
- كيف نشأت الجماعة؟
- ما بين العنف والنفاق
- الإخوان والعمل السياسي
- نشأة النظام الخاص
- المواجهة الأولى
- الإخوان المسلمين والبرلمان
- الإخوان وحكومة النقراشي
- الإخوان وحكومة صدقي
- انشقاق البنا والسكري
- الإخوان والدم
- قتل الخازندار
- الإخوان والحرب
- حل الجماعة
- ما بعد حل الجماعة
- أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
- نسف محكمة الاستئناف
- حادث حامد جودة
- الهضيبي مرشدا
- الإخوان وعبد الناصر
- عبد الناصر مرشدا
- اعتقال الهضيبي
- نهاية شهر العسل
- التنظيم السري من جديد
- الحل الثاني للجماعة
- قطب وناصر
- أزمة مارس ١٩٥٤
- حادثة المنشية
- محكمة الشعب
- عزل نجيب
- تنظيم ٦٥
- ☑ إعلام المؤامرة
- السادات رئيسا
في مايو 1967، كانت كل المؤشرات تُشير إلى هجوم محتمل من إسرائيل على مصر. وقد أكد الجاسوس المصري في تل أبيب، رفعت الجمال، هذه المعلومة، وزوّد المخابرات المصرية بموعد الهجوم المحتمل صباح 5 يونيو 1967. إلا أن المعلومات لم تُؤخذ مأخذ الجد لوجود معلومات أخرى تُشير إلى أن الهجوم سينصب على سوريا فقط، لدرجة أن عبد الناصر خطب في 3 يونيو مُهدّدًا الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقة قائلًا: للأسف، سأكون مضطرًا إلى إغراق الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط
. في الوقت نفسه، كان قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر منشغلًا بزواجه الجديد من الفنانة برلنتي عبد الحميد.
وإمعانًا في الإهمال، وجّه عبد الحميد الحديدي، رئيس الإذاعة المصرية وقتها، دعوةً لعدد من الفنانين والفنانات والراقصات، منهم الراقصة زينات علوي، والمطربة شهرزاد، والمطرب ماهر العطار، وغيرهم، لإحياء حفل بقاعدة إنشاص الجوية للترفيه عن الضباط والجنود مساء الأحد 4 يونيو 1967. وفي أثناء الحفل، تنامى إلى مسامع الجنود والضباط أصوات غارة جوية، لكن القيادة هناك طمأنتهم بأن طائرتين من طيران جيش الدفاع الإسرائيلي حاولتا اختراق الحدود المصرية، ولكن جيشنا الباسل تصدّى لهما، وأسقط إحدى الطائرتين في البحر، بينما ولّت الأخرى هاربة. وعاد الحضور إلى استكمال الحفل الذي امتد إلى الساعات الأولى من صباح يوم 5 يونيو 1967، حيث يُذكر أن الفنانين قد غادروا قاعدة إنشاص ما بين الساعة السادسة والسابعة صباحًا.
وفي الساعة الثامنة إلا ربعًا صباح الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 بالتوقيت المحلي، دوت صفارات الإنذار الجوية الإسرائيلية، مُعلنةً عن هجوم جوي مفاجئ على المطارات المصرية. استهدف سلاح الجو الإسرائيلي القواعد الجوية المصرية بقوة 12 طائرة لكل قاعدة. وعلى الرغم من وجود ملاجئ في بعض المطارات المصرية، إلا أنها لم تُستخدم، ربما بسبب عنصر المفاجأة. حلّقت الطائرات الإسرائيلية على ارتفاع منخفض فوق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر لتفادي الرادار. وقد سمح عدم الاستخدام الفعال للصواريخ المصرية أرض-جو، المُعاقَ بقصور بيروقراطي، بتحقيق نجاح إسرائيلي كبير. ومن المفارقات، أن القائد العام المصري، المشير عبد الحكيم عامر، كان في طريقه إلى سيناء ولم يعلم بالهجوم إلا عندما تعذر عليه الهبوط بسبب تدمير المطارات، مما اضطره للعودة إلى القاهرة. وقد دُمّرت قاعدة إِنشاص الجوية بالكامل في غضون ساعة من انتهاء الحفل.
