المقال رقم 51 من 51 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

بعد فترة، وبعد تراخي الضغط المفروض على مبارك من قبل نظام الرئيس للقيام بإصلاحات فكرية وسياسية في مصر، كان على مبارك أن يعيد تفصيل الدستور مرة أخرى، حتى يكون على مقاسه هو ووريثه فقط، وحتى يكون في مأمن من ظهور ثانٍ قد يسبب له الأرق وينافسه في حكم مصر.

في نفس الوقت، كان على الوريث القيام ببعض الاستعدادات الداخلية في الحزب والبرلمان. ففي فبراير 2006، تولى ، ذراع جمال الأيمن، رئاسة أمانة التنظيم، وهي الأمانة الأقوى في الحزب، استعدادًا لتجهيز الوريث. كان أحمد عز قد قدم أوراق مؤهلاته قبل ذلك لرئاسة هذه الأمانة الهامة. عندما أصبح أسلوب عز الذي تغلغل به داخل الحزب الوطني هو أسلوب الجزرة بدلًا من العصا كبديل لشعار “العصا بدلًا من الجزرة”، وأتى هذا الأسلوب ثماره مع هيمنة على الحزب الوطني ودخول عدد كبير من رجال الأعمال صفوف الحزب ومجلس الشعب.

كانت هناك تكهنات قوية على الساحة السياسية تفيد بأن مبارك سيترك منصبه للوريث. لكن في خطابه في اجتماع مشترك لمجلسي الشعب والشورى، الأحد 19 نوفمبر 2006، بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان، دحض مبارك كل تكهنات المعارضين بأنه سيترك منصبه قبل نهاية فترة الرئاسة الحالية. إذ قال صراحة: سأواصل معكم مسيرة العبور إلى المستقبل، متحملًا المسؤولية وأمانتها، ما دام في الصدر قلب ينبض ونفس يتردد. وفي مستهل خطابه، قال مبارك إنه سيحيل إلى مجلسي البرلمان تعديلًا على المادة 76 من الدستور يسهل لأحزاب المعارضة التقدم بمرشحين لانتخابات الرئاسة.

وكانت الحكومة قد أشارت إلى اعتزامها تغيير المادة 76، لكن مبارك لم يكشف عن التغيير الذي يعتزم إدخاله عليها. وقابل غالبية أعضاء المجلسين، الذين ينتمون إلى الحزب الوطني، قول مبارك بتصفيق حاد ووقفوا لتحيته. ووقف أعضاء مجلس الشعب الذين يمثلون جماعة مع باقي الأعضاء لتحية مبارك. واستمر الأعضاء في التصفيق إلى أن جعلوا مبارك يكرر ما قاله أكثر من مرة. تلك كانت كلمات مبارك من على منبر مجلس الشعب، تؤكد أنه باقٍ على الكرسي حتى النهاية، معزولًا ومرهقًا، ولكنه لا يزال يقاتل.

في ديسمبر عام 2006، بعث حسني مبارك برسالة إلى البرلمان المصري يطلب فيها تعديل 34 مادة من مواد الدستور. جرى تفصيل معظمها خصيصًا على مقاس الوريث. وافق مجلس الشورى في 13 مارس 2007 ومجلس الشعب في 19 مارس 2007 بالأغلبية على التعديلات الدستورية المطروحة. وفي 26 مارس 2007، أُجري الاستفتاء على هذه التعديلات للمواد الـ 34، ووافق عليها الشعب بنسبة بلغت 75.9%.

