المقال رقم 40 من 40 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

الانتخابات البرلمانية 1984

اكتسبت الانتخابات التي أجريت في مايو 1984 أهمية خاصة بالنسبة ل، ويعود ذلك ببساطة إلى أنها كانت الانتخابات الأولى التي تُجرى في عهده، ولأنها وفرت فرصة لتأكيد التزامه بالتعددية السياسية. كما وفرت الانتخابات سياقًا قويًا لكي يبني مبارك أسسًا جديدة لشرعيته. وقد صُمّم النظام القانوني الانتخابي على أساس يسمح للأحزاب فقط بدخول الانتخابات، ويُغلق الطريق أمام المستقلين، وبالطبع أمام جماعة الإخوان. فكان الحل الوحيد أمام الجماعة هو الترشح على صفوف أحد الأحزاب القائمة بالفعل، حتى لو اختلفت الأفكار والأيديولوجيات. ولم تجد الجماعة أقرب من حزب الوفد العجوز الليبرالي الهوى ليرشح أفرادها على قوائمه.

ووافق الوفد، وكانت صفقة ناجحة للطرفين؛ فالوفد بقيادة يبحث عن تأييد شعبي وجماهير يجدد بها شبابه المتهالك، والإخوان بقيادة التلمساني يمتلكون قاعدة شعبية بلا غطاء سياسي، ويبحثون عن الشكل القانوني الذي يعطي رسالة طمأنة للعالم أنهم ليسوا جماعة عنف، بل إنهم جماعة تؤمن بالتغيير عن طريق العمل السياسي السلمي، ومستعدون له ويمارسونه بالفعل من خلال حزب ذي تاريخ عريق مثل الوفد. وما أشبه اليوم بالبارحة! فلم يكن ذلك التحالف الأول بين الحزب والجماعة، فالمصالح مشتركة، والمنفعة مشتركة.

شارك الإخوان في الانتخابات بقائمة تضم 17 مرشحًا مع حزب الوفد، باتفاق بين وفؤاد سراج الدين. وأثار هذا التحالف استهجان الكثيرين. ويُذكر أن د. ، عدو الجماعة اللدود، قد استقال من الحزب اعتراضًا على هذا التحالف المبني على المصالح أولًا، وبسبب خلافه الشهير مع الشيخ ثانيًا، الذي كان على رأس قائمة مرشحي الإخوان. أما مبارك، الذي كان لا يزال حديث العهد بالسلطة، فلم يكن يريد أن يصطدم بالوفد الذي كان وقتها يشكل قوة سياسية واجتماعية كبيرة. ومن ثم فقد آثر مبارك السلامة، وترك هذا التحالف يمر. وحصد الإخوان من هذا التحالف 8 مقاعد في مجلس الشعب مقابل ثلاثة لحزب الوفد الجديد. وفي هذا العام 1986، أصبح المرشد الرابع لجماعة خلفًا لسلفه عمر التلمساني.

أحداث الأمن المركزي

في مساء الثلاثاء 25 فبراير 1986، خرج أكثر من 20 ألف جندي أمن مركزي من معسكرين للأمن المركزي في منطقة الأهرامات بالجيزة، مندفعين بخوذاتهم ورشاشاتهم وبنادقهم في مظاهرات مسلحة احتجاجًا على سوء أوضاعهم المعيشية. وتسربت شائعات عن قرار سريّ بمد سنوات الخدمة العسكرية من ثلاث إلى خمس سنوات. وخرج الجنود إلى الشوارع، وقاموا بإحراق فندق چولي ڤيل، الذي كان وقتها من أحدث وأضخم فنادق القاهرة، ويقع في مواجهة أحد المعسكرين اللذين بدأ منهما التحرك مباشرة. وتتيح واجهاته الزجاجية الفرصة لمشاهدتهم لما يجري من ورائه، فحطم الجنود هذه الواجهات الزجاجية، ثم اقتحموا الفندق وبدأوا يحرقون كل ما فيه.

ثم قاموا بإحراق فندقي هوليداي سفنكس ومينا هاوس، ومبنى قسم شرطة الهرم، وبعض المحال التجارية والفنادق في شارع الهرم، وهو ما تسبب في خسائر قدرت بعشرات الملايين من الجنيهات. وخلال ساعات استطاع الجنود احتلال منطقة الهرم بأكملها، بما في ذلك مداخل طريق الإسكندرية الصحراوي وطريق الفيوم وترعة المنصورية. وعند هذا الحد انتاب مبارك الذعر، فأستنجد بوزير الدفاع المشير ليتولى الجيش الموقف.