حرب الأيام الستة عام 1967 أسفرت عن خسائر مدمرة لمصر: فقد دُمّر 209 طائرة من أصل 340 طائرة مصرية، وتكبد الجيش خسائر بنسبة 85% من القوات البرية، وسلاح الجو خسر 100% من قاذفات القنابل و87% من طائراته المقاتلة. واحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان. وفي الوقت نفسه، بثت وسائل الإعلام المصرية بصوت أحمد سعيد عبر إذاعة صوت العرب، وهو يدلي بتقارير مضللة بشكل صارخ عن انتصارات مصرية وخسائر إسرائيلية هائلة، مدعية إسقاط عدد من الطائرات الإسرائيلية يفوق بكثير العدد الحقيقي الذي تمتلكه إسرائيل من الطائرات! وقد أبلغت البرامج الإذاعية الأجنبية عن الحقيقة، لكن المصريين تجاهلوها واعتبروها متحيزة.
ظلت الصحف القومية المصرية أيامًا تنشر أخبارًا مكذوبة، فجاءت مانشيتات جريدة المساء، المملوكة لمؤسسة الجمهورية التي يرأس تحريرها السادات، كما يلي:
٥ يونيو ١٩٦٧: إسقاط ٤٣ طائرة للعدو.. طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات تتصدى لطائرات العدو.. كلنا رجل واحد خلف القائد في المعركة
٦ يونيو ١٩٦٧: الجيش العربي يزحف نحو تل أبيب.. القوات العربية طوقت منطقة النقب وتواصل زحفها.. الجيش السوري يدمر مواقع العدوان داخل الأراضي المحتلة تمهيداً للقوات الزاحفة
٧ يونيو ١٩٦٧: القتال مستمر… سنحقق أهدافنا… سوريا تسقط طائرتين للعدو وأسرت طيارًا إسرائيليًا صباح اليوم
٨ يونيو ١٩٦٧: إسقاط ٩ طائرات للعدو في القاهرة والقناة صباح اليوم.. طائراتنا تدمر قوة مدرعة للعدو.. محاصرة قوة أخرى من المدرعات الإسرائيلية بين العريش وساحل البحر
٩ يونيو ١٩٦٧: طائرات أمريكية تستكشف مدى الدمار الذي ألحقناه بمدرعات العدو.. القوات السورية تسقط ٥ طائرات للعدو خلال نصف ساعة صباح اليوم
١٥ يونيو ١٩٦٧، جريدة أخبار اليوم: أسقطنا ٤ طائرات للعدو، ودمرنا ٨ دبابات، ١٠ عربات، ٦ لوريات، لنشين، ٣ قوارب، مدفعين، ٣ مخازن للوقود والذخيرة
– قواتنا تصدّ عدوانًا إسرائيليًا واسع النطاق، والعدو يخسر ٥ قتلى، و٢٠ جريحًا، وأسيرين
بشرى يا عرب، لم يبقَ لجيشنا سوى ١٥ كيلو فقط على تل أبيب.(أحمد سعيد، إذاعة صوت العرب)
خدع ناصر وعبد الحكيم والسادات الشعب المصري والعربي كله وهم يعلمون، وساهمت بيانات أحمد سعيد المضللة في هلاك عدد من الجنود المصريين، عندما اعتمد المئات من الجنود المحاصرين على إذاعة صوت العرب، وهم وحيدون في قلب الصحراء بدون طعام ولا ماء ولا اتصال بالقادة الذين تركوهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم بدون خطة هروب، فقد أعلنت إذاعة صوت العرب أن فيالق مصر حاصرت الإسرائيليين في القطاع الأوسط من سيناء. فتهلل الجنود وفرحوا، وعدلوا عن خطة الهرب عن طريق القطاع الجنوبي، واتجهوا بدلًا من ذلك نحو القطاع الأوسط، حين وجدوا الجنود الإسرائيليين فجأة فوق رؤوسهم من كل جانب.
