادة الوعى، خاصة مع قدوم البطريرك المستنير ال الرابع، الذي كان يملك رؤية واضحة، فاستقدم ثاني اكبر مطبعة في مصر، بعد “المطبعة الأميرية” التي جاء بها الوالي محمد على، وشرع في تأسيس سلسلة “مدارس الأقباط” المدنية، ويفتح أبوابها لكل المصريين، وليس فقط للأولاد بل وللبنات أيضًا ليسبق دعوة بأكثر من ثلاثة عقود.

وتواجه الكنيسة قادمًا من نوع جديد في أعطاف الاحتلال الإنجليزي، فتؤسس منظومة مع بواكير القرن العشرين، وتحاول جاهدة برؤية مستقبلية أن تبنى ذهنية الجيل الجديد، على قواعد مسيحية أرثودكسية، في لحظة تشهد تكامل وتوافق ال (البابا البطريرك ) والعلمانيين (الأستاذ )، لكنها كانت تعانى من نقص المراجع الأرثوذكسية المعربة، فاستعانت، بجوار النزر اليسير المتوفر لديها، بالمتاح في الكنائس الشقيقة، حتى تكتمل منظومة مراجعها، مع تأسيس حركة الترجمة، من اللغات الوسيطة، الإنجليزية تحديدًا، بينها وبين اليونانية، وكان فارسها الأستاذ ، (القمص مرقس داود فيما بعد)، وكان من ابرز ما ترجمه؛ كتاب للقديس البابا ، وال، لتأتى حركة التكريس مع منتصف القرن العشرين لتؤسس تيار الترجمة من اليونانية مباشرة، وتشهد الساحة الفكرية نقلة نوعية فاعلة وثرية، تضخ دماء جديدة في منظومة الفكر القبطي الأرثوذكسي.

1. ـ جزء من الأزمة المعاشة يعود إلى التواجه بين مدرستين إحداهما اعتمدت في منطلقاتها على المراجع المترجمة عن اللغات الحديثة، والأخرى تبنى رؤيتها على الكتب اليونانية، ويقف بينهما ما تعرفه علوم الترجمة من اختلافات دقيقة ومؤثرة، تحكمها بنية اللغة وأدواتها ومصطلحاتها ومعانيها، وزاد من تعميق المواجهة دخول جناح ثالث اعتمد في رؤيته على متشابهات تحملها مراجع غير أرثودكسية.

2. ـ وجزء منها يعود إلى طبيعة المناخ الذهني العربي الشعبوي السائد، وقد تسلل إلينا بحكم الثقافة واللغة والاحتكاك المعيشي، والذي يستثقل التعددية والتنوع، ويميل إلى “واحدية” الرأي، ويبنى تصوره أو قناعاته على كثير من الانطباع وقليل من الدراسة والبحث، وتغيب عنه في الغالب القواعد الموضوعية الحاكمة.

3. ـ وجزء ثالث منها هو الخلط بين العقيدة والرأي والتفسير، ولعله الأخطر، خاصة في منظومة تقليدية هيراركية، تعانى من موروث ثقيل مازال عالقًا بأجوائنا، في علاقة أصحاب الرأي بأصحاب القرار، وما زلنا نعيد إنتاج تجاربنا السلبية في هذا الأمر، على غرار ما حدث بين الباحث الموسوعي العلامة ، والبابا القديس . وما حدث بين البطريرك العالم والبطريرك البابا ثاوفيلس، الذي حرمه وأوصى بنفيه، وقد نكون بحاجة والأمر كذلك إلى استكمال المشهد باستنساخ ما قام به البطريرك اللاحق له القديس ، الذي رد لذهبي الفم اعتباره، بعد وفاته في منفاه، بل واعتمدته الكنيسة القبطية ضمن قائمة قديسيها ومعلميها التقاه.

وقبل أن نعرض جوانب الأزمة التي تغشانا الآن نعود فنشير إلى المتغير الذي فرض نفسه، ولا يمكن إغفاله، وأسهم بقدر وافر في تشكل الأزمة، وليس في تفجرها فقط، وهو العالم الافتراضي الذي انتجته الثورة الرقمية، فمن خلاله توافرت مئات وربما آلاف الأبحاث والكتب، التراثية والحديثة، بل والدراسات النقدية التي تتناول الأمور الخلافية وتعيد فحص جذورها، بل وتعيد فحص إشكاليات وتاريخ الانشقاق، وتحتاج إلى تعامل جاد وموضوعي لا يتوقف عند تخوم الرفض والإدانة وربما التحريم، بل يتجاوز هذا ويعبر عليه دون التفات، لنجد انفسنا أمام وجوبية تأسيس مركز أبحاث أكاديمي يضم المتخصصين والباحثين عند أعلى نقطة في الكنيسة، يعكف على وضع دستور يحدد ويقنن ويوثق:

  • الإطار العقائدي للكنيسة ومصادره المعتمدة لديها.
  • أبعاد وفلسفة الطقوس الكنسية وتحقيقها على المصادر الآبائية السليمة.
  • توثيق القوانين الكنسية التي تقبلها الكنيسة.
  • تقنين وتوثيق العلاقات البينية داخل الكنيسة.
  • تقنين العلاقات (الكنسية ـ الكنسية) بين الكنيسة القبطية والكنائس والمذاهب المسيحية الأخرى.
  • تحديد مسارات العلاقات مع الأديان الأخرى ومع المجتمع العام.

لكن ماذا عن الأزمة القائمة الآن؟ هذا ما سنعرضه في المقال القادم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء التالي] 🠼 ٢) نؤمن
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