عُرف عن دون كيخوته
، بطل رواية الأديب الإسباني ميجيل دي ثيربانتس سابدرا
التي تحمل اسمه، أنه يحارب طواحين الهواء، ويدخل معارك وهمية من أجل مجد غير موجود. وربما هذه هي السمة الغالبة لدى قطاع واسع من الشعب المصري، الذين ينهمكون في محاربة طواحين الهواء والدخول في معارك وهمية، بدلًا من الالتفات إلى مصالحهم. وللأسف، هذه الفئة من المصريين صوتها مرتفع، وتبتز غيرها ممن لا يهتمون بطواحين الهواء. فتكون النتيجة أننا كمصريين نضيع طاقاتنا في اللاشيء، ونترك مصالحنا لآخرين، مع أن المثل المصري يقول: اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع
.
شرعت في كتابة هذا المقال ﻹكمال الحديث عن أزمة دير سانت كاترين التي كتبت عنها اﻷسبوع الماضي، وكنت أود أن أشير إلى إننا كمصريين سبب رئيس في تجرأ شعوب أخرى على آثارنا وتاريخنا ونسبهم ﻷنفسهم، ﻷننا ببساطة نتبرأ من معظم تاريخنا ونهمله، بل نحتقره ونزدريه بوازع ديني قومي، يريد نسبنا لحقبة تاريخية بعينها، أو اعتبار إننا “عرب” فقط، فيتجرأ علينا أتباع حركة اﻷفروسنتريك “المركزية اﻹفريقية”، مدعين إنهم أصحاب الحضارة المصرية اﻷصليين وإننا المصريين “أحفاد الغزاة” ﻷننا نقول على أنفسنا إننا عرب، وبنفس المنطق يُرفع علم اليونان على دير سانت كاترين الواقع على أرض مصر، ﻷن كنيستنا المصرية ابتعدت عن هويتها اليونانية وانقطعت عنها فيكون المبرر إنكم لستم يونانيين، نعم لسنا يونانيين عرقيًا، لكن اليونانية كلغة للفلسفة والثقافة جزء كبير من تاريخ مصر ومن تاريخ كنيسة اﻹسكندرية، التي كانت مدرستها اللاهوتية عامل رئيس في تأسيس اللاهوت المسيحي.
من يريدون حصرنا على هوية بعينها، سواء القبطية أو العربية وغيرها، هم بضيق أفقهم يخصمون من قدر وقيمة مصر، فمصر تاريخها ممتد ومر بمراحل عدة ومختلفة لفترة تخطت 5 آﻻف سنة، وﻻ يمكن حصرها في هوية واحدة فرعية، العربية واليونانية والقبطية، والمصرية القديمة وغيرها جزء من المكون اللغوي للشعب المصري، ولا يمكن نسبنا لهوية اللغة التي نتحدثها، فالبرازيل تتحدث البرتغالية ولكنهم برازيليين وليسوا برتغاليين، وبقية دول أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى والمكسيك يتحدثون اﻹسبانية وليسوا إسبان، فالهوية المصرية بالتالي أوسع من العربية، بالنسبة لمصر، ولهذا ظهر تيار قومي مصري يريد العودة واﻻحتماء في الهوية المصرية القديمة، وهنا لي عدة ملاحظات:
التيار القومي يلقبه منتقدوه من التيارات السياسية اﻷخرى كاليسار والعروبيين واﻹسلاميين بـ”الكمايتة” نسبة إلى اسم مصر قديمًا “كِمت” ومعناها الأرض السوداء نسبة للون الطمي الذي يحمله معه نهر النيل، ولم يزعج هذا الوصف أنصار تيار القومية المصرية بل يتباهون به، لكن ﻷنهم تيار غير منظم، وهو عبارة عن مجموعات صغيرة أو أفراد مستقلين فكل منهم له تصور، بعضهم يريد التركيز على التاريخ المصري القديم وحقب ما قبل احتلال جنسيات أخرى لمصر، وأرى أن هذا يمثل تطرفًا في مواجهة تطرف أصحاب التوجه العروبي، والبعض منهم يفكر في مصر كدولة حاليًا تجمع التاريخ المصري القديم والحقب اليونانية والرومانية والمسيحية واﻹسلامية وغيرها، ويرى أن كل هؤلاء هم مكون لمصر، فبعضهم يفضل فن اﻷيقونة القبطي واﻷلحان القبطية وتلاوة القرآن وفقًا للمدرسة المصرية في التلاوة، ويروج لكل ما هو مصري ويعتز به، وهؤلاء في رؤيتهم وإن كان عددهم ليس كبيرًا، لكنهم يمثلون شيء من الرشد في الصراع الهوياتي الذي يريد صاحب كل هوية فرعية مما تم ذكرهم أن يفرضها لتكون هوية غالبة لكل المصريين.
