المقال رقم 12 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية
بين الثقافة والسياسة والكنيسة تشكلت ذهنية القادم الجديد للكرسي المرقسي، ربما بنفس الترتيب، فيما يشهد المجال العام تغيرًا دراماتيكيًا، برحيل الرئيس جمال  وقدوم ال، وعلى الرغم من كونهما جاءا معًا عبر حركة ضباط يوليو إلا أنهما كانا كذراعي المقص، أو طرفي نقيض، نحن نقف هنا عند أعتاب سبعينيات القرن المنصرم، ونشهد واحدة من متلازمة ، إذ يغيب الموت ال السادس بعد أن غيب الرئيس عبد الناصر قبله، بفارق خمس أشهر وبضعة أيام، كانت إشكالية البابا والرئيس الجديدين تشابههما في البحث عن مخرج من وهج سلفيهما، كل في مجاله، وفي امتلاكهما لشغف الزعامة، وربما يفسر لنا هذا لماذا تصادما، وذهبا معًا إلى نهايات درامية في علاقتيهما، العزل والاعتقال للأول، والاغتيال للثاني.

في تتبعنا السيرة الذاتية لل يقفز سؤال مازال يبحث عن إجابة، في الأقل بالنسبة لي، فالبدايات كانت تشير إلى شاب يتطلع إلى تصويب مسار الكنيسة لتعود إلى ما كانت عليه من تكامل بين ال والشعب، حسب المفهوم الاصطلاحي الكنسي، وهو تكامل تأسس في كنيسة الرسل حسب رصد سفر الأعمال الذي يؤرخ لسنوات الكنيسة الأولى، بعد صعود السيد المسيح، وحلول الروح القدس في يوم الخمسين، وانطلاق الكرازة لكل العالم.

فإذا بنا أمام منعطف في توجهاته يأخذنا إلى انفراد الإكليروس بإدارة الكنيسة. ويُحكى أنه لم يسترح في صباه وبواكير شبابه إلى منظر الكاهن وهو يسير في إثر ناظر الكنيسة العلماني حاملًا له حقيبته، وقتها كان الناظر يختاره الأسقف من وجهاء القرية أو المدينة، لأسباب اقتصادية، فهو في الغالب يتكفل باحتياجات الكنيسة أو أغلبها، في ذاك الزمان، وفي واحدة من لقاءات البابا قال إنه لن يسمح بعودة ذلك المنظر، ولن يعود الكاهن تابعًا للعلماني، وإذا كان ذاك المشهد وهذا التوجه قد حدثا فنحن نرفع القبعة للبابا شنودة لتصحيحه هذه التبعية ورده لاعتبار الأب الكاهن.

تجمعت عدة عوامل لتجعل من البابا الجديد محل التفاف الرعية، فقد سبق وقدم أوراق اعتماده للجماهير الغفيرة، عبر لقائه الأسبوعي، وقد تحولت عظاته إلى شرائط كاسيت ليدخل كل بيت، وقد طبقت شهرته الآفاق، وكثيرها حملته صفحات كتيبات صغيرة كان يتلقفها الشباب بشغف.

ولفت أنظار الشارع المصري وأجهزة الدولة، وهو بعد أسقفًا للتعليم حين ألقى محاضرة في نقابة الصحفيين، “إسرائيل في رأى المسيحية”، 26 / 6 / 1966، حتى إن مصلحة الاستعلامات طبعتها وترجمتها إلى عدة لغات ووزعتها على البعثات الدبلوماسية في العالم. وكان الفارس المجهول الذي رتب هذا اللقاء، الصحفي: .

وداعب حلم الأقباط التاريخي المتطلع إلى تقارب كنسي مسكوني، يفضى إلى وصل ما انقطع، فيذهب إلى ال، ويجرى مباحثات أسفرت عن وثيقة تاريخية تعلن مساحة التوافقات بين الكنيستين، ورغم أنها خطوة كبيرة في مسار الوحدة ودعمت جهود سبقتها في طريق طويل للحوار المسكوني، إلا أنها قوبلت برفض صارم من شيوخ المجمع، خاصة رؤساء الأديرة الذين تتلمذ عليهم، لينتهى الأمر إلى التعتيم على الوثيقة، وعدم تفعيلها.

وقد رصد الباحث الإكليريكي كيرلس بشرى، ماجستير اللاهوت الأرثوذكسي من جامعة فيينا، مسار الحوارات المسكونية، التي بدأت إرهاصاتها الجادة في النصف الأول من القرن العشرين، في بحثه: “ملخص تاريخ الحوار اللاهوتي بين الكنيسة الأرثوذكسية و الشرقية القديمة في العصر الحديث” وصدر في أكتوبر 2019، ومتوفر بصيغة PDF على الإنترنت.

