- كيف نشأت الجماعة؟
- ما بين العنف والنفاق
- الإخوان والعمل السياسي
- نشأة النظام الخاص
- المواجهة الأولى
- الإخوان المسلمين والبرلمان
- الإخوان وحكومة النقراشي
- الإخوان وحكومة صدقي
- انشقاق البنا والسكري
- الإخوان والدم
- قتل الخازندار
- الإخوان والحرب
- حل الجماعة
- ما بعد حل الجماعة
- أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
- نسف محكمة الاستئناف
- حادث حامد جودة
- الهضيبي مرشدا
- الإخوان وعبد الناصر
- عبد الناصر مرشدا
- اعتقال الهضيبي
- نهاية شهر العسل
- التنظيم السري من جديد
- الحل الثاني للجماعة
- قطب وناصر
- أزمة مارس ١٩٥٤
- حادثة المنشية
- محكمة الشعب
- عزل نجيب
- تنظيم ٦٥
- إعلام المؤامرة
- السادات رئيسا
- عودة الروح
- دولة العلم والإيمان
- من الجماعة إلى الجماعة
- دماء جديدة في جسم منهك
- التنظيم الدولي
- الانقلاب على السادات
- مبارك رئيسا.. بالصدفة
- سياسات مبارك مع الإخوان
- سياسات مبارك مع المعارضة
- ☑ قضية سلسبيل
بعد اغتيال الرئيس الراحل السادات، تولى حسني مبارك السلطة، ففتح صفحة جديدة مع الجميع، بمن فيهم الإخوان. وطوال أكثر من عشر سنوات، توغلت الجماعة داخل المجتمع المدني في مصر، بأحزابه وبرلمانه ونقاباته ومجالس إدارات أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية كافة، بالإضافة إلى الاتحادات الطلابية، حتى لم يتبقَ مؤسسة مدنية واحدة في مصر لم يخترقها الإخوان، على مرأى ومسمع من نظام مبارك وأجهزة أمنه.
وفي عام 1991، وتحديدًا في شهر سبتمبر، اجتمع قادة التنظيم العالمي المعروف إعلاميًا بالتنظيم الدولي بمدينة إسطنبول في تركيا. وتقدم الحاج مصطفى مشهور، المعروف حركيًا آنذاك باسم أبو هاني، باقتراح إلى هيئة المكتب حمل عنوان: إعادة تقييم المرحلة الماضية من عمر التنظيم العالمي
، التي كانت قد وصلت إلى ما يقرب من عشر سنوات، وانقسمت الورقة إلى خمسة أقسام رئيسية هي:
1- فكرة التنظيم العالمي.
2- أهدافه.
3- وسائله.
4- سلبيات العمل في الفترة الماضية.
5- الاقتراحات والتوصيات.
وجاء في البند الثالث، ما يتعلق بالوسائل، ما يلي:
ويرى بعض الإخوة أنه، وبعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من عمر التنظيم العالمي، ومغالاة الأنظمة في حرب الجماعة، والوقوف بشكل عام أمام أي توجه إسلامي صحيح [في هذا الوقت لم يكن التنظيم في مصر قد تعرض لأي مضايقات من أي نوع بعد]، فإن هناك وجهًا آخرَ لوسائل التغيير لابد من إعادة النظر فيه وتجليته للوصول إلى رؤية شرعية محددة لوسيلة من أهم وسائل التغيير داخل مجتمعنا، انطلاقًا من ثوابت فكر حسن البنا. ونستطيع أن نلحظ أن الإمام البنا قد اختار وسيلة بعينها في الأجواء الليبرالية التي كانت تحيط به، وهي النضال الدستوري، لكنه لم يغلق باب الخيارات الأخرى التي قد تحتاجها الحركة للتغيير النهائي. ومن أجل ذلك، نستطيع أن نقول إن المعالم النظرية للمشروع الحركي الإخواني قد تبلورت في صورة أقرب إلى النضج، ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن أي نظرية في العلوم الإنسانية يمكن أن تصل إلى صياغتها النهائية، بل يظل الباب مفتوحًا للمراجعة والتقويم. وتلخيصًا، نقول إن الإمام البنا قد قام بما يلي:١- دراسة الواقع المحيط وتحديد المشكلة المطلوب علاجها.
