المقال رقم 43 من 43 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

مر الزمن سريعًا وحلَّ العام 93، العام الأخير في ولاية الثانية، الذي كان قد تعهد أمام المصريين جميعًا في بداية حكمه بأنه لن يحكم أكثر من مدتين رئاسيتين، والدستور يقول إنه عليه أن يرحل. فلما انقضت المدتان، وجد مبارك نفسه في موقف محرج، فأعلن أنه سوف يترك السلطة كما وعد.

هنا حدثت واقعة مشينة أبطالها أعضاء مجلسي الشعب والشورى في ذلك الوقت، الذين حصل معظمهم على مقاعدهم بالتزوير. فقد اتفق هؤلاء مع مبارك، وذهبوا إليه في منزله، وراحوا يرجونه أن يستمر في الحكم، بل إنهم قدموا له وثيقة مبايعة زعموا أنهم كتبوها بدمائهم، ثم تبين بعد ذلك أنهم استعملوا زجاجة من بنك الدم. وظهرت هذه المسرحية السخيفة في التلفزيون، فأمسك مبارك بمبايعة الدم بين يديه وراح يتطلع إلى أعضاء الوفد المنافقين، ثم قال لهم: لقد كنت قررت أن أترك الحكم، لكنكم جئتموني بهذه الوثيقة التي كتبتموها بدمائكم، فلا يمكن أن أتجاهل إرادة الشعب، ولذلك سأستمر في الحكم. فيقوم البرلمان بتعديل الدستور؛ ليستطيع مبارك الترشح لولاية ثالثة، ويتم الاستفتاء على تمديد فترة رئاسته، وينجح بالطبع.

التعاون السياسي

في فبراير 1994، وقعت مذبحة الحرم الإبراهيمي بالقدس، والتي اغتال فيها يهودي متعصب مجموعة كبيرة من المصلين بالحرم وقت صلاة الفجر. وقتها، اتصل كمال الشاذلي بالمستشار ، الذي كان وقتها متحدثًا رسميًا باسم ، وطلب منه أن يقيم الإخوان فعالية كبيرة رافضة لهذا الفعل الإجرامي. وأخبره أن الدولة ستمنحهم كل إمكانياتها من أجل نجاح هذا العمل. في الوقت ذاته، اتصل الشاذلي بأحمد الخواجة، نقيب المحامين، وطلب منه أن يساعد الإخوان في هذا العمل. وبالفعل، تم تشكيل لجنة من أجل إقامة مؤتمر كبير في نقابة المحامين يشجب هذه المذبحة.

تم عقد المؤتمر الذي حشد له الإخوان أعدادًا كبيرة فاقت احتمال نقابة المحامين. وكان من الحاضرين وقتها وجدي غنيم، مأمون الهضيبي، ، أحمد الملط نائب المرشد وقتئذ، الداعية عمر عبد الكافي، المهندس ، فضلًا عن أحمد الخواجة. وكان مختار نوح هو الذي يقدم الكلمات في تناغم تام بين الإخوان ومبارك، حتى أن سيارة مرسيدس سوداء كبيرة خاصة برئاسة الجمهورية هي التي أوصلت مصطفى مشهور وأحمد الملط ووجدي غنيم من مقر الجماعة بشارع سوق التوفيقية إلى مقر نقابة المحامين بشارع .

التعاون الحقوقي

في نهاية أبريل 1994، اقتحمت قوات من مباحث أمن الدولة مكتب المحامي والقيادي في ؛ عبد الحارث مدني، واقتادته ومن معه في المكتب من المحامين إلى مكان مجهول. وفي 5 مايو عام 1994، أُعلن عن وفاته. وبعرض الجثة على الطب الشرعي، أكد التقرير أن عبد الحارث مدني قد تم تعليقه من اليدين والرجلين على خشبة سميكة كالذبيحة، وأن هذا التعليق قد خلف جروحًا في اليد والقدم بها علامات التقيح، وأن علامات الضرب على ظهره تدل من خلال تعرجها على أن الآلة كانت تشبه الكرباج أو ما شابه ذلك، وأن هذا التعذيب قد استمر لما يقرب من الأسبوعين قبل استخدام الكهرباء التي أودت بحياته.