لم يخرج البابا شنودة عن الأعراف البابوية التي يحرص عليها أسلافه من الآباء البطاركة، وفي مقدمتها دعم برسامات جديدة من الرهبان الموالين له، والمؤمنين برؤاه ومنهجه، وكانت فرصته أكبر، فغالبية الآباء وقتها كانوا من الشيوخ وكانت إيبارشياتهم مترامية الأطراف وبعضها يضم أكثر من محافظة، ومع رحيل أحدهم يتم تقسيم إيبارشيته إلى عدة إيبارشيات وكان الشعار وقتها، إيبارشية صغيرة لرعاية أفضل، إضافة للتوسع في رسامة المزيد من الأساقفة العموم بلا مهام محددة، كانت معايير الاختيار توافر الولاء والطاعة، وكانت السمة الغالبة “صغر السن”. ومن ثم الخبرة.

اللافت أن اختيارات البابا الجديد عند مستوى الكهنة القسوس انقسمت إلى اتجاهين؛ الأول خدام من خريجي الجامعات بغض النظر عن دراساتهم اللاهوتية النظامية، وبعضهم يشغل وظائف متقدمة في الدولاب الحكومي وفى مجتمع الأعمال والمهن ذات الثقل، والثاني خريجي الإكليريكية من القسم المسائي [الجامعي]، أما خريجي القسم النهاري [النظامي] فالمتاح أمامهم كنائس إيبارشيات الصعيد والدلتا، وكثيرهم لا يجدون لأنفسهم مكانًا. خاصة بعد ظهور إكليريكيات موازية هناك تغذي احتياجات تلك المناطق. ومن يقترب من تلك الكيانات يكتشف أنها تفتقر لكل المقومات العلمية الأكاديمية المفترض توافرها لتكون معهدًا علميًا، فهي أقرب إلى فصول التقوية في أفضلها.

لم تنتبه الكنيسة للتجريف الذي لحق بالمكون القبطي في المجتمع العام، وكذلك الذي لحق بالأديرة، من جرّاءِ تلك الاختيارات، وتختفى التلمذة وينزوى شيوخ الرهبان في ركن قصي، ومعها تتراجع الأديرة وتخايلها مشروعاتها الزراعية وملحقاتها وتبعاتها وهمومها، وهي الترمومتر الذي يحدد حرارة الخدمة الكنسية وجدواها.

كانت خريطة الهيراركية الإكليروسية تتغير وتمد سلطانها إلى دوائر خدمة العلمانيين، الذين أزيحوا عن دوائر الوعظ في القداسات، وتأسيًا بنهج البابا الجديد صار لكل أسقف اجتماعه الأسبوعي العام حتى لو كان يفتقر إلى موهبة الوعظ، في استنساخ للنموذج البابوي.

كان إقصاء العلمانيون ممنهجًا ربما لأن عندهم مساحة من حرية الحركة لا تتوفر للإكليروس المحكوم بقواعد هيراركية صارمة، ومن ثم لا يمكن السيطرة على توجههم، وظهرت إشكالية توصيف رتبة الشموسية، هل يحسبون من العلمانيين أم تحسب رتبة كهنوتية؟

وبدأت الكنيسة تشهد ظاهرة التمييز بين الإكليروس الرهباني والإكليروس المدني أو العلماني كما يسمى في داخل الكنيسة. وبقيت الأفضلية للإكليروس الرهباني.

ولم يتغير موقف البابا الجديد، وقد طال به الأمد في موقعه، في إدارة مِلَفّ عن سابقيه، وقد ساندته خبرته في العمل العام قبل الرهبنة في هذا الأمر، فلم يجمد المجلس ولم يصطدم به، لكنه لجأ إلى وضع قائمة تضم أهل الثقة وأبناء الطاعة والباحثون عن البركة، وطرحها على الناخبين، بتنبيه من كهنة الكنائس التي اختيرت كمقار اقتراع، باختيار تلك القائمة حتى لا يدخل المجلس من يعوق إصلاحات البابا، وتتكون جمعية الناخبين -وفق لائحة المجلس- بأغرب طريقة، إذ إنها تتشكل مجددًا في كل مرة يتم فيها الدعوة لانتخاب المجلس، فيتقدم كل من يريد أن يكون ناخبًا إلى مراكز تلقى طلبات التسجيل، وفق الشروط المحددة في اللائحة، وينتهى أمرهم بإجراء الانتخابات، ليعود التسجيل مجددًا مع انتهاء مدة المجلس والدعوة لانتخابات جديدة. لنصبح أمام مجلس وجهاء، سبق ونزعت عنه جل صلاحياته بقرارات من الدولة في دوائر الفصل في قضايا الأحوال الشخصية، ونزعت منه إدارة المدارس والمستشفيات والأراضي الزراعية بقرارات المصادرة والتأميم ال.

