كنت قد شرفت في أثناء دراستي الجامعية، بتلقي العلم من الأستاذ الدكتور “مينا بديع عبد الملك”، وحقيقة أكن له تقديرًا علميًا كبيرًا، على أنني لا أتابع كتاباته في الشئون الأخري ومنها الكنسية. ويبدو أن لصديقي بيشوي القمص رأيا آخرًا، حتي أنّه اعتمد عليها كلّية -بمفردها- في مقاله اﻷخير: أسطورة القرعة الهيكلية (٢) اقتراب غير حذر.
يلقي د. “عبد الملك” كل عيوب عملية انتخاب البطريرك الأخيرة علي عاتق نيافة الأنبا باخوميوس، القائمقام البطريركي الذي أدار عملية الانتخاب، ويتعامل بصرامة مع القوانين التاريخية، في مقابل انتقائية شديدة في التعاطي مع الواقع الكنسي، فهو يصطحب معه مقالات “نظير جيد”، العلماني الثائر، دون أن يظهر شيئا من مقالات البابا شنودة الثالث وكل آراؤه التي استحالت واقعيا إلى أعرافٍ وقوانين.
انتقائية مفرطة، وربما غير متعمدة، لكن اﻷكيد لديّ أنها مفصحة عن انحيازات د. “عبد الملك” تجاه عيوبٍ يعود أغلبها لقرن منقضي، وترسخ بعضها الأخر في ربع هذا القرن الأخير علي يد بطريرك كان د. “عبد الملك” أحد رجاله المقربين. ولم نر لسيادته حينها مقالًا واحدًا يهاجم فيه الصائغ الصانع لكل هذه العيوب، ومشرعنها، والمدافع عنها! “نظير جيد” الذي استعان د. “عبد الملك” بكتاباته الملتهبة عن “قصر الترشح للبطريركية علي الرتب الكهنوتية”، هو نفسه قد تنكر لمواقفه تمامًا، وانعكست كلماته إلى النقيض عندما وجد فرصة سانحة ليرشح نفسه للكرسي المرقسي.
تبدأ القصة عقب نياحة القديس البابا كيرلس السادس، وتولي الأنبا أنطونيوس، مطران سوهاج حينئذ، مسئولية القائمقام. تلقى اﻷنبا أنطونيوس تزكيات عدّة للترشح، رفضها، وجمع مجلس الأساقفة وتحدث إليهم طالبا عدم ترشح أي منهم، والاستمرار في النهج القبطي المستقيم بقصر الترشيحات علي الرهبان دون الأساقفة، كما تم في الانتخابات التي سبقتها وأفرزت قداسة البابا كيرلس. فمن رفض؟ هل تملك تخمينا؟ نعم، الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتها (وستجد هنا صورة لما خطه بيده لأسباب متهافتة لرفضه طلب القائمقام)
رفض آخر قدمه الأنبا شنودة لاقتراح ثان للقائمقام، وهو: “تعطيل اللائحة”، والاتفاق علي مرشح وحيد بالنقاش المشترك حتي الاستقرار علي تسمية البطريرك.
لم يستطع القائمقام اﻷنبا أنطونيوس فرض رؤيته أمام سلطان الـ”شنوديال ميديا”، وأسفر الأمر في الانتخابات النهائية عن خمسة مرشحين، أربعة منهم كانوا من الأساقفة، وراهب وحيد. وبالطبع نعلم جميعا أن النهاية كانت تربع قداسة البابا شنودة علي السدة المرقسية.
