المقال رقم 9 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية
الخطوط الأولى للمشهد الذي نقترب منه تشكلت مع قدوم البابا كيرلس السادس، في لحظة مرتبكة على المستويين الخاص والعام، أدرك البابا أن أزمة الكنيسة في تراجع الوعى الجمعي بالليتورجيا، المخزون اللاهوتي المؤسس لحياة الكنيسة والحاوي لإيمانها، والموقّع على السنة ال بترتيب بديع، وقد تحولت في المشهد المُعاش، وقت مجيئه إلى موقع البابوية، إلى ممارسات رتيبة تؤَدىَ وكأنها فروض تطلب لذاتها، نؤجر عليها أو ندان، كانت خبرته تتجاوز مفهوم الفروض إلى براح المعايشة والامتلاء.

كان المذبح هو مكان اللقاء اليومي له مع الله، وفيه يضع أمامه كل ما يثقل كاهله من متاعب وطلبات وما حُمِّل به من احتياجات الرعية، ويغادره ومعه إجابات وتعزيات الملء، التي يراها من يلتقيه تنويعات على الشفافية، استدعى هذا أن يعيد الاهتمام بالصلوات الليتورجية، القداس، والتسبحة، وعادت صلوات الأجبيّة إلى موقعها، وبدأت روح جديدة تنعش جسد الكنيسة، واستدعى نشطاء الشباب من الرهبان ودفع بهم في مواقع الأسقفية فيما عرف بالأسقفيات العامة، التي تقوم ـوقتهاـ على خدمة عامة دون أن يكون لها رعية محددة أو حدود جغرافية محددة، بعد نحو ثلاث سنوات من حبريته (1962)، أسقفية التعليم وأسندت إلى ال، وأسقفية الخدمات والمهجر وأسندت إلى الأنبا صموئيل، ثم بعد سنوات قليلة (1967) يثلثهما بأسقفية الدراسات اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي وتسند للأنبا غريغوريوس.

التقطت قرون استشعار الشارع القبطي إشارات البعث الجديد، التي تولدت من حَراك الشباب الجامعي المباغت باتجاه الأديرة طلبًا للرهبنة، باختلاف مآربهم وتطلعاتهم، وقداسات البابا الجديد اليومية، واهتمامه بتنبيه الذهن القبطي لأهمية الزخم الليتورجي القبطي وتطبيقاته اليومية، القداس صباحًا والتسبحة ليلًا، في تقليد أحياه وانتقل منه إلى كثير من الكنائس في الأحياء والقرى المصرية. وهو أمر لازمه منذ تحرك قلبه تجاه الرهبنة، التي عمقت توجهه النسكي.

وفي أمور كثيرة نستطيع أن نكتشف تأثير الرهبنة في حياته وعمق اختبارات الوحدة في داخله. لذلك أحترم كل َمن حوله هذا المنهج النسكي الذي عاش به أبونا مينا، وقبلوه وتعاملوا معه على هذا الأساس“.

(الباحث والمؤرخ “أمير نصر” في كتابه: قراءة في حياة أبونا مينا البراموسي ـ البابا كيرلس السادس)

وعلى الرغم من هذه العلاقة الوثيقة ـوربما بسببهاـ نرصد أنه أصدر قرارًا يقضى بعودة الرهبان المقيمين خارج أديرتهم لغير سبب خدمي أو علاجي، إلى أديرتهم، في غضون مدة حددها القرار وإلا فينتظرهم قرار بفصلهم من الرهبنة، واللافت أن هذا القرار يتكرر مع كل بطريرك قبل وبعد البابا كيرلس، وقد تحتاج هذه الظاهرة لدراسة وحلول موضوعية وعملية.

كان من تداعيات موجات التفاعل مع إشارات البعث هذه أن انتعشت حركة الرهبنة من جرّاءِ إقبال الشباب على طرق أبواب الأديرة طلبًا لها، في تواز مع زيادة وانتعاش حركة زيارة الأديرة من الأسر القبطية طلبًا للبركة أو سعيًا لاستجمام روحي ونفسى فيما عرف بالخلوات الروحية، وقد زادت وتيرة الزيارات مع شق الدولة للكثير من الطرق الصحراوية لأغراض التنمية، ومنها ما يمر بالقرب من الأديرة، ولنعرف كيف كان الحال مختلفًا وشاقًا حين قصد الشاب الرهبنة (1927) ـالبابا كيرلس السادس فيما بعدـ نقرأ ما كتبه هو في مذكراته في المرجع السابق الإشارة إليه.

يكتب أبونا مينا عن يوم دخوله الدير وقبوله راهباً باسم مينا البراموسي فيقول: وكان يوم تركت العالم من أسعد أيام حياتي. فتوجهت ل الكائن ببرية شيهيت. ووصلنا إلى بلدة “الهوكاريّة” الساعة العاشرة مساءً، ومنها وصلنا الدير الساعة الثانية بعد منتصف الليل

(الباحث والمؤرخ “أمير نصر” في كتابه: قراءة في حياة أبونا مينا البراموسي ـ البابا كيرلس السادس)

“الهوكاريّة” فيما أظن قرية تقع في زمام وادي النطرون!!. بما يعنى أن الوصول إلى الدير عبر المدقات داخل وادي النطرون استغرق وقتها نحو أربع ساعات، فيما لا يستغرق الوصول اليوم من القاهرة أو للإسكندرية حتى باب الدير اليوم أكثر من ساعتين.

