المقال رقم 29 من 29 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

بعد هدوء الشارع الذي انتفض لعزل ال في السابق، وبعد تمكن من ، وبعد التفجيرات المتعمدة والمظاهرات المدفوعة من عبد الناصر التي خرجت تهتف بسقوط ال والحريّة، لم يعد لنجيب ظهيرًا يستند إليه. وأصبحت الفرصة سانحة لاقتناص محمد نجيب، العقبة الكبرى التي تقف في طريق زعامة عبد الناصر، ولم يبق أمام عبد الناصر إلا اعتقاله.

في ذلك الوقت، قال الرائد ، قائد الحرس الجمهوري، لمحمد نجيب إنه علم أن هناك مؤامرة تحاك لتهميش دوره والإطاحة به. وطلب رياض من نجيب أن يأمره بالتحرك، ووعده بأن يقبض على جميع الضباط المتآمرين. فرفض نجيب وقال: أريد أن تظل الثورة نظيفة بيضاء، ولا أحب أن يُقال عن ضباط الجيش: اتحدوا لإسقاط الملك، ثم داروا للخلاف والقتال مع بعضهم، ولكي لا يقول الأعداء إن الثورة تأكل نفسها. ولم يمر سوى شهرين حتى نفذ الضباط مؤامرتهم، وهرب رياض إلى دولة عربية، ولم يحضر إلى مصر مرة ثانية.

في يوم 14 نوفمبر 1954، توجه الرئيس محمد نجيب من بيته في شارع سعيد بحلمية الزيتون إلى مكتبه بقصر عابدين. ولاحظ عدم أداء ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية له. وعندما نزل من سيارته داخل القصر، فوجئ بالصاغ حسين عرفة من البوليس الحربي ومعه ضابطان و10 جنود يحملون الرشاشات ويحيطون به. فصرخ في وجه حسين عرفة طالبًا منه الابتعاد حتى لا يتعرض جنوده للقتال مع جنود الحرس الجمهوري، فاستجاب له ضباط وجنود البوليس الحربي مؤقتًا.

لاحظ نجيب وجود ضابطين من البوليس الحربي يتبعانه في أثناء صعوده إلى مكتبه، فنهرهما. فقالا له: إن لدينا أوامر بالدخول من الأميرالاي حسن كمال، كبير الياوران. فاتصل نجيب هاتفيًا بجمال عبد الناصر ليشرح له ما حدث، فأجابه عبد الناصر بأنه سيرسل ، القائد العام للقوات المسلحة، ليعالج الموقف بطريقته.

وبالفعل، جاءه عبد الحكيم عامر وقال له في خجل: إن قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية. فرد عليه نجيب قائلًا: أنا لا أستقيل الآن؛ لأني بذلك سأصبح مسؤولًا عن ضياع السودان، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبًا. وأقسم اللواء عبد الحكيم عامر أن إقامته في ڤيلا لن تزيد عن بضعة أيام ليعود بعدها إلى بيته، لكنه لم يخرج من الڤيلا التي تم تحديد إقامته فيها إلا بعد 30 عامًا، منها 17 سنة قضاها فيها كمُعتقل، و13 سنة قضاها فيها بإرادته.

خرج محمد نجيب من مكتبه بهدوء وصمت في سيارة إلى معتقل المرج. وبالطبع، كان حزينًا على الطريقة التي خرج بها؛ فلم تؤدَّ له التحية العسكرية، ولم يُطلق البروجي لتحيته. وقارن بين موقفه عندما ودع ال وأمر بإطلاق 21 طلقة، وبين طريقة وداعه. وعندما وصل إلى ڤيلا زينب الوكيل بضاحية المرج، بدأ يذوق من ألوان العذاب ما يصعب وصفه. فقد سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار البرتقال واليوسفي من الحديقة، وحملوا من داخل الڤيلا كل ما بها من أثاث وسجاجيد ولوحات وتحف، وتركوها عارية الأرض والجدران.