أود هنا تسليط الضوء علي وجهة نظري فيما يثيره البعض أحيانا عن جواز ترشح الأسقف العام دون أسقف الإيبارشية، ومن هو الأسقف العام: إيبارشيات مثل الخدمات، التعليم، الشباب، البحث العلمي، هي إيبارشيات فعلية، لها نطاقها المحدد، ولعلنا نعرف موقف الأنبا شنودة أسقف التعليم والمعاهد التعليمية من رسامة الأنبا غريغوريوس كأسقف للبحث العلمي، واعتبار ذلك اقتطاعًا لا يجوز من إيبارشيته. إذن أسقف مثل هذا هو أسقف إيبارشية، لا يجوز إعادة تجليسه علي إيباراشية أخري، علي عكس الأسقف العام، الذي يمكن تسميته ب “المعاون” الأسقفي، الذي يشغل موقعًا معاونًا للبطريرك أو أحد الأساقفة ويجوز نقله للمعاونة في موقع آخر، أو تجليسه علي إيبارشية مستقبلًا.
الصدمة قد تصل إلى منتهاها إذا علمت أن كل ما عمل الشاب الثوري “نظير جيد” علي ترسيخه، وكل ما نادي به الأنبا شنودة أسقف التعليم، قد محاه تمامًا البابا شنودة الثالث في أثناء حبريته. فمن حق الشعب في اختيار راعيه، إلى القول بأن:
الديمقراطية في الكنيسة لا تعني أن يكون لكل شخص الحق في أن ينتخب البطريرك، فالرتب الكنسية الكبيرة خاصة منصب البطريرك لا تترك لعامة الشعب، لأنهم لا يعرفون ما هي اختصاصات القائد الديني وما هي تعاليم الكتاب المقدس، ويمكن التأثير عليهم ببساطة بخطبة قوية… وحاجات تانية أتكسف أقولها(البابا شنودة الثالث، عظة الأربعاء 4 نوفمبر 2009)
فمن رفض ترشح الأساقفة للبطريركية، إلى القول بأن جميع بطاركة الأرثوذكس كانوا أساقفة! وﻻ ندري ماذا حدث في أثناء حبريته لينحدر بوعي الشعب الذي حارب دائما من أجل حقه في الاختيار، لمستوى التأثر بـ”الحاجات اللي تكسف”
اعتراضات د. “عبد الملك”:
أولًا، الاعتراضات القانونية: والتي يمكن تلخيصها في قبول القائمقام ترشيح الأساقفة للكرسي البطريركي. وهي اعتراضات مثير للدهشة! وكأن د. عبد الملك لم يكن يعرف ويكتب عن حجم المؤامرات التي كانت تحاك من أساقفة بعينهم ذوي حظوة لخلافة البابا شنودة في أثناء حياته، وعن حجم الكارثة التي كانوا ليحدثوها لو منعوا من الترشيح، وهو حديث لا أنوي الخوض به لحساسيته البالغة. لكن ما يمكنني قوله أن نيافة القائمقام تعامل مع لائحة تجيز ترشح الأساقفة، وتم رفض تغييرها في أثناء حبرية البابا شنودة، ولا يمكن تغييرها في أثناء خلو الكرسي، ومع أساقفة اعدوا انفسهم فعليا للخلافة.
لكن يبقي السؤال قائمًا: لماذا لم يكتب د. “عبد الملك” عن هذا الموضوع في أثناء حبرية البابا شنودة وفي حياته!؟ أو عن عوار اللائحة وزيغها؟؟ رغم أن أصوات كثيرة فعلت.
لقد أدار القائمقام هذا الملف بمهارة فائقة، واستطاع استبعاد كل الوجوه المثيرة للجدل دون صدامات، وكانت محصلته النهائية خمسة مرشحين، ثلاثة رهبان وأسقفين عامين، وهي نتيجة أفضل كثيرًا من سابقتها، بل هو إنجاز رائع في رأيي.
ثانيًا، الاعتراضات الانحيازية: والذي يمكن تلخيصه في نيّة القائمقام لترشيح أسقفه المعاون لكرسي البابوية، و هو ما يراه د. عبد الملك انحيازًا. وهذا اعتراض في غير محله تمامًا، فلدينا تاريخيا موقف مطابق، عندما زج القائمقام الأنبا أثناسيوس باسم الراهب “مينا البراموسي” في قائمة الترشيحات النهائية التي كانت خالية من اسمه، والتي أسفرت عن فوزه ليصبح البابا كيرلس السادس، ولم يتهم احد وقتها نيافة القائمقام بالانحياز!
