Search
Close this search box.

يعرف معظمنا عالم النفس الشهير “سيجموند ” ونظرياته التي كانت باكورة ، لكن لا يعرف الجميع العالم “كارل جوستاف يونج” -صاحب مدرسة علم النفس التحليلي- بنفس المقدار، وهو الذي جاء في أعقاب “فرويد” ليكمل مسيرته رغم اختلافه معه في بعض الآراء.

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 1لعل من أهم إنجازات “يونج” هو نظريته عن النماذج الأولية، وهي المركبات الأساسية التي تتكون منها شخصياتنا. وسأتحدث في هذا المقال عن نموذج الظل (Shadow Archetype) — الذات المتوارية أو الجانب المظلم الخفي في شخصية الإنسان.

لكل مننا جانبه المظلم الذي لا يخفيه عن الآخرين وحسب، بل عن ذاته أيضًا. نريد أن نبدو أمام أنفسنا في أبهى صورة، كما نريد أن يرانا الآخرون، ولذلك، يسعى عقلنا الباطن أو اللاوعي إلى إخفاء ذلك الجانب المظلم واستبداله ببعض الأكاذيب الزائفة عن تميزنا وسمونا الأخلاقي. يحتوي الظل على الجوانب البغيضة من شخصياتنا مثل الأنانية، والدونية، والهوس الجنسي، وفقدان الإرادة، إلى أخره من مساوئ.

يستخدم العقل الباطن عدة حيل لإبقاء ذلك الظل مستترًا، من أهمها إسقاط الظل على الآخرين: يبدأ العقل الباطن بإقناع العقل الواعي بعدم وجود ذلك الخلل في الشخصية، ووجوده في شخصيات أخرى من المحيطين بالفرد في المجتمع. وحينها، يبدأ الفرد في رؤية عيوبه الذاتية في الآخرين، بل ويشرع في تأنيبهم بصورة متعالية وبشدة لكي يتخلوا عن ذلك الخلل البغيض.

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 3قدم فيلم American Beauty (1999) صورة لذلك الإسقاط من خلال شخصية “فرانك” الذي لا يتوقف عن نعت المثلية والمثليين أمام الجميع وبصورة متكررة. وتستبد به الشكوك حول علاقة الصداقة بين ابنه “ريكي” وجاره “ليستر”، ويسأل عن سبب تردد “ريكي” على صديقه كل يوم، ويبدأ في تعنيف ابنه لكي يعترف له بحقيقة أنه مثلي، خاصة حين يعثر “فرانك” على صورة “ليستر” على كاميرا “ريكي” تبدو غير لائقة من وجهة نظره. ينتهي الفيلم بالكشف عن حقيقة الأب “فرانك” الذي عانى منذ شبابه من ميول مثلية، وانتهى به الأمر بالزواج من امرأة، ظنًا منه أن المثلية ستموت بالزواج. لم يكن الفتى “ريكي” مثليًا كما ظن والده، بل نكتشف في النهاية أن “فرانك” (أو بالأحرى عقله الباطن) كان يسقط ظله ومثليته على ابنه بطريقة غير واعية (Unconsciously) كوسيلة لإقناع نفسه أنه قد شُفي من دائه، بل وأصبح يعظ الآخرين للتغلب عليه – وهو ما فشل فيه “فرانك” بالفعل.

هكذا، نلقي بظلالنا على الآخرين، ونهاجم تلك الظلال متجسدة فيهم بهوس وعنف لكي نبدو متعافين، مصلحين. وليس إسقاط الظل على أشخاص بعينهم هو الطريقة الوحيدة لإخفاء الظل؛ فكثرة العظات التي نلقيها عن الأخلاق ربما تكون علامة على غياب تلك الأخلاق فينا. يؤكد علم النفس أن الهوس الشديد بالحديث عن تغطية الجسد والفصل بين الرجال والنساء يشير في أحيان كثيرة إلى هوس المتحدث بالجنس، وقلة حيلته أمامه – وكأن هناك تهمة تحاصرة يريد إنكارها من حين إلى آخر بالحديث عن أهمية العفة والمطالبة بوضع قوانين صارمة تمنع أي تهاون في الأمر.