وكما صادروا أثاث ڤيلا زينب الوكيل، صادروا أوراق اللواء نجيب وتحفه ونياشينه ونقوده التي كانت في بيته. كما تم منعه تمامًا من الخروج أو من مقابلة أي أحد من أفراد عائلته. وأقيمت حول الڤيلا حراسة مشددة. وكان على من في البيت ألا يخرج منه من الغروب إلى الشروق، وكان عليهم أن يغلقوا النوافذ في عز الصيف تجنبًا للصداع الذي يسببه الجنود، حيث اعتاد الجنود أن يطلقوا الرصاص في منتصف الليل وفي الفجر. بل إنهم كانوا يؤخرون عربة نقل أولاده إلى المدرسة عمدًا، فيصلون إليها متأخرين، ولا تصل العربة إليهم في المدرسة إلا بعد مدة طويلة من انصراف كل من في المدرسة، فيعودون إلى المنزل مُرهقين غير قادرين على المذاكرة.

وكانت غرفته في ڤيلا المرج مهملة، بها سرير متواضع يكاد يختفي من كثرة الكتب الموضوعة عليه. وكان يقضي معظم أوقاته في هذه الحجرة، مداومًا على قراءة الكتب المختلفة في شتى أنواع العلوم، خاصة الطب والفلك والتاريخ. وقال محمد نجيب عن تلك الفترة في مذكراته، بعد مرور ثلاث عقود عليها: هذا ما تبقى لي. فخلال الثلاثين سنة الماضية لم يكن أمامي إلا أن أصلي أو أقرأ القرآن أو أتصفح الكتب المختلفة.

في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، نُقل من ڤيلا المرج إلى مدينة طما في سوهاج بصعيد مصر. وقيل إنه كان من المقرر قتله في حالة دخول الإنجليز القاهرة، وذلك بعد أن سرت إشاعة قوية تقول إن إنجلترا ستُسقط بعض جنود المظلات على ڤيلا زينب الوكيل في المرج لاختطاف محمد نجيب وإعادته رئيسًا للجمهورية من جديد بدلًا من جمال عبد الناصر. ولكن بعد فشل العدوان، أُعيد إلى مُعتقل المرج، وجرى التنكيل به حتى إن أحد الحراس ضربه على صدره في نفس مكان الإصابة التي تعرض لها في حرب 1948. وكتب محمد نجيب عن ذلك في مذكراته: يومها هانت علي الدنيا فقررت أن أضرب عن الطعام.

في أثناء نكسة 1967، أرسل محمد نجيب برقية إلى جمال عبد الناصر يطلب منه السماح له بالخروج في صفوف الجيش باسم مستعار، إلا إنه لم يتلق أي رد. وظل محمد نجيب على هذا الحال حتى تم إطلاق سراحه بواسطة الرئيس عام 1974 عقب الانتصار الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973. ورغم ذلك، ظل السادات يتجاهله تمامًا، كما تجاهله باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة.

قال لي السادات: «أنت حر طليق!!» فلم أصدق نفسي. هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة؟ وهل أستطيع أن أتكلم في الهاتف بلا تنصت؟ وهل أستطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب؟ فلم أصدق ذلك بسهولة. فالسجين في حاجة إلى بعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة إلى بعض الوقت ليعود إلى حريته. وأنا لم أكن سجينًا عاديًا؛ كنت سجينًا يحصون أنفاسي عليّ، ويتنصتون على كلماتي، ويزرعون الميكروفونات والعدسات في حجرة معيشتي. وكنت أخشى أن أقترب من أحد حتى لا يختفي أو يُنكل به، وأتحاشى زيارة الأهل والأصدقاء حتى لا يتعكر صفو حياتهم، وأبتعد عن الأماكن العامة حتى لا يلتف الناس حولي فيذهبون وراء الشمس. ولكن بعد فترة وبالتدريج عدت إلى حريتي، وعدت إلى الناس، وعدت إلى الحياة العامة.

ياليتني ما عدت! فالناس جميعًا كان في حلقهم مرارة من الهزيمة والاحتلال، وحديثهم كله شكوى وألم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي. وإلى جانب هذه الأحاسيس، كانت هناك أنّات ضحايا الثورة الذين خرجوا من السجون والمعتقلات، ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب.

وحتى الذين لم يدخلوا السجون، ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان، كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات. وعرفتُ ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة، وعرفتُ ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري. ففقد حريته، وفقد كرامته، وأيضًا فقد أرضه، وتضاعفت متاعبه؛ المجاري طفحت، والمياه شحت، والأزمات اشتعلت، والأخلاق انعدمت، والإنسان ضاع.

(محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 محكمة الشعب
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