المقال رقم 8 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية
حين كان علمانيًا كان سعيه إعادة الاعتبار للدور العلماني في الكنيسة، وتكامله مع دور ال، وآيتنا حدث الدفع باسم معلمه "" في معترك رسامة مطران للجيزة، وكانت مصادمة استدعت فيها الكنيسة الشرطة في حفل رسامة راهب لهذا الموقع حين صرخ "تجمع علمانيي " مقاطعين طقس الرسامة: غير مستحق … غير مستحق، وتم إخراجهم خارج المحفل، ومن يراجع مقالات مجلة "مدارس الأحد" وقتها، وكان صاحبنًا مديرًا ثم لاحقًا رئيسًا لتحريرها، يلحظ احتشادها بما يؤكد ويوثق ويقنن هذا التوجه بأسانيد تاريخية وتقليدية، وحين صار بطريركًا تبنى الموقف المستقر بإقصاء العلمانيين، وكانت حججه في الحالتين حاضرة، وفى كل مرة يتجه فيها إلى رسامة أحد العلمانيين من دوائر رفاقه يصر على دخوله الدير ليصير راهبًا ولو لأيام أو شهور توطئة لرسامته أسقفًا.

وفى هذا السياق نتوقف عند شخصين فقد نجد عندهما ما يفيد في فهم شخصية من أدار تلك المرحلة، الأول المهندس “ نقولا” الذي رسم أسقفًا لدمياط ورئيسًا لدير القديسة دميانة ببرارى بلقاس، أنبا بيشوي، ترهب في 16 فبراير 1969 باسم الراهب توما السرياني، وتمت رسامته أسقفًا في 24 سبتمبر 1972، [رهبنة ديرية نحو أربع سنوات] وتولى سكرتارية في الفترة من 1985 [فترة عودة ال من الإقامة الجبرية بعد مصادمة وقرارات السادات التعسفية في 5 سبتمبر 1981]، وحتى 2012 عقب رحيل البابا إلى الأخدار السماوية.

والثاني الأستاذ “كمال حبيب” الذي اختار التكريس والخدمة بين الشباب، وكان رائدًا في خدمته، ورسم أسقفًا لإيبارشية ملوي، باسم أنبا بيمن، ترهب في 23 يونيو 1972 باسم الراهب ، وتمت رسامته أسقفًا عامًا في 22 يونيو 1975، ثم تم تجليسه أسقفًا لإيبارشية ملوي في 13 يونيو 1976 [رهبنة ديرية ثلاث سنوات].

كان البابا البطريرك يعبر لحظة قاسية وهو يشهد دولة بكل أجهزتها وتياراتها تناصبه العداء، بشكل سافر في عهد ال، وفى تصاعد متواتر بلغ ذروته في 5 سبتمبر 1981، بصدور قرار سحب اعتراف الدولة به كبطريرك واعتقاله وتحديد إقامته في بوادي النطرون، ومصادرة الترخيص بإصدار ، وإلغاء الاجتماع الأسبوعي له بطبيعة الحال، ومنع الزيارات إلى ذلك الدير لإحكام التضييق عليه.

ولم يتغير الأمر في عهد ال، فقد بقى الوضع على ما هو عليه، ولكن من خلال ما يشبه الحرب الباردة، كانت الدولة وأجهزتها في العهدين تحاول أن تكسر شموخه، وتسعى لأن تملى عليه شروطها، فيما الكنيسة تعانى تربصات وأفعال لا تقل عنفًا من نفس الجهات، التي أطلقت يد الجماعات المتطرفة لتعيث في الوطن إرهابًا وتمزيقًا، وكان الأقباط وكنيستهم الذبيحة التي اتفق الفرقاء على تقديمها على مذبح السلطة، وعقدوا صلحهم فيما بينهم، بينما نيران المذبح تلتهم الذبيحة، فيتنسمونها بخورًا يدغدغ أحلامهم، التاريخية والآنية.

شيء ما انكسر داخل الرجل… كان طرفًا في معركة سياسية اقتحمها ولم يكن يمتلك أدواتها، ولم يدرك أنها تختلف عن معاركه داخل الكنيسة.

ومن يقترب من المشهد الكنسي يضع يده على تطورات إدارة البابا البطريرك له، من بداية حبريته، ثم تصاعد المواجهة مع الدولة والجماعات المتطرفة، ثم مرحلة العزل والاعتقال [التحفظ]، ثم عودته إلى مقر كرسيه، كان انفراده بالقرار الباب الذي أوصد عليه وجعله يقف منفردًا في مواجهة طوفان الأنواء، فقد دجن ، وأعاد هيكلة مجمعه ليسوده أهل الثقة المفتقرين في أغلبهم للقدرة على المواجهة، وأبعد كل من يخالفه الرأي من أهل الخبرة وأحال اختلافهم إلى ساحة العقيدة ليضمن تجييش العامة، فكانت اللحظة سانحة لتصطاده القوى المتربصة به.

