المقال رقم 6 من 6 في سلسلة أسطورة القرعة الهيكلية

هناك نقطة ضعف هيكلية في نظام إدارة “مجلس الأساقفة” (المسمى بالخطأ الدارج “”) تتلخص في ديمومة مهنة الأسقف، كرئيس كهنة، باعتبار الكهنوت صكا لا يُمحى، ومسحة بالزيت غير قابلة للإزالة مهما ارتكب من فظائع. قد يملك البابا سلطة نظرية لإعادة الأسقف إلى ديره إن ارتكب فعلًا فادحًا، لكن -وهو في الدير- لا يستطيع وضع أسقف آخر مكانه على سُدة الإيبارشية، هذا اقتران لا يفصمه إلا الموت والهرطقة.

هذا القصور الإداري يجعل أي بابا جديد، غير قادر على السيطرة على “الحرس القديم” للبابا الذي يسبقه (“فلول النظام القديم” بالمصطلح الدارج) وكل ما يمكنه فعله هو إضافة أساقفة جدد يدينون له بالولاء والطاعة، لتقليص نفوذ “الحرس القديم” داخل مجلس الأساقفة.

يتعامل أسلافنا بهذه الطريقة لما فيها من انتقالات ناعمة للسلطة، تجعل الكنيسة (كمؤسسة) غير عرضة لثورات مفاجئة في طرق الإدارة إن تغير البابا. الاستقرار مقدم عن التغيير في أفكار الحكماء، لأنه لا ضمان أن التغيير سيكون للأفضل، وينبغي الحذر حسب خطورة المنصب. ومنصب بابا الإسكندرية بالتأكيد هو اﻷعلى خطورة لأن اﻷقباط قساة في انتقاداتهم الداخلية كما هم قساة في جلد الذات.

كل هذا مفهوم وله معنى وقيمة، لكن من الناحية اﻷخرى فهو يضع المؤسسة أمام مشكلة حتمية، فهذا أيضا يعني نظامًا يعادي التجديد القادم مع أي “بابا جديد”، ويجب على البابا توقع هذا وتحييده وضبط سلطاته تدريجيًا، وإلا فلا حراك وستتحول المؤسسة لمتحف تاريخي نظري مفارقًا للواقع الاجتماعي والسياسي.

رتبة “الأسقف العام”، والتي أخذت نصيبها كبيرًا في الجدل الذي تبارى فيه زملاء السلسلة، وأبدعوا في الفصل بين أسقف الخدمة واﻷسقف المعاون لأسقف، وغير ذلك. هي ابتكار “كيرلسي” حديث ولا أصل تاريخي له، لصناعة أساقفة موالين داخل المجلس من دون الحاجة لإيبارشيات، أو من دون الحاجة لتقسيم الإيبارشيات وتفتيتها لتستوعب أساقفة موالين أكتر، ومن دون توسع في كنائس الخارج، أو أديرة الداخل.

البابوية من حيث كونها في قمة الهرم اﻹداري المرقسي، تجتهد طيلة الوقت في ابتكارات -قليلة الحيلة، من حيث كون المؤسسة نفسها دينية، محافظة، ترفض الابتكار وترى فيه بدعا مخيفة- لكن الواقع التنظيمي يفرض احتياجاته شئنا أم أبينا، والنظام دائمًا وأبدا هو مسؤولية الدولة ومتشابك معها. لذاـ بشكل أو بأخر، فال، هو منحوت متناسب مع الممكن في عصر ، كما ال هو من منحوتات الممكن في عصر ، وأنا هنا أتحدث عن نسق إداري وتنظيمي لا شأن له بروحانيات مطاطة من أي نوع. ولندخل أكثر في تفاصيل التطبيق التاريخي.

فور خلو من ال الثاني، هرع رهبان شباب حديثي العهد بالرهبنة ومعظمهم من أديرة السريان والبراموس طلبا للترشح للكرسي البابوي. لم يكن هناك قانون كنسي يمنع ترشحهم، لكن المزعج للحرس القديم اليوسابي وقتها أن هؤلاء الرهبان ثوريون وغير قابلين للسيطرة من الشيوخ الأكبر ولم يتتلمذوا بأنساقهم، وكتبوا ما معناه إنهم متهورون متغطرسون لم يمضوا في الرهبنة شهرين دون مطامع ويعتبرون أنفسهم “مستنيرين” وسط جهلة، ويثيرون صراعًا طبقيًا حسب المؤهل الدراسي العالي، ويتعاملون بفوقية وعنجهية مع العمال والفلاحين.

كان للرهبان المثقفين ظهيرًا شعبيًا قويًا، نشأ سواء من حركات الثوري المؤيد لجماعة “” أو من اليسار الاشتراكي المؤيد ل المصري الذي شكلته طليعة مجلة “” على المستوى الثقافي، لكن عبد الناصر لم يكن ليسمح بيسار غيره، وهنا ظهر اسم المعتزل العابد، القمص مينا المتوحد [البابا كيرلس السادس] لتهدئة الانقسامات القبطية بحلول وسط، وسط في كل شيء، حتى في المؤهل الدراسي المتوسط.

