المقال رقم 66 من 63 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة
«( تاريخ الإخوان والسلطةwp-content/uploads/2024/09/تاريخ-الإخوان-والسلطة.webp

مع غروب الشمس وحوالي الساعة السادسة مساءً، فُوجئ المتظاهرون بنزول دبابات الجيش المصري إلى شوارع القاهرة معلنة سيطرتها على المشهد، وسط تهليل وترحيب من المتظاهرين الذين بدأوا هتافهم الجيش والشعب أيد واحدة، وتسابق الجميع في تحيتهم وتقبيلهم بل والتقاط الصور بجانب الدبابات، نتيجةً للتقدير والمكانة التي يحظى بها الجيش لدى الشارع المصري منذ سنوات.

قامت المحطات التليفزيونية والتليفزيون الرسمي للبلاد بنقل أول صور مدرعات الجيش في شوارع القاهرة، ثم أعلن التليفزيون قرار رئيس الجمهورية باعتباره الحاكم العسكري للبلاد بفرض حظر التجوال في محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والسويس من السادسة مساءً إلى السابعة صباحًا اعتبارًا من اليوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير وحتى إشعار آخر، كما أصدر الحاكم العسكري قرارًا بأن تقوم القوات المسلحة بالتعاون مع جهاز الشرطة (الذي اختفى تمامًا) لتنفيذ هذا القرار والحفاظ على الأمن وتأمين المرافق العامة والممتلكات الخاصة، وتمركزت قوة من أربع دبابات من الحرس الجمهوري أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون لتأمينه.

عندما نزلت أولى مدرعات الجيش إلى الشارع عند بداية كوبري قصر النيل، سارع المتظاهرون بالهتاف للجيش والتعلق بالمدرعات، ظنًا منهم أن الجيش قد أتى ليحميهم من قوات الأمن المركزي. وبينما كان المتظاهرون في غمرة فرحتهم، فإذا بمدرعات الجيش تتجه صوب قوات الأمن المركزي، مما دفع المتظاهرين الذين تعلقوا بالمدرعة إلى النزول من على ظهرها فورًا والعودة مسرعين ناحية المتظاهرين بعدما أيقنوا بأن تلك المدرعات أتت لتمد قوات الأمن المركزي بالسلاح. وهنا صاح المتظاهرون صيحات مملوءة بالغضب والألم والأسى: “خلاص… خلاص… الجيش معاهم… الجيش معاهم يا جماعة… الجيش مش معانا يا عم.”

في نفس الوقت تقريبًا، بدأت قوات الشرطة المتمركزة بجوار مجلسي الشعب والشورى تنفد ذخيرتها، وتوقفت عن إطلاق الرصاص. وبعد دقائق، رأى المتظاهرون سيارات الشرطة العسكرية التابعة للجيش تخترقهم وتعبر إلى قوات الشرطة المحاصرة ثم تعود مرة أخرى. وبعد رحيل سيارات الشرطة العسكرية، بدأت قوات الشرطة في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين من جديد. وهكذا تكرر مشهد مرور سيارات الشرطة العسكرية بين المتظاهرين وإمداد الشرطة بالذخيرة الحية في مناطق متعددة في محيط ميدان التحرير. وهنا أدرك بعض المتظاهرين أن الجيش ليس في صفهم وأنه هو الذي كان يمد الشرطة بالذخيرة. فأحرق المتظاهرون الغاضبون سيارتي جيب تابعتين للشرطة العسكرية، ومدرعة تابعة لسلاح المدرعات، وتمكنوا من الاستيلاء على أربع دبابات. ولم ينس المتظاهرون في فورة غضبهم إثبات سيطرتهم على الدبابات بكتابة عبارات يسقط مبارك بالإسبري الأسود.

لاحقًا وفي لقاء قادة للمجلس العسكري مع د. رفعت السعيد، بعد خلع مبارك بنحو 4 أو 5 أيام، في فندق تريومف بشارع ال، قال السعيد لأحد أعضاء : أنتم جيش منضبط، فما معنى أن يكون مبارك جالسًا في بيته وهو ما زال رئيسًا للجمهورية، وتسمحون بمرور دبابة أمام كاميرات التلفزيون مكتوب عليها يسقط مبارك.. تمر هذه الدبابة بهذه اللافتة، فمن كان يقف وراء المكتوب عليها، وهل كان ذلك دون إذن من قادة الجيش؟، كان السؤال يحمل في طياته معنى واحد، أن الجيش القوي لا يستطيع حماية دباباته من أفراد الشعب غير المسلح، حتى من تشويهها، فأجاب العضو العسكري البارز قائلًا: نحن مَنْ كتبها.. هذه رسالة للعالم، ولك، ولـ 25 يناير، ولمبارك نفسه.. رسالة لمبارك بأن الجيش لم يعد معه.