في هذا الوقت، سرت أخبار غير مؤكدة عن تحفظ المؤسسة العسكرية على ملامح التوريث، التي بدت واضحة في الاستفتاء على تعديلات دستورية جرى تفصيلها خصيصًا على مقاس جمال مبارك، وجرى إقرارها وسط معارضة متزايدة ورفض شعبي واضح. جعل هذا المشير طنطاوي يبدي رأيًا مؤداه أنه وكل القادة يرجون الرئيس مراعاة قاعدة مستمرة في السياسة المصرية تنأى بالقوات المسلحة عن أي دور يفرض عليها احتكاكًا بالداخل السياسي، بالرغم من أنها قد حدثت قبل ذلك في مظاهرات الخبز 17 و18 يناير 1977، وتدخلت القوات المسلحة بقيادة المشير الجمسى لفض المظاهرات، وفي مظاهرات الأمن المركزي عام 1986، ومرة أخرى تدخلت القوات المسلحة بقيادة أبو غزالة لفض المظاهرات.

أما بالنسبة للمؤسسة العسكرية، فالثابت أنها لم تكن راضية عن التوريث، لكنها لم تكن لتتخذ أي موقف حقيقي على الأرض بصدد هذا الشأن، ربما لأن ذكرى عزل المشير محمد عام 1989 بسهولة تفوق قطع قالب من الزبد بسكين حاد لا تزال عالقة في الأذهان، فقط لمجرد تزايد شعبية الرجل في الشارع المصري، وبسبب تخوف مبارك أن يقوم أبو غزالة بانقلاب عسكري عليه. أو لأن المشير نفسه قد تبوأ منصب وزير الدفاع وهو في حالة انكسار من البداية، فقد كان الفحص الطبي الدوري لقادة القوات المسلحة قد أثبت عدم لياقته طبيًا، إذ كان يعاني من متاعب في القلب والكبد، وهذا معروف للكافة. لكن مبارك قد استبقاه، ثم خالف العرف الساري في القوات المسلحة، فأتى به وزيرًا للدفاع وقائدًا عامًا من منصب رئيس هيئة العمليات، دون أن يمر -كما جرت العادة- بمنصب رئيس الأركان. وكل هذه كانت منح مباركية تضمن ليس فقط الولاء، وإنما أيضًا الخضوع التام.

اعتراض المؤسسة العسكرية على قضية التوريث لم يأتِ بدافع ، ولا بالرغبة في الإصلاح بالطبع، بل بدافع الخوف من تدخل رئيس مدني لا ينتمي إلى المؤسسة العسكرية في شؤونها الداخلية، مما قد يفتح الباب لصراعات بين الطرفين. فقد صار عرفًا أن يكون رئيس الجمهورية من داخل المؤسسة العسكرية.

ثورة الإنترنت

في ظل دولة تسيطر فيها الأجهزة الأمنية على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، لم يكن غريبًا أن تمتد القبضة الأمنية إلى الإعلام، حيث يتم التلاعب بوجدان الأمة وعقولها، فيُقرب من تشاء ويُقصي من تشاء. لم يكن القائم على ضبط أوضاع الإعلام جهة ضابطة إعلامية كما يحدث في الدول المتقدمة، ولا المجلس الأعلى للصحافة أو الهيئة العامة للاستثمار، وإنما كان جهاز أمن الدولة. أراد هذا النظام وتلك النخبة قليلة العدد فرض إطار قضايا معين، وتسليط الضوء على قضايا بعينها، وحجبها عن قضايا أخرى. لم يكن هذا إعلامًا، وإنما كان تشويشًا على عقلية المواطن المصري الذي لا يعرف حقوقه، وليست لديه القدرة على تقصي الحقيقة من المعلومات المتوفرة لديه. سخرت الدولة أجهزتها الإعلامية لغسل أدمغة المصريين لتكريس فكرة أنه ولابد أن يكون جمال هو الرئيس القادم.

لكن في ظل هذا الحصار الأمني للإعلام، يفتح التطور ال في وسائل الإعلام والاتصال والتقارب إمكانيات جديدة للفعل لم تكن موجودة من قبل. جعلت كاميرا الهاتف الخلوي وصفحات المدونات أدوات لا يمكن السيطرة عليها، وما غاب عن قبضة الأمن هو ذلك الكيان المخيف الذي سمي بالمعارضة الإلكترونية، الذي نشأ مؤخرًا مع تنامي استعمال الإنترنت في مصر، الأمر الذي لم يكن له وجود من قبل، بالتالي لم يكن للقبضة الأمنية إحكام حقيقي عليه.