وهنا أعود إلى حلقة “مين هما المصريين” التي ناقشت فيها وزميلتي هاجر عثمان مع ضيفنا دكتور يسري مصطفى
، الباحث في قضايا التنمية والثقافة، وكان مجمل كلامه إن فكرة صراع الهويات الفرعية لم يعد له معنى في ظل دولة الدستور والقانون الحديثة، فيرتبط كل مواطن بدولته من خلال حمله لجنسيتها، وهذا يسمح له بالتعبير عن هويته وثقافته الفرعية، وإذا كان التيار القومي المصري الذي يرى البعض أنه بدأ يتكون حاليًا يؤمن بهذه الفكرة فإنها ستكون خطوة نحو سلم مجتمعي وتقدم نحو التعددية والتنوع وسيادة ثقافة قبول اﻻختلاف واﻵخر، ووقتها سيشعر كل مصري أن ما يوجد من تراث وتاريخ متنوع ومتعدد يخصه شخصيًا ولن يسمح لشعوب أخرى أن تنسبه لنفسها، بل لن يتجرأ أحد بفعل ذلك ﻷن أصحاب هذا التراث مرتبطين به.
وفيما يخص اﻷحداث المتلاحقة حاليًا، فما اصطلح على تسميتهم (التيار القومي المصري) هم مواطنين مصريين طبيعيين، قد يكونوا حائط الصد والمدافع الأول عن مصالح مصر والمصريين، في مقابل التيارات اﻷخرى التي تريد استنزاف المصريين وإمكانات الدولة المصرية التي تكفيها بالكاد لمصلحة قضايا أخرى ﻻ تخص مصر، ولنا في القافلة المزعومة التي تحركت من دول وشعوب ﻻ يصدر عنها سوى مزايدات رخيصة على موقف مصر وشعبها الذين ضحوا وقدموا الكثير من دماء خيرة شبابهم، ونزيف ﻻقتصادنا وحروب خضناها ولم نجن منها شيئًا ﻷجل القضية الفلسطينية، وهنا لا أدعو للتخلي عن مساندة الشعب الفلسطيني، بل يجب مساندتهم، واﻷولوية هنا في هذه المساندة هي الحفاظ على اﻷمن القومي المصري ومصالح الشعب المصري، ولو تعارضت هذه المساندة مع مصالح الشعب المصري فلتتوقف فورًا.
فرغم كل المزايدات الرخيصة فإن 80% من المساعدات التي دخلت لغزة كانت من مصر، منذ 7 أكتوبر 2023، ومن يقف حائط صد ضد تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو تصفية القضية الفلسطينية، هو مصر بمؤسساتها وشعبها، وتحملوا ضغوطًا كبيرة بسبب موقفهم هذا.
لذا في ظل التوترات الحالية وعدم اﻻستقرار الذي يحيط بالعالم عمومًا، ومنطقة الشرق اﻷوسط التي نعيش فيها بوجه خاص، فإن وجود دولة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى تستوعب التعددية والتنوع ليس رَفَاهيَة، بل طوق نجاة في حاضر ملتهب ومستقبل مﻻمحه غامضة.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.