أفاق الشعب المصري بعد أيام قليلة على خبر النكسة، وعلى حقيقة أنّه لم تسقط طائرة واحدة للعدو، بل دُمّرت جميع الطائرات المصرية قبل تحرّكها من مكانها وهي على الأرض وقبل إقلاعها من المدرج. وفاجعة قتل أكثر من عشرين ألف جندي مصري دون قتال، وإصابة الآلاف، وأسر حوالي ستة آلاف جندي، بعضهم دُفن حيًا في صحراء سيناء. وبحلول صباح التاسع من يونيو 1967، كان كل شيء قد انكشف للشعب. كانت الصدمة قوية للغاية، فلم تكن صدمة واحدة بل صدمات: صدمة الهزيمة من العدو التاريخي لمصر والعرب، وصدمة القائد الأب الذي سخر من عقلية شعبه واستهان بعقولهم وضلّلهم أيامًا، وصدمة الخسارات التي لا تحصى ولا تُعدّ…
بعد ظهر هذا اليوم، أعلن التلفزيون المصري عن خطاب مرتقب للرئيس جمال عبد الناصر. ومع دقات الساعة الرابعة عصرًا، كان عبد الناصر يقف بقامته الفارهة أمام الكاميرات، بعيون حاول جاهدًا أن يجعلها تبدو حزينة ومنكسرة. وبدأ يقرأ خطابه المعد مسبقًا بصوت متهدج، محاولًا تبرير فشله ونظامِه من الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها البلاد، وإلقاء التهمة ومسؤولية الهزيمة على الاستعمار والمؤامرات الخارجية كما اعتاد أن يفعل. ومع اقتراب نهاية البيان، ألقى عبد الناصر بالقنبلة المدوية قائلًا:
لقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعًا أن تساعدوني عليه… لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر…(جمال عبد الناصر، خطاب التنحي)
كان الخطاب قد أعدّه الصحفي الأشهر محمد حسنين هيكل شديد البراعة والدهاء. وقد صرّح هيكل لاحقًا أن هذا البيان هو أخطر ما قام بكتابته في حياته كلها. ويكفي للتدليل على الأهمية التي أولاهُ عبد الناصر وهيكل لعملية صياغة هذا البيان أنهما جلسا ساعات طويلة يتناقشان حول اختيار مفرداته وجُمله وتعبيراته، في وقت كان العالم يغلي من حولهما. وقد استطاع هيكل ببراعة أن يختار مفردات تُلطف من الهزيمة، فاستخدم تعبير “النكسة” بدلًا من “الهزيمة”، و”العدوان” بدلًا من “الحرب”، و”آثار العدوان” بدلًا من “احتلال سيناء وتدمير الجيش المصري”، و”التنحي” بدلًا من “الاستقالة”.
وكان أداء عبد الناصر احترافيًّا في إلقائه للبيان، فقد استطاع بنبرات صوته الحزينة وتهدّجه، إلى حدّ بدا كما لو أنه يُعاني لينطق الكلمات، أن يجتذب تعاطف المصريين ويستثير مشاعر التوحد معه. وساعدته كلمات البيان القوية المنتقاة بعناية، التي أظهرت استحالة تجاوز البلاد للأزمة بدون استمرار عبد الناصر في موقعه رئيسًا. وكانما قدّم عبد الناصر عرض التنحي بيدٍ وسحبه باليد الأخرى، ففي الوقت الذي كان عبد الناصر يدعو فيه الشعب لقبول تنحيه، كان يُلوِّح بالخسارة الهائلة التي ستلحق بالشعب لو قبل دعوته. كان الخطاب، من هذه الزاوية، مغامرة ورهانًا على رفض الشعب لمبادرة عبد الناصر بالتنحي.
لكن الحقيقة أن الأمر لم يصل إلى حد اعتباره مسرحية، لأن احتمالات قبول المصريين للتنحي كانت واردة بدرجة محدودة. فبعد انتهاء البيان بدقائق، كانت شوارع مصر جميعها في كل المحافظات تعج بالمتظاهرين الذين رفضوا، وبكل قوة، تنحيه على الطريقة المصرية. فكلما يزداد فشل الزعيم والقائد، يزداد الشغف حوله باعتباره الوحيد القادر على تصحيح الكوارث التي تسبب هو نفسه فيها. وتوجهت الجماهير المصابة بحالة هياج عارم إلى بيت عبد الناصر في منشية البكري لحثه وإجباره على تكملة مسيرة التقدم، هاتفة “نحن اخترناك يا جمال يا حبيب الملايين”. واستمرت المظاهرات المؤيدة ليومين متتاليين بدون توقف، حتى خرج عبد الناصر مرة أخرى معلنًا تراجعه عن قراره السابق نزولًا على رغبة وإرادة الشعب المصري. وسرت شائعات قوية على أن تلك المظاهرات كانت معدّة ومرتّبة لها مسبقًا، وأن الجيش المصري قد دفع ببعض المتظاهرين بالقوة في كل المحافظات لإشعال فتيل الوطنية، التي استمرت بمفردها بمجرد اشتعالها.