ورغم أن الأسقف والبابا متساويان في الدرجة، وأن الترتيب ينحصر في دائرة الإدارة والتنسيق، فالبابا في أدبيات الكنيسة لقبه أسقف المدينة العظمى الإسكندرية، ويحسب المتقدم في الأساقفة، أو المتقدم بين إخوة، شأنه شأن أساقفة الكراسي الخمسة (العظمى)، روما، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكيَة والقدس. فإنه نتيجة عوامل عدّة يتقدمها حُنْكَة الاختيار ومعاييره التي وضعت وقتها، وشخصية البابا تحول كثير من أعضاء المجمع -وقتها- إلى سكرتارية منفذين لقرارات قداسة البابا. وشهدت الكنيسة أكثر من حالة تم إبعاد الأسقف فيها من إيبارشيته إلى ديره. وكان فارس الإبعاد أسقف المحاكمات الأشهر.

كان هناك تيار يغذى النزعة القومية بطريقة خاطئة لدى شباب الأقباط في مِلَفّ الخلاف العقيدي التاريخي بين العائلتين الأرثوذكسيتين، في إعادة إحياء لأجواء مجمع (351م)، ويمد الخلاف إلى العلاقة ب، على نفس الأرضية، فيما يورد الباحث الإكليريكي كيرلس بشرى في مستهل دراسته المشار إليها قبلًا، مقالًا للأرشيدياكون الدكتور وهيب عطا الله [الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي لاحقًا] بعنوان “تعليم وإخوتها الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة فيما يختص ب”، وينوه أنها كانت كلمة ألقاها كاتبها ممثلًا لوجهة نظر كنيسة الإسكندرية في “المؤتمر العالمي” الذي انعقد بمدينة “القدس القديمة” في المدة من 12 إلى 15 أبريل 1959. وفيها ينتهى إلى أن الخلاف حول طبيعة المسيح بين الكنائس الخلقيدونية وغير الخلقيدونية هو “خلاف فلسفي صرف”، ويورد نص ما قاله:

إني أجرؤ على أن أقرر أن الخلاف بين الكاثوليك ومن يقول بقولهم من أصحاب الطبيعتين كال وبعض الأرثوذكس الذين يعترفون بمجمع خلقيدونية من جانب، وبين القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح وممن لا يؤمنون بقانونية مجمع خلقيدونية من جانب أخر ـ أقول إن الخلاف بين هؤلاء وأولئك خلاف فلسفي صرف يقوم على أساس التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به عن الاتحاد الكائن بين لاهوت السيد المسيح وناسوته.

(أرشيدياكون وهيب عطا الله، الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي لاحقًا)

ويواصل الباحث: وبعد أن شرح الدكتور وهيب عطا الله إيمان الكنيسة غير الخلقيدونية حول طبيعة المسيح، أكد أن الاتحاد بين الطبيعتين هو سرّ من الأسرار الإلهية لا يمكن استيعابه… أنه سر من الأسرار الإلهية، لا يمكن أن نفهمه أو نعيه أو نحتويه في عقولنا، من هنا سُميّ في الاصطلاح الكنسي بسر التجسد الإلهي، فنحن نؤمن بنوع من الاتحاد يفوق كل فهم بشرى وكل تصور.

اللافت أن يعيد الدكتور وهيب عطا الله نشر هذا المقال عام 1961، في كتاب: “تعليم كنيسة الإسكندرية فيما يخص طبيعة السيد المسيح”، الصادر ضمن سلسلة المباحث اللاهوتية والعقائدية، منشورات كلية البابا كيرلس اللاهوتية.

ولم يوجه أحد للدكتور وقتها تهمة الهرطقة، التي بدأت تتردد في أروقة الكنيسة فيما بعد وصارت تتعقب كل من يطرح تأويلًا مختلفًا عما يراه من يديرون دفة الكنيسة وقتها، ومازال مريديهم يوجهونها لمن يختلفون معهم.

أزمة الكنيسة في ظني هي ما حدث من إبعاد لقائمة ممتدة من المفكرين اللاهوتيين الأكاديميين تحت وابل من النيران الميدانية الصاخبة عبر شبكات العالم الافتراضي استغلالًا لحالة الانقطاع المعرفي اللاهوتي وإحلال التعليم الغيبي الأسطوري محل تعاليم الآباء.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 [١١] من أنت أبي الأسقف؟[الجزء التالي] 🠼 [١٣] تحالفات ومصادمات
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