وانتفضت نقابة المحامين للدفاع عن حقه، وتقرر تنظيم إضراب عام للمحامين في 15 مايو 1994، ثم تنظيم مسيرة من النقابة إلى قصر عابدين بعد ذلك بيومين. وأراد المحامون المنتمون لجماعة الإخوان المشاركة في المسيرة للتعبير عن غضبهم من هذه الجريمة البشعة، إلا أن مأمون الهضيبي اتصل بمختار نوح، المسؤول عن نقابة المحامين داخل الجماعة، وأمره ألا يشارك المحامون الإخوان في هذه المظاهرات، لأنه اتفق مع رئيس جهاز أمن الدولة على ذلك. ولكن المحامين الإخوان أصروا على المشاركة رغم هذا القرار.

وقوبلت المظاهرات بعنف شديد من قوات الأمن وأقمعتهم. وتم القبض على مجموعة من المحامين من كل التوجهات، ومنهم المحامون الإخوان وعلى رأسهم مختار نوح، ومنتصر الزيات، وجمال تاج، كعقاب لهم على المشاركة في هذه المظاهرة. وعندما تحدث ثروت الخرباوي المحامي وبعض الإخوان مع مأمون الهضيبي كي يأمر باقي الإخوان بتنظيم مظاهرات احتجاجية على اعتقال مختار وأصحابه، رفض الهضيبي وقال بالحرف الواحد: هذه شدة أذن وسيخرجون بعد شهرين. وخرجوا بالفعل بعد شهرين، وكأنه كان هناك اتفاق على ذلك!

التعاون الانتخابي

في انتخابات مجلس الشعب عام 1995، التي قاطعها الإخوان المسلمون مع الأحزاب السياسية، ولم يقاطعها . أصبح مرشحي التجمع هم مرشحي المعارضة المنافسين لمرشحي الحزب الوطني، فانطلق شعب دمنهور خلف المرشح ي الدكتور “زهدي الشامي”. كان من المشهور أن دائرة دمنهور دائرة معارضة وكانت تصوت دائمًا ضد مرشح الحزب الوطني، وفى هذه الانتخابات التف أبناء دمنهور حول الدكتور زهدي الشامي، وكانت مؤتمراته، وجولاته الانتخابية عبارة عن مظاهرات سياسية ضخمة مما سبب قلقًا كبيرًا للإخوان، وندموا أشد الندم على ترك الساحة لمرشح معارض آخر من غير الإخوان، ولم يتوقعوا أبدا أن تخرج الانتخابات بهذه الصورة الساخنة رغم مقاطعتهم لها.

لكن، وبسبب صفقة غير معروف تفاصيلها، تدافع الإخوان في آخر لحظة لتأييد مرشحة الحزب الوطني “وجيهة الزلباني”. ولم يكتفوا بذلك، بل مارسوا طريقتهم المشهورة في شيطنة سمعة “زهدي الشامي” الدينية، بادعاء أنه ولا يصلي ولا يصوم، ويقصدون بالشيوعي أنه ملحد. واستطاعوا ترجيح كفة مرشحة الحزب الوطني في آخر لحظة.

التعاون داخل السجون

صارت العلاقة بين مبارك والإخوان محسومة. فقد وُضعت للإخوان خطوط حمراء، وطُلب منهم ألا يتجاوزوها حتى يصبح تأثيرهم محسوبًا. كانوا على وعي بتلك الخطوط، وطالما لم يتعدوها، فهم في مأمن من النظام. أما إن استبد بهم الغرور وظنوا أن قدرتهم تسمح لهم بتحدي النظام، يتحرك مبارك ليلقنهم الدرس حتى يعودوا إلى الخطوط الموضوعة لهم. وبفعل الاطمئنان الناتج عن الهدنة غير المعلنة بينهم وبين مبارك، عقد الإخوان المسلمون أول اجتماع لمجلس شورى الجماعة، بالرغم من أن قرار حل الجماعة الصادر من عام 1954 لا يزال ساريًا.

