المقال رقم 19 من 19 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

تزامنت ولادة تنظيم ما بين عامي 1939 و1940 مع نشأة التنظيم الخاص للجماعة. بل إن بعض المصادر تؤكد أن تنظيم الضباط الأحرار نفسه كان يتبع التنظيم الخاص، حيث كلف الصاغ بتأسيس تنظيم سماه الجنود الأحرار كوحدة للتنظيم الخاص داخل الجيش. وكانت بياناته تُوقع أحيانًا باسم الضباط الأحرار. وقد صدر عن هذا التنظيم في الأول من ديسمبر 1941 عريضة إلى الملك حملت مطالب الجيش، وخاصةً منع ما يتعارض مع الإسلام.

كانت الخلية الأولى الرئيسية لرجال الجيش من أعضاء الجماعة تضم سبعة ضباط. ترأس محمود لبيب، وكيل الإخوان، هذه الخلية. وكان من بين هؤلاء الضباط السبعة ثلاثة من الضباط الأحرار الذين قاموا بعد ذلك بانقلاب 23 يوليو وأصبحوا أعضاء في كما لقبوها لاحقًا. هؤلاء الثلاثة هم اليوزباشي جمال عبد الناصر والملازم أول والملازم أول . أما الضباط الأربعة الآخرون فهم وسعد حسن توفيق وحسين محمد أحمد حمودة وصلاح الدين خليفة. وكان عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين حمودة أول من قادا هذا التنظيم مع محمود لبيب. ثم ضما إليه حسب مذكراتهما جمال عبد الناصر عام 1942، بالإضافة إلى خالد محيي الدين وكمال الدين حسين.

نشط الإخوان في تجنيد ضباط الجيش وضمهم إلى صفوف الجماعة. وظلت اجتماعات هذه الخلية تُعقد سرًا كل أسبوع خلال أربع سنوات وأربعة أشهر في منازل أعضاء مجلس الثورة الثلاثة، بالإضافة إلى عبد المنعم عبد الرؤوف. ومن ثم شكل هؤلاء الضباط خلايا فرعية تضم كل منها سبعة ضباط. ولم يكن هؤلاء الضباط الوطنيون يخفون إعجابهم بما تتسم به الجماعة من انضباط يقترب من الروح العسكرية التي اعتادوها. وكان النظام الخاص هو المكان الأكثر ملاءمة لهؤلاء الضباط بحكم تخصصهم العسكري وانضباطهم والتزامهم بالسرية. فقرروا أن يبايعوا البنا وينضموا رسميًا إلى النظام الخاص.

وفي كتاب حقيقة الخلاف بين وعبد الناصر يقول [1] في شهادته عن علاقة عبد الناصر بالتنظيم:

كانت دروس البنا تُعقد كل ثلاثاء، ويحضرها خليط مجتمعي، من ضمنه ضباط بالجيش. حمل بعض الضباط والجنود لواء الدعوة ونشروها بالجيش. وكان الصاغ محمود لبيب، منذ عام 1936، من أبناء الجماعة، وضم ضباطًا كُثرًا للتنظيم الخاص بنا داخل الجيش. ضم محمود لبيب مجموعة من الضباط، منهم عبد المنعم عبد الرؤوف عام 1945. قام الطيار عبد المنعم بتكوين مجموعة للجماعة داخل الجيش، من ضمنها عبد الناصر وعمار وخالد محيي الدين. قام عبد الناصر بمبايعة الإمام في بيت الأستاذ بحي الخليفة. ضمت المجموعة لاحقًا حسين الشافعي والبغدادي و. كان عبد الناصر يدرب المتطوعين الإخوان الذاهبين إلى فلسطين بتكليف من قائد النظام الخاص .