وفي الثالثة من صباح الأربعاء 26 فبراير، أُعلنت حالة الطوارئ، وتم فرض حظر التجول في تلك المنطقة. وفي حوالي السادسة صباحًا، انتشرت قوات الجيش واحتلت عددًا من المواقع التي يتواجد فيها الجنود المتمردون، وبدأت في حصارهم. وبعد معارك ضارية، استطاعت قوات الجيش أن تسيطر على المنطقة. وحتى ذلك الحين، لم يمتد ما يجري في منطقة الأهرام إلى بقية العاصمة. وما كادت ساعات صباح الأربعاء تمر حتى بدأت الانتفاضة في أغلب معسكرات الأمن المركزي الأخرى في العاصمة، في شمالها وشرقها وجنوبها الغربي. وتعالت أصوات اشتباكات الرصاص مع قوات الجيش التي كُلفت بسحب السلاح من جنود الأمن المركزي في كافة المعسكرات، بعد أن تزايدت الشكوك من اختراق سياسي واسع داخل جهاز الأمن المركزي.

وفي شارع الهرم، بدأ الوضع يأخذ منحىً آخر، حيث انحازت كتلة من الفواعليّة وعمال الت والشحاذين والطلاب والعاطلين عن العمل من سكان منطقة الطالبية الفقيرة إلى جنود الأمن المركزي، وبدأوا يشاركونهم في تحطيم الكباريهات والفنادق الموجودة في المنطقة، مثل كازينو الليل والأهرام وأوبرچ الهرم والأريزونا وغيرها. وتم إعلان حظر التجول في كافة مناطق العاصمة، وتم تحذير المواطنين من البقاء في شوارع المدينة بعد ساعتين من قرار الحظر، خوفًا من أن تشجع حركة الجنود فئات أخرى على التحرك، خاصةً أن عناصر من الفقراء والعاطلين بدأت تشارك جنود الأمن المركزي الفارين في الهجوم على السيارات والمحلات التجارية في منطقة الدقي، وتحول الأمر إلى فوضى عارمة.

استمرت حالة الانفلات الأمني لمدة أسبوع، أُعلن فيه حظر التجوال، وانتشرت قوات الجيش في شوارع القاهرة. اعتُقل العديد من قوات الأمن المركزي، وقامت طائرات الهليكوبتر بضرب معسكراتهم بالصواريخ، وحلقت فوق رؤوس الجنود تنتظر الأمر بالضرب في المليان إذا حاولوا التوجه إلى مصر الجديدة، حتى استطاع الجيش في النهاية السيطرة على الوضع.

هذا الحادث هز مبارك هزًّا عنيفًا، فقد شعر بسهولة أن الجيش قد يُجري انقلابًا عليه بسهولة شديدة. فكان على مبارك أن يتصالح مرة أخرى مع القوى السياسية والاجتماعية الموجودة على الساحة، ومنها بالضرورة جماعة الإخوان المسلمين، بسياسة سار عليها طوال عمره؛ سياسة التوازن بين جميع القوى الموجودة المؤثرة، ومسك كل خيوط اللعبة. ومن ثم، فقد أرسل مبارك الدكتور علي لطفي، مندوب رئاسة الجمهورية، لحضور جنازة عمر التلمساني، مرشد الجماعة التي لا تزال رسميًا جماعة محظورة، بينما الواقع يقول عكس ذلك. وفي عام 1987، قضت المحكمة الدستورية ببطلان انتخابات مجلس الشعب لأن الانتخابات حرمت المستقلين من خوضها، وأُجريت فقط بين الأحزاب، ما استدعى إعادة الانتخابات مرة أخرى.

الانتخابات البرلمانية 1987

قبيل الانتخابات البرلمانية الثانية في عهد مبارك، بادرت جماعة الإخوان المسلمين بالاتصال بحزب الوفد لتكرار تجربة التحالف التي أُوتيت بثمارها سابقًا. وعلى غير المتوقع، رفض حزب الوفد التحالف مرة أخرى لأسباب غير مفهومة. فقرر الإخوان، بقيادة المرشد الجديد محمد حامد أبو النصر، التحالف مع حزب الأحرار الين بقيادة مراد، و بقيادة إبراهيم محمود شكري، الذي كان حزبًا اشتراكيًا في البداية ثم أعلن توجهه الإسلامي عام 1986، ليصبح تحالفًا سياسيًا إسلاميًا حزبيًا تحت شعار الإسلام هو الحل.

وحصل الإخوان لأول مرة في تاريخ الجماعة على 36 مقعدًا في مجلس الشعب من أصل 60 مقعدًا ترشحوا لها من إجمالي 448 مقعدًا في انتخابات مجلس الشعب. وبعث هذا الانتصار برسالة مقلقة إلى مبارك، الذي رأى أن تلك النتيجة ستحدث خللًا في التوازن الذي ينشده، بالإضافة إلى أن النظام قد وعى إلى أنه أمام جماعة منظمة محترفة، تعلم كيف تمارس السياسة وتمارس عملًا اجتماعيًا ودعويًا، ولديها من الأموال ما يكفي لتحقيق تطلعاتها السياسية.

