أتى إبراهيم عبد الهادي ليدير ماكينة العنف الرسمي إلى أقصى مداها، ولتتسع دائرة الاعتقالات في صفوف الإخوان فتشمل 4000 معتقل، وتعرض بعض المعتقلين لأقصى درجات التعذيب الوحشي الذي لم تعرف له مصر مثيلًا من قبل، وكانت الستة أشهر التالية لتولي إبراهيم عبد الهادي الحكم صورة راسخة في أذهان المصريين جميعًا للسلطة الرسمية الغاشمة، وقد اكتسب عبد الهادي لنفسه خلالها عداء كافة فئات الرأي العام المصري.
ودارت ماكينة العنف البوليسي ضد الإخوان، هؤلاء الذين باركوا دورانها ضد خصومهم من الوفديين والتقدميين والشيوعيين في السابق، فإذا بغول الديكتاتورية يبتلعهم هم أيضًا، والمعتقلات التي افتتحت في ظل مباركة الإخوان وتهليلهم يوم 15 مايو 1948 بمناسبة حرب فلسطين والتي استقبلت خصومهم السياسيين، أخذت تتوسع كي تستقبل الألوف من أعضاء الإخوان، وفي زنازين التعذيب الرهيبة كان أقصى ما يؤلم الإخوان قيام أجهزة الأمن بتعليق الآية الكريمة إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
، ولعل شكوكًا كثيرة قد ساورت هؤلاء الشبان من أعضاء الجهاز السري وهم يعانون من التعذيب الوحشي في جدوى عملية الإرهاب ضد خصومهم، وربما في مدى مشروعيتها.
خطوات نحو المصالحة
أتت حادثة اغتيال النقراشي لتصب الزيت على النيران المشتعلة وتزيد الأمر سوءًا، ووجد البنا نفسه وحيدًا، محتقرًا من الجميع، والجميع ضده، الملك والحكومة والنواب والأحزاب، والشعب ساخط عليه، وجماعته في السجون والمعتقلات ومن نجى منهم من السجن تم نقله إلى أبعد مكان في مصر.
حاول البنا التردد على الوزراء في مكاتبهم ومنازلهم فكانوا يتهربون من لقائه، فلم يجد إلا صديقه محمد صالح حرب، رئيس جمعية الشبان المسلمين ليرتمي بين يديه طالبًا محاولة حل الأزمة فوعده بالتصرف، وبناء على طلب البنا أتصل صالح حرب تليفونيًا بمصطفى مرعي وزير الدولة بعد 48 ساعة من تشكيل وزارة إبراهيم عبد الهادي، ليخبره أن البنا طلب لقائه في بيت صالح حرب لأشياء يود أن يصارح بها مصطفى مرعي.
كان إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء قد عهد إلى مصطفى مرعي بإنهاء حالة التوتر بين المرشد والحكومة التي ترتبت على حل الجماعة والتقى الثلاثة فعلًا، فبدأ البنا الحديث عن اعتقالات الإخوان وفصل ونقل الموظفين منهم، والاستيلاء على شركات وأموال الإخوان، وطلب من مصطفى مرعي الإفراج عن المعتقلين، أجاب مرعي بان الجماعة أضحت ملاذًا للجرائم والمجرمين وسبب اهتزاز الأمن في البلاد كلها، فدافع البنا عن نفسه بقوله أن الذين أجرموا قد فعلوا ذلك بغير إرادته، وقد فكر بالفعل في حل الجماعة لكن شق عليه أن يهدم بناءًا أقامه في عشرين عامًا وسأل نفسه في حضورهم إن كان الزمام قد أفلت من يده؟ فأجاب مرعي أن على البنا أن يكتب بيانًا يتضمن تلك المعاني، فشق على البنا أن يفعل ذلك ويتبرأ من أصدقائه ومريديه ومحبيه، فكتب مقالًا جاء فيه عكس ما اتفقوا عليه، فرفضه مصطفى مرعي وطلب منه أن يعلن استنكاره للجريمة صراحة، ويتبرأ من قاتل النقراشي وممن دبروا الجريمة صراحة، فأستجاب البنا في المرة الثانية وفعل البنا ما طُلب منه.
وجاءت صحف الصباح يوم 11 من يناير 1949 وفي صفحتها الأولى بيان للناس
بقلم المرشد العام للإخوان، حسن البنا، قال فيه؛ إن الأحداث الماضية نُسبت لمن دخلوا الجماعة دون أن يتشربوا من روحها
، ورثى النقراشي واعتبره قائدًا للامة، وتبرأ إلى الله من كل تلك الأفعال ومن مرتكبيها.