(محمد حامد أبو النصر، المرشد الرابع لجماعة الإخوان، حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر)

ويقول عبد المنعم عبد الرؤوف [2] في مذكراته:

ذهبنا نحن السبعة في ليلة من أوائل عام 1946 إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالملابس المدنية، حسب اتفاق سابق. وبعد أن اكتمل عددنا، قادنا صلاح خليفة إلى منزل في حي الصليبة بجوار سبيل أم عباس، حيث صعدنا إلى الطابق الأول فوق الأرض. ونقر صلاح خليفة على الباب نقرة مخصوصة وسأل: الحاج موجود؟ وكانت هذه هي كلمة السر، ففُتح الباب ودخلنا حجرة ذات ضوء خافت جدًا مفروشة بالحُصُر. وفيها مكتب موضوع على الأرض ليس له أرجل، فجلسنا على الحُصُر. ثم قادنا صلاح واحدًا بعد الآخر لأخذ العهد وحلف اليمين في حجرة مظلمة تمامًا. يجلس بها رجل مغطى بملاءة فلا تُعرف شخصيته. وكان سؤال الشخص المتخفي الذي يأخذ العهد: هل أنت مستعد للتضحية بنفسك في سبيل الدعوة الإسلامية؟ فكان الجواب من كل منا: نعم. فقال: امدد يدك لتبايعني على كتاب الله وعلى المسدس. ثم قال الرجل المتخفي: إن من يفشى سرنا ليس له سوى جزاء واحد وهو جزاء الخيانة. وبعد أن أعطى كل منا البيعة، عدنا إلى الحجرة الأولى ذات الضوء الخافت، فوجدنا شخصًا عَرّفنا بنفسه وذكر أن اسمه عبد الرحمن السندي، وقال: إنه يرأس النظام الخاص للإخوان المسلمين، وهو تنظيم سري مسلح يضم رجالًا باعوا أنفسهم لله وكلهم مستعدون للموت في سبيل الحق والحرية.

(الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته)

كان الذين أدوا البيعة في هذه الليلة، حسب الأقدمية في كشوف الجيش:

1- النقيب طيار: عبد المنعم عبد الرؤوف، من الكتيبة الثالثة مشاة.
2- النقيب: جمال عبد الناصر حسين، من الكتيبة الثالثة بنادق مشاة، ورئيس الجمهورية فيما بعد.
3- الملازم أول: كمال الدين حسين، من سلاح المدفعية، وعضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 فيما بعد.
4- الملازم أول: سعد حسن توفيق.
5- الملازم أول: خالد محيي الدين، من سلاح الفرسان، وعضو مجلس قيادة الثورة فيما بعد.
6- الملازم أول: حسين محمد أحمد حمودة، من الكتيبة الثالثة بنادق مشاة.
7- الملازم أول: صلاح الدين خليفة، من سلاح الفرسان.

ومنذ ذلك الوقت من عام 1946، أصبح جمال عبد الناصر عضوًا عاملًا في جماعة الإخوان المسلمين، واتخذ اسم زغلول عبد القادر  كاسم مستعار له داخل الجماعة كما ذكر الرئيس في مذكراته. وخلال مرحلة الارتباط هذه، أسهم عبد الناصر في تدريب أعداد كبيرة من العناصر الإخوانية، كما يقول عبد المنعم عبد الرؤوف [3].

وقد وزعنا المحاضرات علينا نحن السبعة والإخوان المدنيين في النظام الخاص، وقضيت عام 1946 و1947 وبضعة أشهر من 1948 في التدريس للضباط وصف الضباط نهارًا وليلًا، ولمنتظمين من جماعة الإخوان المسلمين من مختلف الأعمار. وكان إقبال الإخوان المسلمين على حفظ واستيعاب المحاضرات عظيمًا، وظهر ذكاؤهم في أثناء الإجابة عن أسئلة المشروعات التكتيكية واضحًا. وقد بذلنا نحن السبعة، ومن انضم إلى خلايانا بعد ذلك، جهودًا كبيرة في تدريب الإخوان.

(الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته)

وضمت تلك الحركة لاحقًا كلًا من البغدادي و و و. وقد صرح عبد الناصر ذات مرة بأنه مؤسس التنظيم، وليس محمود لبيب. وبالمثل، قال أنور السادات إنه المؤسس وأنه سلم المسؤولية لعبد الناصر بعد اعتقاله. لكن خالد محيي الدين يروي في حديثه على قناة الجزيرة الوثائقية أنه بمجرد أدائه البيعة والقسم على المصحف والمسدس، عزم في قراره نفسه الانسحاب من هذا التنظيم. وبينما كان في طريقه للخروج من باب الشقة التي أدوا فيها القسم، نظر إلى عبد الناصر باسمًا ساخرًا، فأشار له عبد الناصر أن يصمت قائلًا: نتكلم بعدين، واتفق مع عبد الناصر على ألا يستمروا في الولاء لهذا التنظيم.