يؤكد نظرية المظاهرات المفتعلة شهادات البعض الذين أقروا أن قوات الجيش طافت بالقهاوى الشعبية وأماكن تجمع المواطنين وأجبَرتهم على الخروج في تلك المظاهرات. كما أن الفنانة ماجدة صباحي، التي كانت تسكن في هذا الوقت في العمارة المقابلة لشيراتون القاهرة، وهي ذات العمارة التي كان يسكنها هيكل، طلبت من بعض مشاهير النخبة الثقافية والسياسية، أمثال أنيس منصور وكمال الملاخ، وما يقرب من ثلاثين شخصًا، أن يحضروا إلى بيتها قبل الساعة الرابعة لحضور البيان المرتقب. وفوجئ الحضور، بمجرد وصولهم، بكاميرات التلفاز معدة ومجهزة في شقة ماجدة لنقل تعبيرات وجوه الحاضرين وهم يسمعون خطاب التنحي.
بعد هزيمة يونيو 1967، أخذ المصريون يتهامسون ويتسائلون ويرددون الكثير من الأقاويل عن امتلاك مصر لصواريخ خارقة، أُطلق عليها اسم “القاهر” و”الظافر”، يصل مداها إلى حوالي 200 كم أو أكثر. وتبارت صحف النظام في التهويل من قدرات الصاروخ المعجزة، فأكدت صحيفة الأخبار أن مداه 600 كيلو، ويستطيع إصابة تل أبيب إذا أُطلق من القاهرة
، بينما أكدت صحيفة الأهرام أن مدى الصاروخ الجديد 1000 كيلومتر، ويستطيع أن يخترق نطاق الجاذبية الأرضية إلى الفضاء الخارجي
، حسب مانشيتها الرئيسي. بالإضافة إلى تصريحات منسوبة إلى عبد الحكيم عامر، أكد خلالها تمكن الأسطول من صنع غواصة جيب تصل إلى البحر خلال أسبوعين
.
لن أقصّ كيف بدأت الحكاية، وكيف أُنفقت ملايين الجنيهات على هذا المشروع، وكيف توقف، وكيف أسهم الإعلام المصري في تزوير الحقائق وخداع شعب مصر. إني أترك ذلك كله للتاريخ. ولكنّي سأتكلم فقط عن الحالة التي وجدت فيها هذا السلاح، وكيف حاولت أن أستفيد، بقدر ما أستطيع، من المجهود والمال اللذين أنفقا فيه. لقد وجدت أن المشروع قد شُطب نهائيًا، وتم توزيع الأفراد الذين كانوا يعملون فيه على وظائف الدولة المختلفة. أما القاهر والظافر، فكانت هناك عدة صواريخ منهما ترقد راكدة في المخازن. لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة، فقد كانت هناك عيوب جوهرية في هذا السلاح تجعله أقرب ما يكون إلى المقلاع أو المنجنيق اللذين كانا يُستخدمان خلال القرون الوسطى، بدون أية وسيلة لتحديد الاتجاه سوى توجيه القاذف في اتجاه الهدف قبل تحميل المقذوف على القاذف، وأقصى مدى يمكن أن يصل إليه هو ثمانية كيلومترات فقط!!!(الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان، مذكرات حرب أكتوبر)
وسط خضم الأحداث، وبينما كان الشعب كله يعاني مرارة الهزيمة المريرة، كان الشيخ محمد متولي الشعراوي يصلي لله ركعتين شكرًا على انتصار إسرائيل وهزيمة الجيش المصري، عندما كان يشتغل بالتدريس في الجزائر عام 1967م، وأعلن ذلك صراحةً في حوار تلفزيوني له.
إنّ الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي قط، وإنّ سبب هزيمتنا عام ١٩٦٧ هو اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة، فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة.(المشير محمد عبد الغني الجمسي، وزير الحربية)
هذا بالطبع، بالإضافة إلى أن قائد الجيش المصري، المشير عبد الحكيم عامر، لم يكن يحمل أي خبرة عسكرية حقيقية. فقد رُقِّيَ عام 1953 من رتبة صاغ [رائد] إلى رتبة لواء وهو لا يزال في الرابعة والثلاثين من عمره، متخطيًا ثلاث رتب، ليصبح القائد العام للقوات المسلحة المصرية. وفي عام 1954، عُيِّن وزيرًا للحربية مع احتفاظه بمنصبه في القيادة العامة للقوات المسلحة، ورُقِّيَ إلى رتبة فريق ثم مشير في 23 فبراير 1958، بالرغم من أن رتبة مشير، وتعني قائد ميداني، لا تُعطى إلا للقادة العسكريين الذين قادوا جيوشهم في الحروب.