٢- تحديد الأهداف الاستراتيجية للحركة.
٣- تحديد وسائل التغيير وحصرها فيما يأتي:
أ- وسائل التغيير المباشرة: النضال الدستوري، الانقلاب العسكري، الثورة المسلحة.
ب- وسائل التغيير غير المباشرة: العمل الجماهيري ونشر الفكرة.٤- بناء أجهزة الحركة المناسبة للتغيير: التنظيم الخاص، التنظيم العسكري، الشعب، الجهاز التربوي، الجهاز الإعلامي، المؤسسات الاقتصادية.
(مصطفى مشهور، إعادة تقييم المرحلة الماضية من عمر التنظيم العالمي)
لم يمضِ على اقتراح مشهور عام واحد، حتى اكتشفت أجهزة الأمن المصرية -بالصدفة البحتة- خطة أشرف على وضعها وتنفيذها تلميذ مصطفى مشهور النجيب؛ خيرت الشاطر، الذي أنكر معلمه وأستاذه مصطفى مشهور في التحقيقات لاحقًا، وأُطلق عليها آنذاك خطة التمكين
. وُضِعت خطة تحرك التنظيم كاملة على ديسكات كمبيوتر في مقر شركة سلسبيل، المملوكة لمحمد خيرت الشاطر وحسن عز الدين يوسف مالك. كانت تلك الخطة أبرز ما انتهى إليه العقل الإداري للإخوان، الذي عمل عليه أهم عقول وقيادات الجماعة من الصف الثاني والثالث (جيل السبعينيات والثمانينيات)، وهو مشروع يعيد تنظيم الجماعة إداريًا، ويرتب هياكلها ومؤسساتها المختلفة بطريقة بالغة الدقة، ويرسم لها خطوات محددة ومنهجية للسيطرة على جهاز الدولة وتولي السلطة سلميًا.
وفي 5 فبراير 1992، كانت جميع الخيوط تؤدي إلى العقار رقم 158 شارع الحجاز بمصر الجديدة، بعد أن تأكد رجال الأمن أن المكان يُستغل في عقد لقاءات واجتماعات ليلية لمكتب إرشاد الجماعة، وفي غير أوقات العمل بالشركة، ويتم حضور المشاركين وانصرافهم فرادى. وفي التاسعة مساءً، هاجمت قوات الأمن مقر الشركة الدولية للتنمية والنظم المتطورة (سلسبيل)، وتم القبض على خيرت الشاطر وحسن مالك وطاهر عبد المنعم وحوالي 85 عضوًا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، من بينهم جمعة أمين ومحمود عزت.
وبمجرد اقتحام الأمن للشقة رقم 102 بالدور الأول، حاول المتهمون التخلص من الوثائق بإلقائها في الشارع، فكانت مفاجأة للأمن الذي لم يتوقع أهمية ما عثروا عليه من وثائق. وبمحض الصدفة، اكتشف الأمن خطة التمكين التي تقع في ثلاث عشرة ورقة بخط اليد، التي ضبطت صورها الضوئية على ديسكات كمبيوتر في مكتب خيرت الشاطر بمقر الشركة، وموقعة بقلمه، وعليها توصية بذات القلم بأن تُوزع تلك الوثيقة للجنة الانتخابات والمكاتب الإدارية بالمحافظات.
وتضم خطة شاملة لعملية التمكين، تبدأ بالحث على التغلغل في قطاعات الطلاب والعمال والمهنيين ورجال الأعمال ومؤسسات الدولة كالجيش والشرطة. وتركز على ضرورة التغلغل في المناطق والفئات الشعبية الأقل قدرة، باعتبارها حجر الزاوية في خطة التمكين، لأن انتشار جماعة الإخوان في هذه القطاعات –كما تقول الوثيقة– يجعل قرار مواجهة الدولة للجماعة أكثر تعقيدًا وصعوبة، ويفرض على الدولة حسابات أكثر تعقيدًا، ويزيد من فرص الجماعة وقدرتها على تغيير الموقف وتحقيق التمكين.
