المقال رقم 28 من 28 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

في ألمانيا، عندما اعتقلوا الين، لم أبالِ؛ لأنني لست شيوعيًا. وعندما اضطهدوا اليهود، لم أبالِ؛ لأنني لست يهوديًا. ثم عندما اضطهدوا النقابات العمالية، لم أبالِ؛ لأني لم أكن منهم. بعدها، عندما اضطهدوا الكاثوليك، لم أبالِ؛ لأني ي. وعندما اضطهدوني، لم يبقَ أحدٌ حينها ليدافع عني.

(مارتن نيمولر، لاهوتي وقس ألماني، اشتهر بمعاداته للنازية)

بعد شهور قليلة من انقلاب ناصر العسكري على ال، شكل محكمة عسكرية حكمت على باشا، رئيس الوزراء السابق، بالإعدام شنقًا. خفف الحكم إلى السجن المؤبد. وجاءت المحاكمة بالكامل إرضاءً للإخوان المسلمين، حيث إنه عندما كان إبراهيم عبد الهادي رئيسًا للوزراء عام 1949، اعتقل عددًا كبيرًا من أعضاء الجماعة ونكل بهم، في أعقاب اغتيال عبد المجيد حسن، عضو التنظيم السري لل، رئيس الوزراء. فقد كان عبد الناصر يطمع في تأييدهم له بسبب شعبيتهم.

بعد أربع أيام من حادث المنشية، وفي 1 نوفمبر 1954، تم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المدنيين المتهمين في حادثة المنشية. وكانت هذه المحكمة هي نفسها محكمة الشعب التي أسستها ثورة فور قيامها، وسط تأييد ومباركة كل القوى التي دعمت الثورة، وعلى رأسهم . فالمعروف أن شرعية أي محكمة ثورية تأتي من موافقة القوى الوطنية عليها. ولما كان الإخوان المسلمون قد رحبوا بأحكام محكمة الشعب العسكرية ضد إبراهيم عبد الهادي، خصمهم اللدود، وضد مصطفى خميس ومحمد البقري، عمال كفر الدوار، وضد الوفديين، فليس لهم الحق في رفض المحكمة عندما تحاكمهم هم.

صدر قرار تشكيل المحكمة في الأول من نوفمبر، وقُضي بأن تكون جلساتها علنية، ومقرها ، وألا تُقبل أحكامها النقض. شُكلت من رئيس المحكمة، قائد جناح ، وعضوية قائمقام (عضو يمين)، والبكباشي (عضو شمال). وفي 9 نوفمبر، بدأت محاكمة أمام محكمة الشعب، وكانت وقائعها تُبث إذاعيًا.

استمرت محاكمة عبد اللطيف اثنتي عشرة جلسة، وخلالها تم مواجهته بقيادات وأعضاء الجماعة الذين اعتبروا شهودًا، ومنهم الذي نفى إصداره أوامر بقتل عبد الناصر. ولحظتها بكى عبد اللطيف، بل إن الهضيبي قد أرسل رسالة إلى عبد الناصر نفى فيها علمه بالجريمة وبما يدور في التنظيم السري، وأقر أن محمد فرغلي و هما المسؤولان عنه. كما ذكر أنه استقال من رئاسة الجماعة أكثر من مرة لقناعته بعدم صلاحيته لقيادتها، وطلب لقاء عبد الناصر لتوضيح الأمر. أما فقد أرسل إلى ناصر رسالة طويلة، وضع فيها خطة للإصلاح بين الثورة والإخوان، تقضي بقيامهم بحل التنظيم السري وتشكيلات الإخوان في الجيش والشرطة وتسليم أسلحتهم، وهو ما كان يطالب به ناصر قبل الحادث بأكثر من سنة.

أمام محكمة الشعب، انهار محمود عبد اللطيف، وقدّم اعترافات مفصلة بأن ، رئيسه في التنظيم السري في إمبابة، هو من حرّضه على قتل عبد الناصر، وأنه سلّمه المسدس قبل الحادث بيومين، وشرح له ولزميله سعد حجاج، المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبد الناصر، أن التي وقعها ناصر مع الإنجليز في 19 أكتوبر 1954 هي خيانة للوطن.

وأكد عبد القادر عودة، أثناء دفاعه عن نفسه أمام محكمة الشعب، أن عبد الناصر كان قد طالب الإخوان في يوليو 1953 بحل النظام الخاص، وكرر ذات الطلب أثناء لقاء مجلس قيادة الثورة مع مكتب إرشاد جماعة الإخوان في مقر إقامة في سبتمبر أو أكتوبر 1953، على حد قوله. وأنه شخصيًا كان يوافق ناصر الرأي.