برنارد مونتجمري وحسنين هيكل
القائد البريطاني الشهير، الفيلد مارشال (المشير) برنارد مونتجمري، في زيارته لمصر في 4 مايو 1967، قبل نكسة 5 يونيو بشهر واحد، سأل هيكل صراحةً: لماذا يتحول جنرالاتكم إلى السياسة؟
فوضح هيكل الظروف التي أدت إلى ذلك. فأجاب مونتغمري قائلًا: قد أكون على استعداد لفهم موقف ناصر، لكن هناك ضمن المجموعة ضابط آخر [يقصد عبد الحكيم عامر] أصبح مارشالًا سياسيًا
. ثم أضاف ساخراً: المارشالية لا تكون إلا بقيادة الجيوش في الميدان، وليس لأي سبب آخر
. فذهب هيكل يحدثه عن ظروف مصر ومراحل تطورها، والظروف التي أحاطت بالثورة، وكيف أن الذين قاموا بها مجموعة من شباب الجيش، وكانت مهمتهم الأولى في الثورة الاستيلاء على مقاليد الأمور في الجيش لمنع الملك من استخدامه ضد ثورة الشعب، ثم وضعه تحت تصرف الثورة الشعبية لتأمين أهدافها. ثم استعرض ظروف العالم الثالث كله ودور الجيوش فيه باعتبارها المؤسسات الوحيدة القادرة على كفالة الاستمرار في أوقات الأزمات الكبرى.
لم يجد مونتغمري تفسير هيكل مقنعًا، فقال له: إنك لن تستطيع أن تقنعني
. وهنا جاء رد هيكل مفاجئًا، حيث قال له: إنني لا أحاول إقناعك، وكيف أستطيع أن أقنعك بشيءٍ أنا نفسي غير مقتنع به؟ إنني كنت أشرح لك ملابسات حالة، ولم أكن أُقَنِّن قاعدة. على وجه اليقين أنا لست من أنصار تدخل العسكريين في السياسة، ولا أريد للجنرالات أن يصبحوا ساسة بنفس المقدار الذي لم ترد فيه أنت للساسة أن يصبحوا جنرالات. لكن أمامنا في مصر وفي العالم الثالث كله تقريبًا ظاهرة لابد لها من تفسير، وحين أُفسّر فإنني لا أُبرر. وعلى أي حال، إنك سوف تقابل الرئيس ناصر، وأقترح أن توجه إليه نفس السؤال
. فسأل مونتغمري: ألن يغضبه السؤال؟
فأجاب هيكل: لا أظن
.
في مقال للمؤرخ العسكري جمال حماد بجريدة المصري اليوم، تناول حماد هذه القضية بتفاصيل مختلفة، إلا أنها تحمل المعنى ذاته. فقال إنه في لقاء مونتجمري وعبد الناصر، كان عامر موجودًا، ورتبة المشير على كتفه ونياشينه على صدره. وقدّمه عبد الناصر إليه قائلاً: أُعرفك بفيلد مارشال عبد الحكيم عامر
. فسأله مونتجمري ساخرًا: في أي حرب حصلت على هذا اللقب؟
. ثمّ ساد صمت طويل لم يقطعه إلا كلمات الترحيب بالضيف.
بعدما أدرك الشعب الحقيقة وبدأ يعي مساوئ الحكم العسكري، كان إعلام عبد الناصر يحاول التغطية على فشله وهزيمة الجيش المصري، بإلصاق التهمة بطرف خفيّ سماه عبد الناصر “قوى الثورة المضادة”. وكتبت جريدة الأخبار بتاريخ 4 مارس 1968 في مانشيتها الرئيسي: عبد الناصر يحذر من قوى الثورة المضادة
. وكمحاولة لتهدئة الشعب الثائر على الجيش وقيادته بسبب النكسة، أطلق شعار الجيش والشعب جبهة واحدة
لتأكيد التماسك بين الشعب والجيش.
لكن وعلى كل حال، بعد يونيو 67، انكسرت شوكة ناصر والإخوان معًا. فعبد الناصر قَلَمَ أظافر الإخوان ونزع أنيابهم، والنكسة هَدَّتْ عبد الناصر وأضعفت ذراعه الطويلة، والإخوان فقدوا شهيتهم لالتهام عبد الناصر، والأخير لم يعد مهمومًا باقتفاء أثرهم، حتى وافته المنية في 28 سبتمبر 1970.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