في نفس العام 1987، انتهت الفترة الرئاسية الأولى لمبارك، وذهب الإخوان إلى مجلس الشعب مع المرشد ليبايعوا مبارك على ولاية ثانية. وقتها قال الهضيبي لمبارك وهو يبايعه: وجدناك شريفًا وأمينًا ووطنيًا، فبايعناك، ليرسخ بذلك مبدأ المعارضة الإخوانية المستأنسة.

وفي عام 1990، قضت المحكمة الدستورية بحل البرلمان للمرة الثانية بسبب قرار الحكومة بإجراء الانتخابات بطريقة الجمع بين القائمة والفردي، على أن يكون الفردي للمستقلين، ولأن اتساع الدوائر لم يحقق عدالة المنافسة للمستقلين. أضف إلى ذلك أن الأحزاب تحايلت على الوضع ودفعت بمرشحيها كمستقلين فرديين، وكان أشهر من قاموا بذلك ، زعيم حزب التجمع في دائرة شمال القليوبية. كانت هذه هي الأسباب القانونية التي أدت إلى حل البرلمان، لكن الكثيرين يعتقدون أن مبارك كان صاحب القرار الحقيقي في حل البرلمان بسبب عدد المقاعد التي استطاعت جماعة الإخوان الحصول عليها.

السياسة الموازية

بعد حل مجلس الشعب عام 1987، فقدت الجماعة أحد أهم أدواتها في العمل، لكنها كانت لا تزال تحتفظ بالأدوات الأخرى. ومن ثم، دشنت الجماعة فكرًا جديدًا خاصًا بها، وهو ضرورة إنشاء قواعد بديلة كمؤسسات مجتمعية تكتسب شرعية قانونية وشعبية. فقررت الإخوان أن تكون النقابات المهنية نقطة بديلة، سعت الجماعة من خلالها لفرض انتشارها ووجودها السياسي والمجتمعي، ومحاولة تعويض المعوقات السياسية التي فرضها النظام ضدها. فبدأ الإخوان في تبني سياسة التغلغل في جميع المؤسسات، من نقابات واتحادات وأسر طلابية وهيئات تدريس. ولقد تفننوا في المتاجرة بالشعارات الدينية، كشعار الإسلام هو الحل، وسؤالهم للناخبين مثلًا في انتخابات نقابة التجاريين عام 1989: هل ستعطي صوتك لله تعالى؟

ولم يحمل الإخوان أي غضاضة في خلْف وعودهم والحنث بها. فنجد و يصرحان بأنه لا بأس من الوعد بخدمات مقابل الحصول على تأييد انتخابي وسياسي، حتى ولو لم تُنفذ تلك الخدمات والوعود. وفي غضون عامين، أصبحت معظم النقابات المهنية تحت سيطرة الجماعة، وصارت النقابات أعلى صوت إخواني في مصر، وانتقلت المواجهة بين مبارك والإخوان من البرلمان إلى النقابات المهنية. والحقيقة أنه في عهد مبارك، تحول التنظيم إلى أداة فعالة للتعبئة، لكن على قاعدة اجتماعية ومجتمعية.

ومن اللافت للنظر أن عددًا كبيرًا من الشباب الذين مثلوا قاعدة في وسط وأواخر السبعينيات، ظهروا مرة أخرى في سنوات لاحقة كمُرشّحين للإخوان المسلمين في النقابات المهنية، وفي نوادي أساتذة الجامعة، وفي مجلس الشعب. ومن بين هؤلاء القادة ، أمير كلية الطب بجامعة القاهرة، الذي انتُخِب في مجلس الشعب وكان أصغر أعضائه سنًا في عام 1984، ثم أصبح عضوًا في مجلس نقابة الأطباء. وهناك أيضًا عبد المنعم أبو الفتوح، الذي كان رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة عامي 1975 و1976، وقد انتُخِب أمينًا عامًا لنقابة الأطباء في عام 1988. وهناك ، أمير الأمراء السابق للجماعة الإسلامية، وانتُخِب أمينًا عامًا مساعدًا لنقابة الأطباء بالجيزة في عام 1984. وأخيرًا، أبو العلا ماضي، النائب الأول لرئيس اتحاد طلاب مصر عام 1978، وانتُخِب أمينًا عامًا مساعدًا لنقابة المهندسين عام 1988.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 مبارك رئيسا.. بالصدفة
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