لم يكن تصعيد مطران دمياط، الأنبا بيشوي، إلى موقع سكرتير مجمع الأساقفة (1985 ـ 2012) مجرد استحسان، بل جاء في هذه المرحلة المنكسرة ليصير العصا الغليظة في يد البابا البطريرك، في مواجهة من يُراد التخلص منه، وفى دعم نفوذ البابا، لتشهد الكنيسة في تلك الفترة أكبر حملة محاكمات [تطهير] في صفوف الأساقفة والكهنة والخدام العلمانيين أيضًا، وكانت التهم التي تحاصر المستهدفين تتشابه مع نظيرتها في الأنظمة السياسية المستبدة؛ الانحراف العقيدي، الفساد المالي، الفساد الأخلاقي، وهى ثلاثية تصادف هوى عند العامة.

كان التلويح بإحالة أوراق شخص لنيافة مطران المحاكمات الكنسية، كفيلًا بإرهابه، وضمان خضوعه، وغنى عن البيان أن كثيرين تصدوا لهذا الأمر وبينوا افتقار تلك المحاكمات للضوابط القانونية التي توفر لها العدالة وتضمن للمحال إليها حقوقه الأساسية، فلا علنية ولا حق الدفاع بشخصه أو بانتداب محامي والأحكام نهائية غير قابلة للطعن، والقاضي هو نفسه الادعاء والجلاد. فاستكان الباقون وقد أدركتهم الحكمة من مشهد الرؤوس الطائرة.

كان الأستاذ “كمال حبيب” من الرعيل الأول من المكرسين، وكان يرى في التكريس طريقًا عمليًا لخدمة الكنيسة وأجيالها الواعدة، وتبدأ حركة التكريس المنتظمة مع حلول عام 1958، باتفاق نفر من العلمانيين على تأسيس “” بأحد أحياء القاهرة “حدائق القبة” ثم ينتقلون به بعد عام إلى الضاحية الهادئة وقتها، حلوان، وتنطلق منه رسالة جديدة تسعى للشباب تقدم لهم قراءة ميسرة في كنيسة الآباء وتخرج من كنوزهم ما احتفظت به خزائن المخطوطات اليونانية والقبطية، في كتيبات صغيرة. ثم تعود مجددًا إلى حدائق القبة، بعد أن اجتذبت الرهبنة ثلاثة من أعمدتها الأربعة.

كانت حركة التكريس تؤمن بأن إعادة بناء ما تهدم يبدأ فكرًا، لذلك كان عنوانهم “بيت التكريس لخدمة الكرازة”، وطفقوا يترجمون كتابات الآباء؛ آباء ما قبل ، وآباء مجمع نيقية، وآباء ما بعد نيقية، عن اللغات الحية، وينضم إليهم أحد أعمدة اللغة اليونانية الأستاذ عبد السيد، للبدء في تعليمها لأعضاء بيت التكريس ومريديه، كان هو الأب الروحي لهذه المجموعة ولبيت التكريس.

لم ترحب الرئاسة الكنسية، آنذاك، بتجربة بيت التكريس، في سياق المواجهة المتوارثة بين الإكليروس والعلمانيين، والتي تفجرت مع أول تشكيل للمجلس الملي (1874م). واستمر التحريض على بيت التكريس من دوائر القيادة الكنيسة ومن خارجها، فيغلق البيت أبوابه وتقصد قياداته الدير للرهبنة، بينما يتمسك الدكتور “”، ببقائه علمانيًا وبمواصلة البيت لرسالته، فيعود أدراجه إلى مقره القديم بحدائق القبة ليبدأ مرحلة جديدة، وينأى بنفسه وبخدمته وبالبيت، بجَلَد وإصرار، عن صراعات تلك الفترة، ولا يشتبك في أية معارك، متسلحًا بالصمت المطبق، فقد أدرك مبكرًا أهمية رسالة التكريس التي نذر نفسه لها.

يبدو أن الكنيسة متمثلة في مجمعها لم تسترح لوجود مكرسين لهم ثقلهم في فضاء التعليم الكنسي، حتى لا يصيروا كيانًا مزاحمًا للرهبنة التقليدية، في الاختيار لمواقع الأسقفية، وكان الأستاذ “كمال حبيب” خادمًا مثاليًا يجمع بين العفة والنقاء والعلم والقدرة على إقناع الشباب والتحاور معهم، ولم يترك لمتعقبيه فرصة لتشويهه أو فض المتحلقين حوله في محاضراته الثرية، فكان الالتفاف لإقناعه بقبول الأسقفية لتعم الفائدة من علمه ورؤاه، وكان المتوقع أن تسند إليه أسقفية التعليم، فتواصل دورها الذي اطلقه اسقفها المؤسس، أو إنشاء أسقفية للثقافة تتجاوز إشكالية وجود اسقف التعليم المؤسس، وتسند إليها مهام نشر الثقافة القبطية، لكن الذي حدث تسكين الأسقف الجديد في إيبارشية ملوي، لتستغرقه همومها ومشاكلها، وتبتلعه دوامة لم تكن له ولم يكن لها، وتبقى قمة التعليم بلا مزاحمة.

تشهد الكنيسة بامتداد أربع عقود سعيًا حثيثًا لرهبنة الفضاء العام للكنيسة وتنامى اختلالات الأديرة، وهو ما سنتوقف عنده لاحقًا في محاولتنا فهم حالة الكنيسة المعاصرة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 [٧] إعادة تشكيل المنظومة[الجزء التالي] 🠼 [۹] زحف الرهبنة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