الأهم أنه في حالتنا الأخيرة، لم يكن هناك ترتيب مسبق للأمر، فالمعلومات المتواترة أن نيافة الأنبا باخوميوس: كان ينوي الاعتذار عن قبول منصب القائمقام كما ذكر د. “عبد الملك” نفسه، وأنه قبل الأمر بعد إلحاح كثير من أرآخنة الشعب بينهم د. “عبد الملك” نفسه، درءا لوضع كارثي كان ينتظرنا.
ثالثًا، الاعتراضات الشخصية: وهي تنصب علي ترشيح شخصية “الأنبا تواضروس” الأسقف العام وقتها، وهو يورد ثلاثة حوادث طائفية حدثت بنطاق إيبارشية البحيرة كان موقف نيافة الأنبا تواضروس منها سلبيًا كما يري أستاذي الجليل، ويتناسى سيادته أمرين: أولهما حدود تعامل الأسقف المعاون داخل نطاق الإيبارشية التي يخدم بها، وثانيهما حدود تعامل أسقف الإيبارشية مع حوادث الفتنة الطائفية في حبرية البابا المتنيح، والذي كان التعامل مع هذا الملف حقا حصريا لقداسته ومعاونيه، لا شك أن أساقفة الإيبارشيات كانت يدهم مغلولة في التعامل مع هكذا حوادث.
يتبقى القول أن شخص اﻷنبا تواضروس، الموصوم بالسلبية في رأي د. “عبد الملك”، قام بأحد أقوي التصرفات في تاريخ البطاركة الأقباط عندما تولي المسئولية، وأعني تجاهله دعوة “رئيس الجمهورية” لحضور الاحتفالية الخاصة بانتهاء “الجمعية التأسيسية” لكتابة الدستور وإحالته لمجلس الشعب، بعد أن كان في تصرف سابق، قد سحب ممثلي الكنيسة من الجمعية التأسيسية، عشية تجليسه، في تصرف صادم، يفيض بالتحدي.
هناك حديث عن مآخذ أخري أوردها د. “عبد الملك” تحت إطار الاعتراضات الشخصية، لكني لا أرى داعيا لصرف وقت في التعليق عليها.
خاتمة: يثير صديقي بيشوي القمص أسئلة في نهاية مقاله عن هل البطريرك اختيار الهي؟ وهل هذا يجعله معصومًا؟
وأود أن أشاركه إجابتي،،
فاختيار البطريرك هو نتاج تفاعل إنساني محض، الله لا يملك قائمة مرشحين، أو دعنا نقول أنها قائمة غير مفحوصة من الله، ولكن دعنا نتذكر أن “كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الرب”، فالأمر حقيقة لا يتوقف علي الله ولا علي البطريرك، بل علي الشعب وقربهم من الرب، والمؤسسة الكنسية، ومدى شركتهم في إدارة مؤسسة الرب. لا شيئ يجعل البطريرك أو الأسقف معصومًا، والواقع أن الرقابة الشعبية الفاعلة كانت دائمًا حاضرة تاريخيًا في العلاقة بين الراعي والرعية في علاقة تكاملية ناضجة، حتي أتي علينا بطريرك “لا يٌسأل عما يفعل” وربما يكون موضوع الرقابة الشعبية محلا لمقال قادم.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- هدية يسوع في عيد ميلاده عندك هدية تليق تقدمها ليسوع ليلة عيد ميلاده؟ علشان أريحك أحب أقولك إن ماحدش عنده هدية تليق بيسوع! ومهما حاولت تفكر مش هتلاقي هدية مناسبة تقدر تقدمها له! فعلى غير العادة صاحب عيد الميلاد المرة دي هو اللي قدم الهدية. هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. أخذ طبيعتك وحمل خطيتك وفسادك وموتك، وأعطاك جسده......