بدأت المعارضة الإلكترونية بمواقع حركات المعارضة، مثل موقع حركة كفاية، مرورًا بالمدونات، وهي مواقع بسيطة الإعداد، سهلة الاستخدام، ومجانية متاحة للجميع. فلجأ آلاف الشباب إلى اتخاذ تلك المدونات منابر لنشر كلماتهم المكبوتة، ولسماع صوتهم المتحشرج الذي ظل مكتومًا لسنوات، حتى وصل استخدام الإنترنت في تلك الفترة إلى ما يقرب من 2 مليون مستخدم، معظمهم من المتعلمين تعليمًا جيدًا، ومن الطبقة الوسطى التي تملك اتصالًا مستمرًا بالإنترنت طوال الوقت. فكان من مميزات الإنترنت أنه يسمح لأي معارض بالمشاركة، مهما كانت مشاركته ضئيلة، فنشأ ما يسمى بالمعارضين الإلكترونيين. فلم تعد المعارضة بالضرورة هي النزول إلى الشارع أو المشاركة في الإضرابات العمالية على أرض الواقع.

واختلف الإنترنت عن سابقه من وسائل المعارضة المكتوبة، كونه سمح للشعب أن يرى بعينه ما كان يسمع عنه فقط في السابق، مما جعل تأثير الخبر مضاعفًا ومصداقيته لا غبار عليها. وأشهر ما تم نشره في المدونات كان تزوير الانتخابات البرلمانية 2005، وانتهاكات الداخلية وبلطجيتها داخل اللجان ضد ناخبي المعارضة، وتسود البطاقات الانتخابية، والرشاوى الانتخابية، والبطاقة الدوارة التي تعد أشهر طرق التزوير في مصر، حتى انتبه الأمن إلى خطورة الإنترنت، فبدأ بإعلان الحرب على جموع المدونين باعتقال بعضهم، وفصل البعض الآخر من أعمالهم، ومضايقتهم بكل الوسائل المتاحة لديه، وهي كثيرة، لكن كل هذا لم يمنع شباب المدونين من الاستمرار في فضح ممارسات الداخلية.

أشهر المدونات التي نشأت في تلك الفترة كانت مدونة الوعي المصري التي أنشأها المدون المشهور وائل عباس، واختصت بنشر مقاطع التعذيب في أقسام الشرطة المصرية بكل جرأة وتحدٍ، حتى جعلت المصريين يدركون أن التعذيب ليس مجرد كلمة مكونة من خمسة حروف، وإنما واقع أليم صادم للكثيرين، وجعلتهم يدركون أن التعذيب ليس مجرد إشاعات مبالغ فيها، وإنما واقع مهين بشع سادي، لحق بمئات المصريين الذين لم يتصوروا يومًا أنهم قد يقعون في براثنه، حتى كانت الصدمة الكبرى التي نشرها وائل عباس على مدونته، حادثة عماد الكبير التي جرت أحداثها في 20 يناير 2006.

يومها أُلقي القبض على سائق الميكروباص عماد الكبير بدون وجه حق، واقتيد إلى قسم بولاق الدكرور، وقام الضابط إسلام نبيه باحتجازه بلا أسباب، وتعذيبه بإدخال العصا في دبره في تلذذ وسادية قذرة، ولم يكتفِ بهذا، وإنما قام بتصوير فعلته الدنيئة بكاميرا موبايل، ليكون وسيلة ضغط على الضحية بتهديده بفضحه بين زملائه من سائقي موقف بولاق الدكرور.