ويكمل حديثه: كيف يمكن لنا كعسكريين أن نأخذ أوامر من مدني يتبع تنظيمًا مجهول الهوية؟ فمن الواضح أن الضباط الأحرار قد اتخذوا من الإخوان وسيلة دعم وسند مؤقتة دون أن يكون لهم ولاء أو انتماء حقيقي للجماعة. ومن الواضح أيضًا أن الإخوان قد فعلوا الشيء ذاته وحاولوا أن يتخذوا من الضباط الأحرار سندًا مسلحًا لهم دون أن يكونوا مؤمنين حقيقة بفكر الضباط الأحرار. وقد ظلت حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا وعبد الرحمن السندي في القطاع المدني، وجمال عبد الناصر في القطاع العسكري، تعمل للاستيلاء على السلطة كما كان مقدّرًا لها في عام 1955. فقد قدرت قيادة الضباط الأحرار أنه في هذا العام يكون قد توافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والحركية ما يمكنها من الاستيلاء على السلطة في مصر.

المرحلة التي تلت من عام 1945 وحتى 1948 شهدت تطورًا في وضع الضباط الأحرار باتجاه الابتعاد عن الإخوان المسلمين، بسبب تصرفات كثيرة صدرت من الجماعة، على سبيل المثال مهادنة وتعضيد حكومة صدقي مقابل المصالح، وهو ما اعتبره الضباط الأحرار وقتها انحرافًا عن الوطنية، لأنها مهادنة كانت ضد الشعب المصري كله، ففي كتاب السادات أسرار الثورة المصرية قال: وقعت حوادث جامعة فؤاد الشهيرة في فبراير 1946، فأثارت حماسة الضباط للحركة الشعبية وحقدهم على السلطة. وخلال الأيام التي تلت هذه الحركة، وقعت المهادنة بين وجماعة الإخوان المسلمين. [4].

فكان تأثير هذه المهادنة تأييد دعوة الضباط الأحرار إلى عدم الارتباط بأي جماعة خارج نطاق الجيش. وربما تكون تلك الحادثة هي بداية التراجع عندما اكتشف الضباط انتهازية الإخوان خلال اندفاعهم في تأييد حكومة إسماعيل صدقي الرجعية الديكتاتورية التي لا تحظى بثقة الشعب والضباط الوطنيين، إذ وضح التناقض بين ضباط الجيش الذين كانوا كأفراد على صلة بالإخوان المسلمين وبين الإخوان كجماعة لها سياستها التي أوحت لها في ظرف من الظروف بأن تهادن حكومة صدقي ضد حركة الشعب. فاستقل الضباط الأحرار عن الإخوان لما رأوا منها من تناقضات وأفعال كلها تصب في مصلحة الجماعة فقط غير عابئة بمصلحة الوطن.

لكن لم يكن الاستقلال تامًا، وذلك لحاجة العسكر للإخوان كغطاء شعبي داعم للانقلاب المنتظر قيامه في القريب العاجل. وكان عاملًا ثانيًا سببًا في رغبة عبد الناصر ومجموعته الانفصال عن الإخوان وجماعتهم؛ هو بداية الإخوان في ممارسة العنف والقيام بعمليات إرهابية جزئية، الأمر الذي قد يضر بالحركة الوليدة حديثًا بسبب السخط الشعبي على الإخوان في ذلك الوقت. كما أن عاملًا ثالثًا لا يمكن إهماله يتمثل في الصدمة الأخلاقية للضباط نتيجة الاتهامات الموجهة ضد ، صهر المرشد، وتأييد البنا غير المبرر له.

في كتابه والآن أتكلم، أدلى خالد محيي الدين بتلك الشهادة [5] قائلًا:

عام 1944، عرفني الضابط الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف بعبد الناصر، ثم محمود لبيب كضابطين من الإخوان. قمنا بتكوين مجموعة من العسكريين الإخوان، بعضها في منزل أحمد مظهر. لم نكن جميعًا من أصحاب الولاءات للإخوان، فمنا من كانوا من الإخوان تمامًا ومنا مجرد ضباط يبحثون عن طريق. كان عبد الناصر يقول لي بأن الإخوان يريدون استغلال الضباط وليس لهم أهداف وطنية، ويتساءل عن سبب عدم قيامهم بالهجوم على الاحتلال والتظاهرات الكبرى.