واعترف هنداوى دوير أمام محكمة الشعب أن ، المسؤول عن التنظيم السري في القاهرة، هو من أعطاه الأوامر وسلّمه المسدس، وأكد له أن الأوامر صادرة من المرشد ذاته. كما سلّمه حزامًا ناسفًا يرتديه عبد اللطيف ويحتضن عبد الناصر ليموتا معًا.

واعترف ، رئيس التنظيم السري، بأنه هو من سلّم الحزام إلى الطيب، واعترف أيضًا بامتلاكهم أسلحة ومعدات عسكرية وملابس للبوليس الحربي كانت ستستخدم في مهاجمة مجلس الوزراء وخطف مجلس قيادة الثورة بالكامل واعتقالهم، ومن ثم الاستيلاء على الحكم، وهي الخطة التي رسمها لهم .

حكمت محكمة الشعب في الرابع من ديسمبر بالإعدام على عدد من الإخوان المتورطين في الحادث، وهم: محمود عبد اللطيف، سمكري بإمبابة، ويوسف طلعت، تاجر حبوب بالإسماعيلية، وهنداوي دوير، محامٍ بإمبابة، وإبراهيم الطيب، محامٍ، وعبد القادر عودة، محامٍ، ومحمد فرغلي، واعظ بالإسماعيلية. وأخيرًا، حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان، الذي خُفف عليه الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة نظرًا لكبر السن، كما قالت المحكمة في حيثياتها، فقد كان الهضيبي في ذلك الوقت قد وصل السبعين عامًا.

لكن الحكم نفذ في عبد القادر عودة بالإعدام شنقًا، وحُكم على بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا بتهمة الاشتراك في تنظيم يستهدف قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة. وقرر مجلس قيادة الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين لتكوينهم منظمات سرية في الجيش والبوليس وفي الجامعات، ولتفاوضهم سرًا مع الإنجليز حول الجلاء مما صعب موقف المفاوض الرسمي.

ويروي د. رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، شهادته عن لحظة تنفيذ الحكم؛ لأنه كان معتقلًا في هذا الوقت في نفس السجن، فيقول:

أول من رأيت كان يوسف طلعت… شهادتي أنه كان تقريبًا مُغمى عليه من شدة الخوف… الأكثر شجاعة كان عبد القادر عودة، وكان موقفه مذهل… واحد نازل يموت وعمال يهتف بصوت جهوري ويقول: “لست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان، في الله مصرعي”.

(رفعت محمد السعيد، رئيس حزب التجمع)

بعد حادث المنشية، أمر عبد الناصر بإطلاق سراح إبراهيم عبد الهادي، الذي لم يكن قد نُفذ فيه حكم الإعدام بعد، نكايةً في الإخوان. فقد حُكم عليه بالإعدام لإرضائهم، وأُطلق سراحه نكايةً فيهم. وطارد ناصر فلول الإخوان، واعتقل الآلاف منهم، معظمهم أعضاء النظام الخاص الذي رفض الإخوان حله بعد الثورة. وبدأ الإخوان يلفظون أنفسهم بعد هذه الضربات الساخنة، وتبِع ذلك هروب أفواج إلى الخارج.

مشاعري معهم، مع الإخوان، رغم أنهم تخلوا عني وعن الة ورفضوا أن يقفوا في وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس، بل وقفوا معه وساندوه، بعد أن اعتقدوا خطأً أنهم سيصبحون حزب الثورة وأنهم سيضحكون على عبد الناصر ويطوونه تحتهم. فإذا بعبد الناصر يستغلهم في ضربي، وفي ضرب الديمقراطية، وفي تحقيق شعبية له بعد حادث المنشية. إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية، وهي أنه إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتمًا سيطيح بكل القوى السياسية والمدنية، ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد، وأنه لا يفرق في هذه الحالة بين وفدي وسعدي ولا بين إخواني وشيوعي، وأن كل قوة سياسية عليها أن تلعب دورها مع القيادة العسكرية ثم يُقضى عليها. لكن، لا الإخوان عرفوا هذا الدرس ولا غيرهم استوعبه. ودفع الجميع الثمن، ودفعته مصر أيضًا، دفعته من حريتها وكرامتها ودماء أبنائها. فالديكتاتورية العسكرية لا تطيق تنظيمًا آخر، ولا كلمة أخرى، ولا تتسع الأرض إلا لها ولا أحد غيرها. لقد قتلت الثورة كل معايير التعامل مع البشر… الذين قاموا بها طحنتهم… والذين نافقوها رفعتهم… وتعجبت.

(محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر)

الهروب الكبير

بدأت الموجة الأولى لهروب الإخوان خارج مصر عقب ضربة 1954، بعد أن أُعدم ستة من قادتهم، ودخل عدد كبير منهم السجن. ارتحل الإخوان إلى أغلب دول الخليج، خاصة الكويت وقطر، ثم البحرين والإمارات بنسبة أقل، لكن أكثر المناطق التي قصدها الإخوان كانت المملكة العربية السعودية.

شكلت المملكة العربية السعودية الملاذ الأول لقيادات الجماعة وكوادرها الهاربة من ملاحقات النظام الناصري، ففتحت أبوابها لأعضاء الجماعة الهاربين، ومنحت جنسيتها لعدد كبير من رموزها وقادتها. فقد لعب ، صهر ، دورًا مهمًا في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بدعم سعودي، وأصبح الشيخ مناع القطان الأب الروحي لإخوان المملكة وعلمًا دينيًا هناك، ثم الشيخ عشماوي سعيد، ومصطفى العالم، وعبد العظيم لقمة، الذي بدأ نشاطًا اقتصاديًا في المملكة حتى صار واحدًا من كبار أثرياء الإخوان في العالم.

وتزامنت الموجة الأولى من سعودة الإخوان مع تراجع موقعهم في الحياة السياسية المصرية في عهد عبد الناصر بفعل الضربات الأمنية والملاحقة المستمرة، والغياب التام عن الحياة العامة، كما غاب الإخوان عن الفضاء الديني في مصر وقتها، تحت سطوة المصادرة والنقد العنيف الموجه إليها حتى من قبل المؤسسة الدينية.

كان الشاب سعيد رمضان من أكثر الأعضاء قربًا من البنا، خصوصًا بعد زواجه من ابنته. في عام 1945، سافر رمضان إلى القدس، ولاحقًا إلى عمّان ودمشق وبيروت من أجل افتتاح فروع لمراكز الإخوان في تلك المدن. في عام 1946، عيّنه حسن البنا سكرتيرًا شخصيًا ومحررًا في جريدة الشهاب الإخوانية. في عام 1947، وصل عدد مكاتب الإخوان في فلسطين إلى 25 مكتبًا، وبلغ عدد أفراده نحو 20 ألف فرد، وكل ذلك في فترة قصيرة بسبب دهاء سعيد رمضان.

لم يكتفِ رمضان بالعواصم العربية، بل اتجه أيضًا إلى الدول الإسلامية، ومنها باكستان، حيث نجح في تأسيس حركة إخوانية باكستانية بزعامة أبي الأعلى . نال رمضان مساحة إعلامية واسعة في باكستان وعاش هناك بعد اغتيال البنا، ولم يعد إلى مصر إلا في عام 1950. قبل عودته إلى مصر، كان رمضان قد نجح في تأسيس كتيبة عسكرية من الطلبة الين تحت اسم تنظيم الطلبة المسلمين.

وعلى مستوى الأردن وفلسطين، نجح رمضان في تأسيس حركة شبيهة تحت اسم حزب التحرير الإسلامي، وتوسع في الانتشار في الأردن إلى أن أصبح مقره الرئيسي في ألمانيا. قادت نجاحات سعيد رمضان المتعددة الولايات المتحدة إلى ضرورة استمالته واتخاذه حليفًا لها، واستقباله استقبال الملوك في البيت الأبيض عام 1953، وكان رمضان حينها يبلغ من العمر 27 عامًا فقط.

كذلك، احتضنت سويسرا رمضان ووافقت بمباركة أمريكية على تأسيس مركزه الإسلامي في جنيف في الستينيات، وذلك بسبب مواقفه المناهضة للشيوعية التي تحاربها سويسرا أيضًا. عمل سعيد رمضان بإخلاص وتفانٍ من أجل الحركة الإخوانية، وتوفي عام 1995 في سويسرا. ويُعتبر سعيد رمضان الأب الروحي والمؤسس الحقيقي للتنظيم الدولي للإخوان.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 حادثة المنشية
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