كانت الجماعة تعد العدة للاستيلاء على الحكم، لكن بصورة منظمة هذه المرة، حتى وهي تنسق مع أجهزة أمن النظام. وعرفت القضية إعلاميًا باسم قضية سلسبيل، وحملت رقم 87 لسنة 1992. واتهم فيها الإخوان بغسل الأموال وتلقي أموال من الخارج. وبِاكتشافها تأكد للنظام، بالدليل، قوة الجماعة، وأنها صارت أقرب لدولة موازية له، لكنها تفتقد لكل عيوب وترهلات الدولة المباركية.
تطرح خطة التمكين رؤية الإخوان في التعامل مع الواقع المصري قبل التمكين. فمثلًا، تطرح كيفية التعامل مع الأحزاب السياسية والنقابات والأقباط وحتى اليهود المصريين، وكذلك رؤية الجماعة في التعامل مع الواقع العالمي، مثل الولايات المتحدة والغرب. ويمثل الأقباط معضلة للإخوان المسلمين، نظرًا لأنهم كتلة كبيرة، ولهم قدرات متعددة، وعندهم وعي وثقافة عالية. فتطرح الوثيقة ثلاث أساليب للتعامل مع الأقباط، أو كما تصفهم الوثيقة بـالمجتمع القبطي
: إقناعهم بأن وجود الإخوان المسلمين وتطبيقهم للشريعة الإسلامية هو عين مصلحتهم، لأنه سيوفر لهم عدالة لا يوفرها النظام الحالي. وإن لم يفلح هذا الأسلوب، فعلى الإخوان، حسب الوثيقة، استخدام الأسلوب الثاني وهو التأمين، والمقصود به تحييدهم عن مواجهة الإخوان، بأن يشعر الأقباط أن وجودهم لا يشكل خطرًا عليهم وعلى مصالحهم وعلى موقفهم في الدولة. أما ثالث أسلوب تطرحه خطة التمكين فهو التفتيت، وهو استغلال الجماعة لنفوذها وقدراتها لتفتيت الصف القبطي، وتقليل خطرهم الاقتصادي وإضعافهم ماديًا، حسب نص الوثيقة.
وتتحدث الوثيقة عن النقابات المهنية والتجمعات العائلية والقبلية والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وتحدد أساليب التعامل مع هذه الجماعات والأحزاب. أولها: الدخول فيها والسيطرة على مراكز القرار وتوجيهها من الداخل. وثانيها: إن تعثر الاختراق والتوجيه من الداخل، فليكن التنسيق والتوجيه من الخارج. كما تتحدث الوثيقة عن الاستفادة من البعد الخارجي، والمقصود به عند الإخوان المجتمع الدولي والدول التي تربطها علاقات ومصالح بمصر، وهو ما تذكره الوثيقة تحت عنوان فرعي “القوى الخارجية المعادية: أمريكا والغرب”. وتطرح ثلاث وسائل للتعامل مع الغرب: تبدأ بمرحلة التعايش، وصدور خطاب يؤكد ضرورة تعامل الغرب مع القوى الحقيقية في المنطقة، وهي الإخوان. وتضم هذه الوسيلة، في خطابها، التحييد، مؤكدةً أن من مصلحة الغرب عدم الإضرار بالإخوان، لأنهم لا يشكلون خطرًا عليه ما داموا لم يحتكوا به. وأخيرًا، تقليل الفاعلية بالتأثير على مصالح الغرب في المنطقة، دون أن تفسر الوثيقة كيفية التأثير على مصالح الغرب، سواء بالعنف أم بالسياسة.
أما من حيث تكوين الأفراد والبناء الهيكلي، فإن الوثيقة تؤكد ضرورة رفع قدرات الأفراد “العناصر الإخوانية” على التأثير في المجتمع حسب ظروف تنفيذ الخطة، وتؤكد على أن الانتشار في المجتمع هو صُلْب خطة التمكين، وضرورة الحوار والإقناع لجميع فئاته. أما أهم ما ورد فيها، فهو إشارتها بوضوح بالغ إلى أهمية تغلغل جماعة الإخوان في المؤسسات الفاعلة في المجتمع، وهنا مكمن الخطورة؛ لأن المؤسسات الفاعلة في عرف الجماعة ليست فقط النقابات المهنية والمؤسسات الإعلامية والفضائية ومجلس الشعب، بل أيضًا “المؤسسات الأخرى” التي تتميز بالفاعلية والقدرة على إحداث التغيير، وقد تستخدمها الدولة في مواجهة الحركة وتحجيمها، وفي مقدمتها قوات الجيش، وأجهزة الشرطة، ونوادي القضاة.