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 5لذلك، لا تتعجب حين تجد عظات لـ”رافي زكارياس” عن الطهارة والعفة، فهذه مهارة العقل الباطن الذي يصور للمرء أنه غير فاسد تمامًا بجعله يعظ عن الأمر ويصدق نفسه وهو يكذب؛ فالعظات أحياناً ما تكون بمنزلة المخدر الذي يلهي المرء عن ظله. (لمن لا يعرف “رافي”: هو واعظ إنجيلي عالمي شهير، ثبت أنه متورط في جرائم اغتصاب، وتحرش، وابتزاز جنسي لا حصر لها). وعظ “رافي” عن الفضيلة، وساعد الشباب على فك رباط الخطيئة، وأبدع في الحديث عن تجنب السقوط في الشهوة، واللجوء إلى الله للهروب منها، وواحدة من أشهر عظاته عن اليوتيوب هي عظة Temptation (الإغواء). يتعجب أحد المشاهدين للعظة في تعليق له على اليوتيوب، ويقول: لا أصدق أن من يقول هذا الكلام هو نفس الرجل الذي ارتكب كل تلك الفظائع؛ كيف يعظ بهذا الكم من الإبداع عن الخطيئة وهو شيطانًا! فكما قال الشاعر الإيطالي إن ليس بالسواد الذي يُرسم به

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 7نجد أيضًا ذئبًا بشريًا آخر يبدع في إخفاء ظله، وهو “مايكل فهمي”، الطبيب والخادم ومغتصب الأطفال الذي حكم عليه القضاء المصري بالمؤبد في نوفمبر 2021. من يشاهد أحاديث “مايكل” في البرامج والخدمات، يجده يتحدث ببراعة عن قدسية الزواج، بل ويقدم دورات تدريبية للمقبلين عليه كي يعلمهم كيف يعيشوا حياة سعيدة! وفي صوره مع زوجته، يبدوان في قمة السعادة والحب. فها هو عقل “مايكل” الباطن يقول لعقله الواعي وللمجتمع ككل: أنت لست زوجًا فاسدًا، ولا مجرمًا. صحيح أنك جعلت زوجتك تشاركك في تخدير الفتيات وإقناعهم بالمجيء لتغتصبهم أمامها، لكن هذا لا يعني أن زواجك غير ناجح، أو أنك لا تحترمها. وفي يوم ما، ستقلع عن تلك العادة، ولن يعلم بها أحد.

الأنا الواعية ليست دائماً هي المُسيطرة، ولكن غالباً ما يتم التغلب عليها بواسطة قوة ظلنا.

()

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 9وأسهل طريقة لإخفاء الظل وخداع الآخرين هي ارتداء ثوب القداسة واستخدام آيات الإنجيل. نتذكر أيضًا ذلك الكاهن السابق “ خليل” الذي ظل يخدم لسنوات عدّة في مصر وأمريكا، وعُزل حديثًا بسبب جرائم التحرش بالأطفال. حاولت “” (إحدى ضحاياه، والتي أعتدي عليها في 1997 حين كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها) محاكمة هذا الوغد المتسربل في رداء القداسة طيلة سنوات عديدة منذ حبرية ال الثالث، إلى أن انتهى الأمر بعزل “رويس” في عهد ال عام 2020.

ولا يتضمن الظل عيوبنا فقط كما توضح القصص السابقة، بل أيضًأ مواهبنا وأحلامنا التي عجزنا عن تحقيقها بسبب إخضاع المجتمع لنا. فتلك المواهب والأحلام تلقي بظلالها على علاقاتنا بالآخرين وسلوكياتنا.