عندما وصل البابا كيرلس للسلطة، وكجزء من صناعة شعبية له، استحدث فكرة “الأسقف العام” لاسترضاء تيار المستنيرين [تيار مؤسسي “مدارس الأحد” وقتها]، بعضهم قبل فورًا، وبعضهم تردد في القبول قبل سماع وعود شفهية غير مكتوبة بأن هذا المنصب لن يكون عائقًا للترشح للكرسي البابوي. ولم يكن البابا كيرلس يشغله سوى تجاوز حالة الاستقطاب الحالية و”لملمة الفرقاء” فوافق لأول مرة على فكرة “أساقفة” يمكنهم الترشح للباباوية، ولم يستقرئ ما هو معد له.

سيطر الأساقفة المست على كل مفصليات الإدارة في الكنيسة، ومات عبد الناصر وجاء السادات الذي كانت له مشاكله السياسية بعد الشعبية الجارفة لعبد الناصر. لذا شهد عصر السادات صعودًا لليمين الديني في مصر للقضاء اجتماعيًا على تكتلات اليسار. ومن هنا بدت الفرصة مواتية لأساقفة اليسار لتصعيد الصراع الداخلي ضد البابا كيرلس بشكل شعبوي ريفي في مدينة القاهرة، وبقيادة أحد أساقفة العموم [الأنبا شنودة] الذي عضده السادات ووزير داخليته في البداية ورأوا فيه “الراجل بتاعنا”.

بعد اعتلاء البابا شنودة الثالث للكرسي المرقسي، دارت ضده معارك شرسة من “الحرس القديم الكيرلسي” لكن هذه المرة، البابا ليس مجرد راهبًا تقليديًا، بل واحدًا من أقوى السياسيين الذين تجلّسوا على الكرسي المرقسي (شخصيًا أراه الأقوى منذ انتهاء العصر الوسيط) فسيطر في خمس سنوات بشكل محكم لا يتسرب منه الماء، مما أهله لتنظيم القوى الكنيسة ذاتها للتناطح مع اليمين الديني الرجعي، والسادات ذاته بعدها. أما ألوان المستنيرون المتعددة فلم يكن أمام الواحد منهم إﻻ الخضوع اﻷعمى دون سؤال، أو يتم حرمانه من فم الروح القدس. ماتت نسخة لاهوت التحرير في البابا شنودة وتحور لنسخة أخرى من لا تصنيف محدد لها. (أنا أسميها “ﻻهوت البقاء”).

فتح الباب الموارب لأساقفة العموم للترشح للبابوية، تم الإبقاء عليه في عصر البابا شنودة الثالث الذي هو نفسه دخل منه. وتحول من العلماني الثوري “نظير جيد” الذي نظم ودعم مظاهرات للإطاحة بباباوين يسبقانه، إلى “البابا الجديد” الذي يترك لائحة دونما تعديل وهو يعلم تمامًا -بحكم خبرته السياسية والإدارية- أنها تحوي ألغاما موقوتة مؤجلة، هو لن يسعى لإقامة كنيسة متعافية بعده، بل يسعى أن يتذكره المحدثون ويحكون عنه كأسطورة فردية لن تتكرر.

جيل الوسط قد شاهد وعاين ما حدث للمؤرخة الكنسية “أيريس حبيب المصري” التي كانت مؤرخته الشخصية [دور يشبه “حسنين هيكل” الخاص به] عندما تقدمت مع 34 امرأة مسيحية طالبة تقييدها في كشوف الأراخنة الذين من حقهم المساهمة بأصواتهم في انتخاب البابا. وبرغم أن البابا شنودة الثالث أضاف فعلا الصحفيين (لأنه كان “رئيس تحرير” ذو طاقم عمل من الصحفيين العاملين بسياسته) لكنه لم يكن ليسمح أبدا بأي توسع إضافي في قواعد من لهم حق التصويت.

المسألة ية المعاصرة عن “كهنوت النساء” تبدو دينية تمامًا، ومن العبث الخاسر الخوض فيها مع من يقدسون رفض “شموسية النساء” من البداية، فما بالك بصنّاع قوانين اللعبة الانتخابية الذين يستخدمون النساء ككتل تصويتية تتيح لشيخ القبيلة الروحية التحكم في اختيار رئيس الجمهورية، لكن، وقت أن تتكلم “مؤرخة الكنيسة اﻷولى” في اختيار شيخ القبيلة، فماذا تتوقع؟

التصويت حكر على الذكور المختارين من أهل الثقة فقط، وتم تجريد “أيريس” من مكانتها الاجتماعية حتى تكون عبرة لغيرها، وكل من سعى لتعديل لائحة انتخاب البابا في عصره، تكفل به جهازه الإعلامي لتشويهه، وإظهاره كساعِ لإلغاء “” المستلمة من تلاميذ المسيح، ودفن أي مسار للتصحيح الديمقراطي لمن سيأتي بعده.

الباباوان “شنودة” و”تواضروس” كلاهما ترك الألغام في لائحة الانتخاب للبابا القادم. لكن حسبما أرى فواحد منهما فقط الذي يدرك الجريمة السياسية وتوابعها، بينما الآخر أقل شجاعة من أن يخوض لنا معاركنا الحقوقية في حقنا الانتخابي.

هذا المقال جزء من سلسلة أسطورة القرعة الهيكلية

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أسطورة القرعة الهيكلية[الجزء السابق] 🠼 أسطورة القرعة الهيكلية <br />(٥) إعادة السعي
باسم الجنوبي
[ + مقالات ]