لاحقًا شهد أسامة السيد عبد العال المدير التنفيذي لمجمع التحرير أمام النيابة، أنه في اليوم التالي لأحداث جمعة الغضب وتحديدًا يوم 29 يناير، قامت عناصر من القوات المسلحة بكسر غرفة المراقبة بالطابق الأول بمجمع التحرير التي تحوي شاشات عرض للكاميرات الست التي تغطي خارج المجمع، وقام المقدم أحمد كمال من سلاح الإشارة بنقل كاميرات المجمع لمقر المجلس العسكري، وفي يوم 2 فبراير 2011 حضر ضباط آخرون من الجيش واكتفوا تلك المرة بالحصول على نسخة من كل ما سجلته الكاميرات الخارجية لمجمع التحرير في الفترة السابقة وأرسلوها للفرقة رقم 66 بالجيش.

بحلول مساء الجمعة سادت القاهرة حالة من الانفلات الأمني لم يسبق لها مثيل، بعد اختفاء الشرطة من الشوارع والأقسام، وتم اقتحام المقر الرئيسي للحزب الوطني على كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير من قبل أشخاص يجتاحهم غضب عارم، وغادروه محملين بالسجاد والمقاعد الوثيرة وأجهزة الكمبيوتر، وبعد قليل كانت النيران تلتهم مقر الحزب بالكامل وألسنة الدخان تخرج من منافذه تشق عنان السماء وكأنها تشارك الثوار ثورتهم.

في الأيام السابقة كان قد توجه لمبنى الحزب، وقام بعملية إخلاء وتفريغ لكافة المستندات والمواد الموجودة على أجهزة الكمبيوتر تحسبًا لما يمكن أن يحدث، وظلت ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من مقر الحزب دون أن يحاول أحد إطفاؤها، ودون أن تجرؤ عربات الإطفاء على الاقتراب منه لإطفائه، وكأن مقر الحزب قد استسلم لمصيره المظلم، وأتت النيران على جدران المبنى الذي ظل لسنوات جاثمًا بسياسته على أنفاس المصريين، لدرجة أن الدخان المتصاعد منه كان مرئيًا على بُعد مسافات كبيرة، ولم يتوقف الأمر عند العاصمة، فمقار في دمياط والمنصورة قد جرى تحطيمهما، بل والأسوأ من ذلك أن مبنى المحافظة في العاصمة الثانية، الإسكندرية، قد اشتعل.

وفي ظل تصاعد حالة الانفلات الأمني، بدأ هروب المساجين من السجون المنتشرة في جميع أنحاء الجمهورية بشكل بدا ممنهجًا. وقالت الأرقام الرسمية إن هناك أكثر من 24 ألف مسجونًا جنائيًا قد فروا في يوم 28 يناير والأيام التالية له، الأمر الذي أثار حالة من الذعر في صفوف المصريين. وحتى يومنا هذا يظل السؤال حائرًا بلا إجابة، من أطلق المساجين الجنائيين وساعدهم على الفرار؟ هل تلقى حراس السجون أوامر من أو من قيادات كبيرة في الداخلية لتسهيل هروب السجناء لبث الذعر بين الشعب؟ أم أن هناك بالفعل وحدات من قطعت تلك المسافات المهولة في ساعات قليلة لتهريب بعض أفرادها المسجونين الذين ظهروا بالفعل في بيوتهم في فلسطين في الأيام التالية؟ أم أن الأعراب القاطنين بجوار معظم السجون هم الذين تولوا تهريب المساجين في مقابل مادي أو نكاية في الداخلية؟ الإجابة لا يعرفها أحد حتى الآن.

خسرت الشرطة خلال المظاهرات ما يقرب من 2000 سيارة شرطة، إضافة إلى 99 قسمًا للشرطة تم إشعال النيران بها في القاهرة وباقي المحافظات في وقت واحد تقريبًا. وحتى الآن لا يوجد دليل ثابت على هوية مقتحمي الأقسام، وفسَّر البعض تتابع عمليات الاقتحام بأن الشرطة التي بدأت بالعنف قد ضربت المتظاهرين بالرصاص الحي أمام الأقسام، وهذا بالفعل مُثبت من خلال فيديوهات وشهادات للضحايا. وعليه فقد احتل المتظاهرون الأقسام وأحرقوها انتقامًا لذويهم، وفسَّر البعض الآخر أنه ربما أن يكون لهم يد في إشعال فتيل عملية الاقتحام، وهذا احتمال وارد.