كان عثمان فوزي، ضابط زميل، رفض الانضمام إلينا كمجموعة إخوانية، وبدأ يعطيني كتبًا عن الة و والسياسة ال. بدأت أسأل ولا أجد إجابات عن برنامج الجماعة ورؤيتها. وعلى الرغم من أسلوب حسن البنا الرائع، لم أقتنع. ظل عبد الناصر مصرًا على ظنه بالإخوان، وأنا على ترددي. فحاولت الجماعة ضمنا إلى النظام الخاص.

في منزل بحي الخليفة، قابلنا عبد الرحمن السندي وأقسمنا اليمين في طقوس خاصة لم تترك أثرًا في نفوس أي منا. انضمنا لمجموعة تدريب مسلحة بالقرب من حلوان، وكان مستوانا أفضل من المدربين، مما جعلنا نغتر أكثر. كان تقارب الجماعة مع إسماعيل صدقي ووقوفها ضد الحركة الوطنية، تأكدنا من سوء نواياهم واستغلالهم لنا، فتباعدنا دون انفصال عن الإخوان.

عام 1947، كانت علاقتنا بالإخوان باهتة للغاية. ويذكر أنه في عام 1949، تم العثور مع الإخوان على كتاب عن صناعة القنابل يخص عبد الناصر، كاد يقيله من عمله، مما دفعنا مع كل الأسباب للبدء بتأسيس الضباط الأحرار في منتصف عام 1949. كانت خليتنا الأولى في الضباط الأحرار لجنة القيادة تضمنا إلا عبد المنعم عبد الرؤوف الذي فضل الاقتراب من الإخوان عنا.

في بداية عام 1951، أصر عبد المنعم عبد الرؤوف على أن تنضم هيئة الضباط الأحرار لجنة القيادة بالكامل للإخوان، ورفضنا بالإجماع. قبيل الثورة، أخبرنا عبد الناصر أن حسن عشماوي، القيادي في الإخوان، عاود الاتصال به وتحدث عن نيّة الإنجليز التخلص من الملك وأبدى تلميحًا بأن الإخوان داعمون لرحيله. تم الاتفاق على التحرك يوم 22 يوليو، لكن في يوم 21 يوليو طلب عبد الناصر التأجيل يومًا واحدًا للمزيد من الحشد.

في هذه الأثناء، قابل عبد الناصر الإخوان وحظي بدعمهم للانقلاب بشروط عدة لم يوضحها عبد الناصر، وذكر اضطراره للموافقة عليها مبدئيًا، وأبدى رأيه بضرورة إعادة الحسابات مع الإخوان. أبلغ عبد الناصر الذي أبلغ حدتو [الحركة الة للتحرر الوطني]، وكان هذا هدف عبد الناصر.

(خالد محيي الدين، والآن أتكلم)

لقد أدرك عبد الناصر أن الطريق الإخواني لا يلائم طموحه، ولذلك سعى إلى تحويل ولاء الضباط إلى التنظيم الذي شرع في تأسيسه دون أي ارتباط بقوى أخرى. ولا يعني هذا أن نفوذ الإخوان قد انتهى وتبخر، لكن المؤكد أنه تراجع ولم يعد يواصل الصعود. بالإضافة إلى أن جمال كان يدرك جيدًا أنه ما زال بحاجة إلى الإخوان كغطاء شعبي لثورته المرتقبة. لذا ففي نفس الشهر فبراير 1946، وفي اجتماع للجنة الضباط الأحرار، قال عبد الناصر: إنه يتوقع خيرًا كثيرًا من الإخوان.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. محمد حامد أبو النصر، المرشد الرابع لجماعة الإخوان، كتاب: حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر. [🡁]
  2. الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته. [🡁]
  3. الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته. [🡁]
  4. محمد أنور السادات، أسرار الثورة المصرية. [🡁]
  5. خالد محيي الدين، في كتابه والآن أتكلم. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الهضيبي مرشدا
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