كان من نتائج تغير نوعية التركيبة الرهبانية بدخول خريجي الجامعات أن تغير مفهوم “عمل اليدين” المعروف في أدبيات الرهبنة وتراثها، نقلًا عن مؤسسها الأنبا أنطونيوس من القرن الرابع، وكان مشغولات الخوص، التي تشغل وقت الراهب وتوفر له الحد الأدنى من الدخل الذي يتماشى مع احتياجاته البسيطة، فصار الآن استصلاح الأراضي الصحراوية في محيط الدير، واستزراعها وفق أحدث الطرق، وما استتبعه من تصنيع زراعي فضلًا عن الثروة الحيوانية والداجنة، المترتبة على الاستصلاح، ما انعكس على ترتيب يوم الراهب وطبيعة العلاقات داخل الدير، ويحتاج إلى تغيير فكر إدارة الأمر بالطرق التقليدية، بما يوفر حماية للراهب والدير، قد يحتاج الأمر إلى إنشاء إدارة ديرية عامة مركزية تتولى الفصل بين الملكية والإدارة، تؤول إليها إيرادات تلك المشروعات وتتكفل بتوفير احتياجاتها، وتوزع صافى الدخل على كافة الأديرة كلٍ حسب احتياجه، وهو تصور يتفق مع قواعد الرهبنة ونذورها الأساسية وفى مقدمتها الترك وعدم القنية [الاقتناء] والتكافل وإنكار الذات.

ولعل الكنيسة تنتبه إلى أن الرهبنة منظومة عَلمانية، سواء في تأسيسها أو في تطورها، وكان كل دير يختار رئيسه من بين رهبانه، ولا يشترط أن يكون حاملاً لرتبة كهنوتية، وإن حملها فلا تتجاوز رتبة الإيغومانوس [القمص]، وكان هذا يسمح للدير بمرونة في تصويب أوضاعه حال تعرضه لأزمة مع رئيسه، وهو ما يتعذر حدوثه في حال إسناد إدارته لأسقف. وظني أنه كان توجها متعمدًا لربط الأديرة قسرًا برؤية القيادة الكنسية، بالمخالفة لطبيعة وفلسفة الحياة الديرية، التي بمقتضى التاريخ تضم تنويعات من التوجهات التدبيرية المتمايزة، بعيدًا عن دائرة العقائد التي تجمعهم فيما بينهم وتجمعهم مع الكنيسة، ومن هنا جاء الثراء الرهباني، ورسامة اسقف لكل دير يأتي بمنزلة تأميم الحياة الديرية وقولبتها.

اللافت في النصف الأخير من القرن العشرين والعقدين الذين انقضيا من القرن الحالي منح رهبان الدير رتبة كهنوتية وفق قوائم انتظار مرتبة سلفًا، بعد أن كان لكل الإسقيط كاهن واحد يعرف بقس الإسقيط، وكان الرهبان بالآلاف وقتها. وقد شهدنا في العقود الماضية كيف استخدمت هذه الآلية كأداة لمعاقبة الرهبان المغضوب عليهم داخل الأديرة من القيادة الكنسية عن طريق تخطيه في الرسامة في دوره، ومن النوادر التي شهدتها أن الراهب الذي يصر على بقاءه راهبًا دون أية رتبة كهنوتية، يحسبه إخوته أنه يعيش في “الجاهلية”، ويتندرون على غفلته حَسَبَ تصورهم!!

والأغرب حين يقرر راهب العودة إلى حياته المدنية تاركًا الرهبنة، وقد أدرك أنها ليست دعوته، يحسب خارجًا على الكنيسة وقد يقطع من شركتها، وقد تمتنع عن الموافقة على زواجه، فيضطر إلى الزواج خارجها، وظني أنه في عودته للحياة المدنية كان صادقًا مع نفسه، فما الرهبنة لمن اختارها إلا طريقًا ضمن بدائل للأبدية، وليس بالضرورة الطريق الأفضل في كل الأحوال، وقد نكون بحاجة إلى فتح الباب لمن يرى أن العودة للحياة المدنية أفضل دون أن تحاصره الملاحقات الكنسية، فالرهبنة في كل الأحوال ليست درجة أو ترتيب كهنوتي. والإصرار على بقاءه تحت لوائها سيحوله إلى لغم قيد الانفجار وعبئًا على الدير والكنيسة. وفتح باب الخروج الآمن من الرهبنة سيعيد لها سلامها واستقرارها، بعد أن تتخفف من حمل من قصدها بحثًا عن بديل للبطالة خارجها، ومن كان سعيه الوصول إلى موقع متقدم في هرم الكنيسة الخدمي، ومن قفز إلى دائرتها للتخلص من تجارِب حياتية فاشلة، ومن يعاني من ضغوطات نفسية وربما عقلية ظن أن علاجها سيجده في دروبها، ومن أرادها مجالًا للتربّح والتحقق، وهؤلاء قد يُختار من بينهم من يرسم أسقفًا فيصدِّر معاناته واختلالاته إلى رعيته وتدفع الكنيسة فاتورته.

ومن يقترب من المشهد الديري المُعاش يكتشف بقليل من الإنصات إلى شهادات من بقى من شيوخها اختفاء التلمذة وانقطاع التواصل الجيلي والأسباب متعددة، حتى لم يبق من الرهبنة إلا شكلها الخارجي، وصارت نذورها مهددة وربما مجروحة.

قدر من التصحيح يحمله الشروع في تدشين نسق “الرهبنة الخادمة”، التي اختبرتها كنائس تقليدية رسولية عريقة، بجوار الرهبنة التقليدية، وفك الارتباط بينها وبين الكهنوت.

ويبقى في هذا السياق ما شهدته الكنيسة من سعى حثيث لرهبنة الفضاء الاجتماعي للكنيسة خارج الأديرة، وهو ما سنقترب منه في سطور قادمة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 [۸] شظايا السياسة وصراعاتها[الجزء التالي] 🠼 [١٠] اختلالات الأديرة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