لكن المؤكد هو أن البلطجية وأصحاب السوابق وكل من له ثأر مع الشرطة وكل من تعرض للتعذيب داخل الأقسام قد استكملوا عمليات الاقتحام بدافع الانتقام من الشرطة، حتى إن سائق ميكروباص شارك في عمليات الاقتحام قال في شهادته التي نشرها أحد المواقع: أنا أخذت بتاري من الضباط والأمناء، وكده أنام وأنا مرتاح، ذلك لأنَّ معظم أمناء الشرطة في مصر كانوا يقومون بفرض إتاوات على السائقين وعلى الباعة الجائلين وعلى الفئات المطحونة والمهمَّشة عامةً. وأضاف السائق أنه قد تعرض لإهانة منذ عامين عندما رفض أن يدفع الإتاوة لأحد الأمناء ذات مرة، فكان مصيره الضرب والسحل في الشارع أمام زملائه وأمام المارة.

أيضًا شارك العديدون في الاقتحام بدافع نهب الأموال والأجهزة الكهربائية والسلاح وأحراز المخدرات الموجودة داخل الأقسام، وشارك أقارب بعض المحتجزين في الاقتحام لتحرير ذويهم من داخل الأقسام، وقام أهالي المساجين بإتلاف وإحراق محاضر الشرطة والأوراق الرسمية والأدلة التي تدينهم، ومنعوا قوات الإطفاء المدني من إطفاء الحرائق المشتعلة، وعجلت سرعة سريان أخبار الاقتحام وسهولته وهروب الشرطة بتشجيع الآخرين لتكرار نفس التجربة وتكرار عمليات الاقتحام في جميع أنحاء الجمهورية، وبلغت الرغبة في الثأر أن قام الأهالي بإحضار جرافة لهدم أسوار قسم دار السلام رغبة في إبادة القسم ومحوه من على وجه الأرض، ولم يتوقف المقتحمون عن السيطرة على أقسام الشرطة بل أحرقوا المنشآت التابعة لها مثل السجلات المدنية وإدارة المرور في القاهرة الكبرى، ولم تسلم محاكم ونيابات القاهرة من هجوم البلطجية والمسجلين خطر بغرض حرق السجلات التي تدينهم وملفات التهم والقضايا المسجلة عليهم، وقامت مجموعة من البلطجية بحرق مُجمع محاكم الجلاء أسفل كوبري أكتوبر الذي يضم أكثر من 14 نيابة جزئية و 14 محكمة جنح، وبدأت حالة من الفوضى العارمة تعم جميع أنحاء البلاد.

وانتشرت حالات السلب والنهب لتشمل المقار الحكومية والأماكن العامة ومحطات السكك الحديدية، والمنشآت الخاصة الشهيرة مثل المجمع التجاري “أركاديا مول” المطل على نيل القاهرة الذي تم نهبه وحرقه تماماً من قبل الغوغاء، وكارفور المعادي الذي تم نهبه تمامًا، وانتشر في شوارع المعادي باعة جائلون يبيعون حواسيب محمولة مسروقة من ماركة Apple الشهيرة التي يصل سعرها إلى الآلاف من الجنيهات بسعر 300 جنيه مصري، أيضًا تم نهب محلات الذهب والألماس المنتشرة في المول التجاري الشهير “سيتي ستارز” بمصر الجديدة، وتوالت الاتصالات والاستغاثات من الأهالي تفيد بتعرضهم لنهب وأعمال بلطجة، وبالفعل فإن بعض المناطق المتطرفة في أنحاء القاهرة قد تعرضت بالفعل لأعمال سلب ونهب حقيقية، لكن الأكثرية من تلك الاستغاثات كانت مكالمات ملفقة ومرتبة لبث الرعب في قلوب المشاهدين وقلوب الشعب لحثهم على العدول عن تكملة الثورة ضد النظام.