ومشكلة الظل ليست مشكلة قاصرة على النطاق الفردي فحسب، بل هي مشكلة مجتمعية أيضًا. فللمجتمع ظله كما هو الحال مع الأفراد. فالمجتمعات التي تقوم على إعلاء مصلحة الجماعة على الفرد (Collectivistic Communities) مثل المجتمعات العربية هي المجتمعات التي تنبذ الفرد المستقل المنهمك في تحقيق ذاته، بل وتتهمه أحيانًا بالفشل الأسري والأنانية. فأن تحيا كما تحب، وتعمل ما تختار، ولا تأبه بالرأي الجمعي في تلك المجتمعات، أنت بذلك تثير حفيظة البعض ممن تخلوا عن أحلامهم تلك وذابوا في المجتمع. فهم لن يعطوا لك المساحة لتفعل ما لم يفعلوه لأن ظلهم يطاردهم. أما المجتمعات التي تفضل حرية الفرد على مصلحة المجتمع  (Individualistic Communities) مثل المجتمعات الغربية، دائمًا ما يسخر أفرادها من مصطلحات مثل كيان العائلة ومصلحة المجموعة أو المؤسسة مما يتسبب في إحداث أضرار متعددة، لأن هؤلاء الأفراد قد تناسوا تلك الكيانات، واهتموا بتحقيق ذواتهم.

لا تكف المجتمعات الشرقية عن الحديث عن الفضيلة والاحتشام مع أنها تحقق أرقامًا قياسية في مشاهدة المواقع الإباحية والتحرش. فالهوس بالحديث هو الحيلة التي تصدر عن العقول اللا واعية لأفراد هذا المجتمع، لإخفاء ظل الكبت الجنسي والضعف الإرادي، وسادية الذكر المطحون من مديره على المرأة.

يقول “يونج” إن الحل للتغلب على الظل يبدأ من الاعتراف بوجوده، ورفض الاستسلام له. أن تبدأ بالاعتراف بأن لديك مشكلة، وأن تكف عن وعظ الآخرين وكأنك لا تعاني مثلهم، ومن كوكب آخر. ولا يعد ذلك الأمر سهلًا، بل يحتاج إلى جهاد طويل وشاق.

الصدق مع النفس، في البداية، هو التَعرّف على ظلّ المرء. الظّل عبارة عن ممر ضيق، باب ضيق، لا ينجو أحد من انقباضه المؤلم ويصل بنا إلى بئر عميقة. لكن يجب على المرء أن يتعلم كيف يعرف ظله حتى يعرف من هو

(كارل يونج)

قدمت المسيحية حلًا مماثلًا لتلك الإشكالية، فنجد النصوص دائمًا ما تركز على الفرد باعتباره المسئول عن خطيئته لا الضحية أو المفعول به. فعلى سبيل المثال، لا نجد أي نصوص للمسيح يحث فيها النساء على تغطية أجسادهن، بل نجده يلقي بالكرة في ملعب المتضرر (أو من يُعرف نفسه كذلك) بالحديث عن العين وفعل النظر؛ لأن انشغال المرء بالآخرين يساعد على تغذية الظل، وبقائه في الظلام.

فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ.

(إنجيل متى 5: 29)

تعكس فكرة “قلع العينين” شدة مسئولية الناظر عن خطيئته، وأهمية شعوره بدوره في تجديد نظرته للحياة.

وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ.

(إنجيل متى 5: 28)

فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ؟!

(إنجيل متى 6: 22، 23)

كما تحذر المسيحية من الهوس بالتعليم والوعظ والاستعلاء على الموعوظين، مشيرة إلى أننا نأخذ دينونة حين ننغمس في التعليم. كتب المسيح أخطاء من أدانوا المرأة الزانية، وهم لم يكونوا بمواطنين عاديين بل ذوي مناصب دينية في المجتمع اليهودي. رفض هؤلاء الحكم على الرجل الزاني وأرادوا إعدام المرأة وحدها لأنهم كانوا يفعلوا مثل ذلك الرجل مع نساء أخريات فأردوا إخفاء ظلهم بالحكم على تلك المرأة.

لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!

(يعقوب 3: 1)

 

كرستينا عزيز: إشكالية الظل لدى الفرد والمجتمع 11لم يركز المسيح على المظهر الخارجي، فالطهارة مصدرها شخصية الفرد وليس ما يرتديه، فمن الممكن أن ترتدي رداء الكهنوت مثل “رويس” وأنت في حالة أشد نجاسة من حالة فتاة الليل التي لا تغطي جسدها، وتبيعه للرجال مقابل المال؛ لأنك تعتدي على طفل لا حول له ولا قوة، وتسبب في جرحه مدى الحياة وتشويه نفسيته.

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

[ + مقالات ]