ضربت خطة التمكين مع ضرب مجموعة شركة سلسبيل، وتم التعتيم على تلك القضية، ثم صدرت تعليمات مبارك بغلق القضية بعد إحدى عشرة شهرًا من التحقيقات التي تجاوزت أوراقها عشرة آلاف ورقة، وبعدها خرج جميع المتهمين بدون اتهامات حقيقية، وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن خطة تمكين لم تضبط، وبدون أي تفسير مقنع. مما يطرح تساؤلات عدّة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت نظام مبارك للإفراج عن المتهمين في تلك القضية، وتدخله في السلطة القضائية.
وبعد خروج الشاطر من السجن، وفي عام 1995، دخل خيرت الشاطر مكتب الإرشاد، وصعد فيه بسرعة كبيرة على يد محمود عزت الذي يُعتبر من أقوى رجال التنظيم، ودعم عزت الشاطر حتى استطاع أن يكون المسؤول عن أهم ملفين داخل الجماعة: التنظيم والتمويل، حتى أصبح الشاطر الرجل الأول في الجماعة دون منازع.
كانت الجماعة تتمتع بحرية نسبية وقدرة جيدة على الحركة، قبل أن تأتي قضية سلسبيل لتعكر صفو القائم بينهم ونظام مبارك. فبدأت الجماعة تواجه بملاحقة مستمرة، وتضييقًا على وجودها في معاقلها الرئيسية، مثل النقابات المهنية والاتحادات الطلابية اللَّتين طالمَا تفردت بهما لسنوات. ومع منتصف التسعينيات، ظن مبارك أنه قد أحكم السيطرة على المجال السياسي باتجاه منع الإخوان من الاستمرار في استراتيجية التمدد والمشاركة، لكن الحقيقة أن الجماعة ظلت على نفس وضعها وقوتها وتواجدها في الشارع، بل بالعكس، استطاعت الجماعة السيطرة على رجل الشارع البسيط غير المسيس، وقدمت نفسها على أنها البديل العاقل السلمي للإسلام السياسي في مصر، خصوصًا مع تفاقم موجات الإرهاب التي واجهتها مصر في التسعينيات.
في نفس الوقت، كان نظام مبارك يحكم سيطرته فعليًا على أي تنظيمات سياسية مدنية أخرى، لأن هذا النوع من الأنظمة السياسية الهشة، مثل نظام مبارك، كان يخاف من أي تمدد لأي تنظيم سياسي مدني حقيقي؛ فقد يأتي الوقت ويكون هذا التنظيم هو البديل الحقيقي لحكمه. لذا، فأي تيار مدني يزداد نفوذه في ظل مثل هذه الأنظمة، فلابد أن تأتي اللحظة التي يبدأ فيها ضربه. وهناك سؤال يجب أن يُطرح هنا: إن كانت الجماعة، حتى هذا الوقت، تعمل بلا أي غطاء قانوني بعد صدور قرار حلها الثاني بيد عبد الناصر، فلماذا ترك مبارك الجماعة تعمل في الخفاء دون أن يتخذ قرارات قانونية ضدها، في نفس الوقت الذي كان يتخذ فيه قرارات تعسفية ديكتاتورية ضد قادتها ويحاكمهم عسكريًا كما سنرى قريبًا؟
الإجابة تتلخص في أن مبارك، مثله مثل أي ديكتاتور، لا يؤمن بالديمقراطية، ولا ينوي التخلي عن عرش مصر إلا مع تخليه عن الحياة نفسها. لذا كان لابد من وجود فزاعة مثل الإخوان، تعمل على إخافة الشعب دائمًا، وتمنعه من المطالبة برحيل مبارك خشية وصولهم إلى الحكم. لذا تخيل مبارك، أو هكذا أظن، أنه كان سيبدو بطلًا أمام الشعب وهو يداوم على التنكيل، شكليًا، ببعض قيادات الجماعة بدون غطاء قانوني حقيقي، مع أنه كان متوفرًا تحت يديه طوال الوقت.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