وخرج الإعلامي طارق علام على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون المصري، وأخذ يذرف الدموع وهو يروي ما يحدث في الشارع، وصرخ باكيًا أن مصر تنهار وأن هناك 60 حالة اغتصاب وحالات اعتداء على المنازل، وهو ما ثبت عدم صحته بعد ذلك. وقبل هبوط ليل القاهرة الثقيل الطويل، بدأت فكرة إنشاء لجان شعبية لحماية المنازل والشوارع من هجوم الهاربين والفارين من السجون. وهي عبارة عن تجمعات من الشباب والرجال المسلحين بأسلحتهم البدائية من السكاكين والعصي الخشبية، موزعين بانتظام على بدايات ونهايات الشوارع التي وضعت في أطرافها المتاريس البدائية المصنوعة من صفائح القمامة كبيرة الحجم وجذوع الأشجار.

وامتدت محاولات النهب حتى وصلت للمتحف المصري الذي اقتحمه الغوغاء، بينما سارع المتظاهرون إلى حمايته، قبل أن يظهر المخرج خالد يوسف على الفضائية مستنجدًا بقوات الجيش لإنقاذ المتحف من لصوص الآثار وقد ملأت الدموع عينيه. وبالفعل استجابت وحدة من القوات الخاصة بالجيش المصري سريعًا، لكن بالفعل كانت هناك قطع أثرية لا تُقدر بثمن قد نُهِبت أو تعرضت لأذى من جراء هذا الاقتحام ومن جراء مطاردة المقتحمين داخل ردهات المتحف.

لماذا يتدخل الجيش في السياسة؟

في نفس الوقت الذي كانت فيه القاهرة تشتعل بالمظاهرات ضد مبارك، كان رئيس أركان حرب الجيش المصري الفريق سامي عنان في الولايات المتحدة الأمريكية، ليؤكد ولاء الجيش المصري لمبارك، وأن الجيش المصري لن يتخلى عن مبارك كما فعل الجيش التونسي. وأورد موقع www.stratfor.com الإخباري الأمريكي يوم 25 يناير 2011 في تقريره عن الثورة المصرية: أنها ليست مصادفة أن رئيس أركان الجيش المصري الآن في واشنطن، يؤكد للولايات المتحدة الأمريكية أن الجيش المصري لن يتخلى عن مبارك مثلما فعل الجيش التونسي مع . وفي الولايات المتحدة عقد اجتماعًا طارئًا لمجلس الأمن القومي الأمريكي لمتابعة آخر التطورات في مصر، ثم صرح أوباما بعدها إن ما يريده المصريون هو نفس ما تريده واشنطن.. حياة أفضل وحكومة عادلة ومسؤولة.

يظل السؤال الأهم: لماذا يتدخل الجيش -أي جيش- في السياسة؟

هناك نظرية جاهزة دائمًا لتفسير تدخل الجيش في السياسة، هي نظرية المسلك الطبيعي كما صاغها “ألكسندر روستو” أستاذ العلوم السياسية الألماني المولد. فالبيان رقم (1) لأي انقلاب، يتضمن دائمًا أن هذا الانقلاب هو “المسلك الطبيعي” لكي يتدخل جيش البلاد، لوضع حد نهائي للفوضى الاجتماعية والسياسية. وهنا، تندرج تحت نظرية المسلك الطبيعي ثلاثة افتراضات:

الافتراض الأول هو وجود أزمة انتقال لا يمكن تخطيها إلا عن طريق الانقلاب لتغيير البناء الاجتماعي والنظام السياسي، ويتضمن الافتراض الثاني أنه ليست هناك قوة قادرة على إحداث التغيير المطلوب باستثناء الجيش، أما الافتراض الثالث فمفاده أن الجيش لديه القدرة على إحداث التغيير. وبمعنى ما، فإن الجيش يتدخل في ظروف معينة، مثل وجود أزمة أو مأزق، وغياب وضعف القوى الأخرى في المجتمع التي يمكنها إحداث التغيير، وقدرة الجيش وحده على إحداث التغيير. وكما يقول “چون كامپل” الكاتب والمحرر الأمريكي، فإن الجيش يتحرك عادة للسيطرة على الحكم عندما تصبح قوة سياسية ضاربة تطغى على المؤسسات الأخرى، أي عندما يصبح أقوى الأحزاب والتحزبات السياسية أيًا كان منشؤها وطبيعة تكوينها، بيد أن تدخل الجيش ومستوى تدخله (الحكم المباشر، الوصاية، الدور السياسي) أمر يرتبط بعلاقة الجيش بالمجتمع والدولة.