رصدت أجهزة الأمن هذا الاجتماع بالصوت والصورة. وقُبض على كل من شاركوا فيه، وحوكموا في أول قضية عسكرية للإخوان، رقم 8 ورقم 11 لسنة 1995 جنايات عسكرية، بتهمة إعادة إحياء جماعة محظورة، فيما عُرف إعلاميًا بـ “قضية مجلس شورى الجماعة”. وحصل فيها 85 متهمًا على أحكام تتراوح بين 5 و7 سنوات، وكان بينهم نجوم الصف الأول بالجماعة. وحُكم على بالسجن خمس سنوات، قضاها في سجن ملحق مزرعة طرة، الذي كان بمثابة فندق فخم.

كان هذا الملحق عبارة عن فيلا كبيرة، وقد وافق مبارك على أن ينشئ فيها خيرت الشاطر كل وسائل الترفيه من سخانات في الحمامات وأجهزة تكييف متنقلة وتليفزيونات. وفي السنوات الأخيرة، وضع الشاطر في سجنه أطباقًا لاقطة للأقمار الصناعية (Dish)، وأدخل أجهزة ريسيفر وديكودر، ليستمتع الإخوان بمشاهدة المحطات الفضائية.

المُرشد الخامس

في عام 1996، أصبح مصطفى مشهور، المعروف بـ “أبو هاني” والمتهم السابق في حادثة السيارة الجيب، المرشد الخامس لجماعة الإخوان المسلمين خلفًا لمحمد . ولأن الإخوان إذا شبعوا اطمأنوا، وإذا جاعوا أنّوا، فقد عاشوا مع مبارك في فترة المرشد مصطفى مشهور بين الجوع والشبع، بين الاطمئنان والأنين.

وبالفعل، وعى الإخوان الدرس حتى الانتخابات البرلمانية التالية، حتى أن مصطفى مشهور كتب مقالة في جريدة الشعب حيّا فيها “موقف مبارك الوطني” من ضرب محطة الكهرباء في لبنان. فأرسل له مبارك زكريا عزمي مبعوثًا ليطلب منه دخول الإخوان الانتخابات البرلمانية، وطمأنه أنه سيسمح لهم بنجاح عدد معقول فيها على أن ينسوا قضية النقابات المهنية التي كان متهمًا فيها القيادي د. ، المرشد الثامن للجماعة فيما بعد. وفي عام 2000، شاركت جماعة الإخوان المسلمين بـ 150 مرشحًا على مقاعد مجلس الشعب، وحصل الإخوان على 17 مقعدًا داخل البرلمان.

في إحدى جلسات برلمان 2000، وقف النائب الوفدي محمد عبد العليم داود مهاجمًا فتحي سرور بسبب الحال المتردي الذي وصلت إليه الأوضاع في مصر، قائلًا: لا أخشى من فرض إصلاح من الخارج… أبدًا… أنا أخشى من غضب هذا الشعب في يوم من الأيام؛ لأننا وصلنا لمرحلة خطيرة جدًا متنبئًا بالثورة المصرية التي ستحدث بعد قرابة عقد من الزمان، وتطيح بهذا النظام.

أديس أبابا والفرصة الضائعة

في 26 يوليو 1995، تعرض مبارك لمحاولة اغتيال فاشلة دبرتها الجماعة الإسلامية. فعند وصوله إلى أديس أبابا لحضور إحدى القمم الأفريقية، هوجم موكب السيارات الذي كان يقله، وخلال الاشتباك، قتل حراس مبارك المسلحين، ونجا مبارك من عملية الاغتيال بسبب خطأ في التوقيت دون أن يصاب بأذى.

العملية شارك فيها 10 مصريين، ونتج عنها مقتل خمسة منهم. وقطع مبارك رحلته وعاد إلى مصر بطلًا محمولًا على الأعناق، واكتسب على إثرها شعبية جارفة وتعاطفًا لا مثيل له، بعد أن ساق المسؤولون في بلاط الرئاسة الجموع لتحية الرئيس والتهنئة بسلامته بشكل سينمائي متقن الإخراج. حتى أن بابا الكنيسة وشيخ الأزهر والشيخ قاموا بدورهم في تلك المسرحية الهزلية على أكمل وجه.

كانت تلك الفرصة الذهبية لمبارك حتى يتنحى في سلام وهو في قمة مجده، ليكتب اسمه بحروف من نور في تاريخ مصر، ويسلم الحكم لرئيس مدني منتخب، لكن مبارك أصر على إضاعة كل الفرص حتى النفس الأخير.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 قضية سلسبيل
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