أجرى الصحفي وائل عبد الفتاح حوارًا مع عماد الكبير، أدلى فيه باعترافات خطيرة عن تعرضه للتعذيب داخل قسم الشرطة. هذه الاعترافات أُجبر عماد الكبير على تكذيبها بعد تعرضه للضغط في قسم الشرطة. لكن حملة جريدة الفجر تواصلت بصورة أقوى بعد اتهامها بتزييف الحوار، رغم نشر صور عماد الكبير مع وائل عبد الفتاح، حتى أثبتت الفجر ما تعرض له عماد الكبير من ضغوط. فعاد مرة أخرى يعترف بالحقيقة كاملة، لتصبح القضية أكبر من أن تتجاهلها السلطات. وروى عماد الكبير تفاصيل قصة تعذيبه كاملة في حلقة من برنامج القاهرة اليوم، الأمر الذي جذب معه تعاطف الرأي العام، لتصبح قضيته أول قضية تعذيب في قسم الشرطة تحظى بمتابعة إعلامية ضخمة داخل مصر وخارجها، ويحكم فيها بالسجن على الضابط المتهم، نتيجة المجهود الجبار الذي قام به محامي الضحية، الأستاذ ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة.

في الشهر الأخير من عام 2007، عرضت السينما المصرية الفيلم الرائع هي فوضى للمخرج الراحل ، الذي يحكي عن “حاتم” أمين الشرطة البلطجي، الذي يفرض إتاوات مادية على أهالي الحي، ويعتقل متهمين سياسيين مفرجًا عنهم من النيابة ويعذبهم صعقًا بالكهرباء وبالكرابيج. جاء الفيلم انعكاسًا حقيقيًا لما يحدث على أرض الواقع وصدمة للمشاهد البعيد عن السياسة في مصر. وتنبأ الفيلم في نهايته، وبدقة شديدة، عن ثورة تلوح في الأفق القريب على ألسنة الشباب الثائر “بكرة الثورة تشيل ما تخلي” اعتراضًا على ظلم الشرطة وجبروت نظامها الأمني. كان من الغريب أن تسمح الرقابة والسلطة الأمنية في مصر بجواز عرض هذا الفيلم.

النفاق الإخواني

في عام 2007، وفي خضم الحرب الضروس التي تشنها الحكومة على الإخوان المسلمين شكلًا، فوجئ الرأي العام برئاسة الجمهورية تدعو مجموعة من أقطاب الإخوان المسلمين لحضور مناسبة توقيع قانون جديد للمعلمين. وقد قبل الإخوان دعوة الرئيس بسرور وحماس. أما المفاجأة الكبرى فكانت تصريحات قادة الإخوان المسلمين بعد الزيارة، فقد أكدوا جميعًا أن ال رمز مصر وأنهم يتوقعون الخير كل الخير على يديه. والغريب أنهم قالوا هذا الكلام بينما المئات من زملائهم المعتقلين يلاقون الأهوال على أيدي ضباط نظام مبارك نفسه. والأغرب أن الدكتور قد أكد أن الإخوان المسلمين لم يشككوا يومًا في شرعية الرئيس مبارك لأنه رئيس كل المصريين. والدلالة الواضحة لهذه الواقعة أن الإخوان المسلمين على أتم الاستعداد لتدعيم الاستبداد في مصر والتحالف معه مقابل تخفيف القبضة عليهم والاعتراف بهم.

في نفس العام، جاءت المحاولة الثانية من محاولات التحالف الإخواني مع الأقباط لتحقيق أهدافهم السياسية، بين وأمين فهيم وبعض قيادات الإخوان، وبترتيب من محمد عبد القدوس. انتهت هذه المحاولة بدون نتائج أيضًا، وكانت أقرب إلى الحوار الشخصي مع المهندس يوسف سيدهم، الذي أرادوا منه استخدام في تقديم صورة مختلفة عنهم للأقباط بعد محاولتهم الفاشلة الأولى عام 1991، وانتهت هذه المحاولة أيضًا بالفشل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 3 حسب تقييمات 2 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 هايدلينا والسلام والميليشيات
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