ما حدث في هذا اليوم كان يستدعي أن يخرج مبارك على الفور ليتحدث للشعب، لكن كانت هناك وجهة نظر أخرى تقول إن الرئيس لا ينبغي أن يظهر الآن طبقًا لقاعدة الشطرنج الشهيرة التي تقول إن الملك لا يتحرك إلا عند اقتراب النهاية. لذا فظهور مبارك الآن سيعطي الإحساس بجلل وأهمية ما يحدث، وسيؤكد اقتراب النهاية مما سيشجع الجميع على الاستمرار والصبر. لكن بالنهاية لم يجد مبارك بدًا من أن يتحدث إلى الشعب، وأعلنت وسائل الإعلام عن خطاب منتظر لمبارك، وقبل منتصف الليل كان الجميع بما فيهم المتظاهرين المعتصمين في ميدان التحرير بانتظار خطاب مبارك المزمع.

كان خطاب مبارك الذي أعلن عنه رئيس مجلس الشعب؛ ، على التليفزيون المصري قد تأخر كثيرًا، وطال انتظار المصريين إلى ما بعد منتصف ليلة السبت، وأخيرًا، خرج مبارك ليلقي خطابه للأمة متأخرًا، كعادته في الاستجابة البطيئة. أطل مبارك على المصريين الغاضبين بوجه شمعي بلاستيكي جامد وشعر يبدو من شدة سواده أنه مصبوغ للتو، ليدلي بخطاب ممتلئ بالتعبيرات المتكررة التي طالما سمعها المصريون على مدار ثلاثين عامًا وملوا من ترديدها مرة أخرى، ليؤكد مدى انعزاله عن الشعب وعن الأحداث الحالية.

أدان مبارك المتظاهرين لتهديدهم أمن البلاد ثم حاول تهدئتهم، وقال إنه طلب من حكومة أن تتقدم باستقالتها اليوم، وسوف يكلف الحكومة الجديدة برئاسة وزير الطيران المدني اعتبارًا من الغد بتكليفات محددة للتعامل مع أولويات المرحلة الراهنة، وأعلن في خطابه تعيين اللواء رئيس المخابرات العامة نائبًا لرئيس الجمهورية بعد ثلاثين عامًا من رفض تعيين نائب له بدون أسباب مقنعة. وما أن انتهى خطاب حتى بدأت القناة الفضائية المصرية وباقي القنوات التابعة للنظام في إذاعة أفلام تسجيلية قديمة تمجد مبارك، وتذكر الشعب بإنجازاته وبكل ما قدمه للبلاد.

ثم قام التلفزيون الرسمي للدولة بإعادة إذاعة حديث قديم لمبارك مع زوجته يتحدث فيه عن بداياتهما المتواضعة بغرض استدرار عطف الناس، وهو ما أدى إلى العكس تمامًا واستفز خطاب مبارك الجماهير المنهكة. وشهد الميدان تدفقًا ملحوظًا من جماهير غاضبة لم تكن قد عرفت طريقها للميدان بعد، متحدين حظر التجول المفروض. ورفعت الجماهير الغاضبة رايات ويافطات تحمل نفس الهتاف الذي يرددونه: ارحل.

كان مبارك قد انتظر كثيرًا في رد فعله، وسقف المطالب قد ارتفع بشدة خلال الأيام الماضية، ولم يعد يكفي المتظاهرين الغاضبين استقالة حكومة أو تعيين نائب، بل تحول المطلب الرئيسي للشعب إلى الرحيل، وبدأ إعداد الميدان للاعتصام الكامل حتى سقوط النظام. وفي اتصال تليفوني ل، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، على قناة الجزيرة، طالب بديع برحيل مبارك، ثم أكد أن أي حوار ستشارك فيه الجماعة سيكون في إطار القوى الوطنية، ولكن بعد رحيل النظام، وأن الجماعة وعناصرها لا يسعون مطلقًا للمناصب وليسوا سعاة لكرسي الحكم.

بعد أن قام المتظاهرون بحرق مدرعات الجيش في منتصف اليوم، أدركت القوات المسلحة أنها لن تستطيع أن تواجه المصريين في حرب شوارع، ستكون هي حتمًا الطرف الخاسر فيها، وقد يتحول الأمر إلى ما يشبه الحرب الأهلية، فبدأت القوات المسلحة في تغيير خطابها مع المتظاهرين، وقام ضباط الجيش بمخاطبة المتظاهرين المعتصمين وطمأنتهم ومسالمتهم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الجمعة ٢٨ يناير
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