كان البنا قد كتب هذا البيان بهدف إقناع الحكومة بأن الجماعة ليست طرفًا في جريمة اغتيال النقراشي وليست محرضة عليها، ليلقى بالتهمة كلها على عبد المجيد متنصلًا منه ومن فعلته، وكان البنا يريد تهدئة الموقف مع الحكومة وإقناعها بالإفراج عن المعتقلين، فأستغل النائب العام محمود منصور مقال البنا، وعرض نسخة من الجريدة الرسمية على عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي وفيها بيان للناس
الذي كتبه المرشد العام، وبالرغم من أن عبد المجيد حسن قد صمد لثلاثة أسابيع كاملة في مواجهة تعذيب وحشي ضده وضد أسرته، لكنه انهار تمامًا عندما قرأ بيان الشيخ البنا الذي نشرته الصحف، وأدلى بكل ما في جعبته واعترف اعترافًا صريحًا بانتمائه للجماعة وللجهاز السرى، وأنه قتل النقراشي لإصداره قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين، وأن السندي قد دبر الحادث من داخل معتقله.
وتوالت اعترافات عبد المجيد، وقال أن خطة اغتيال رئيس الوزراء وضعت يوم 18 من ديسمبر، واتفق على التنفيذ في 23 من ديسمبر أي بعد أسبوعين من قرار الحل، ثم أرجئ التنفيذ إلى أن تتخذ التدابير لحماية الشيخ حسن البنا إن اتجه تفكير الحكومة إلى قتله انتقامًا لاغتيال النقراشي المزمع القيام به، وأدت اعترافات عبد المجيد إلى القبض على خمسة من الإخوان المسلمين بتهمة الاشتراك والاتفاق والتحريض والمساعدة من بينهم الشيخ سيد سابق، الذي أقنع عبد المجيد أن القتل حلال في سبيل الله، فالنقراشي قد اعتدى على الإسلام بحل الجماعة، وأستشهد سيد سابق ببعض الآيات القرآنية، واعترف عبد المجيد على ضابط الشرطة أحمد فؤاد الذي أعد كل الاستعدادات للجريمة وكان مقررًا أن يقوم بنفسه باغتيال النقراشي، وانتحر هذا الضابط عند محاولة القبض عليه، ويعترف محمود الصباغ بعد أربعين عامًا من حادث الاغتيال بالمسئولية في كتابه حقيقة التنظيم الخاص
قائلًا:
أن العملية جاءت من باب حماية الدعوة.
لا يمكن أن نعتبر قتل النقراشي باشا من حوادث الاغتيالات السياسية فهو عمل فدائي صرف، قام به بعض أبطال الإخوان المسلمين، لما ظهرت خيانة النقراشي باشا صارخة في فلسطين، بأن أسهم في تسليمها لليهود، ثم أعلن الحرب على الطائفة المسلمة الوحيدة التي تنزل ضربات موجعة لليهود.
كان الشهيد السيد فايز هو مسئول النظام الخاص عن مدينة القاهرة بعد اعتقال كل من يعلوه في القيادة، سواء رجال الدعوة العامة أو من رجال النظام الخاص، فقد اعتقل جميع أعضاء الهيئة التأسيسية، وحيل بين المرشد العام وبين جميع الإخوان، فأصبح سيد فايز هو المسئول الأول عن حماية الدعوة في هذه الظروف الشاذة وله حق الاجتهاد، وقد نظر السيد فايز في قرار حل الإخوان المسلمين وفي الظروف التي تحيط بهذا القرار سواء في الميدان أو داخل مصر فشعر أنه محكوم بحكومة محاربة للإسلام والمسلمين، وقرر الدخول معها في حرب وعصابات فوق أرض مصر، ولم يكن للسيد فايز من بد في أن يتحمل هذه المسئولية، فكل إخوان الدعوة العامة معتقلون، والمرشد العام محجوب عن اللقاء بالإخوان بوضعه تحت العدسة المكبرة لرجال الأمن طوال ساعات النهار والليل، فليس هناك مجال للاتصال به أو أخذ التعليمات منه، وبدأ السيد فايز مسئول الجهاز الخاص آنذاك المعركة بواد رأس الخيانة محمود فهمي النقراشي، وقد كون فايز خلية من محمد مالك وشفيق أنس وعاطف عطية حلمي والضابط أحمد فؤاد وعبد المجيد أحمد حسن ومحمود كامل، لهذا الغرض.
ونجح عبد المجيد أحمد حسن في قتل النقراشي في مركز سلطانه ووسط ضباطه وجنوده وهو يدخل مصعد وزارة الداخلية.(محمود السيد خليل الصباغ، حقيقة التنظيم الخاص)
في الوقت ذاته، فتح بيان البنا باب للتفاهم بينه وبين الحكومة، فأوقف مصطفى مرعي بيع منقولات شُعب الجماعة بالمزاد، ولكنه رأى استمرار اعتقال الإخوان لبعض الوقت، وطلب من البنا أسماء الأعضاء الخطيرين، ومكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية، لكن البنا أبى أن يكشف عن تلك المعلومات إلا بعد أن يخلى سبيل بعض المعتقلين حتى يعرف منهم المعلومات المطلوبة.
من الناحية الأخرى أثار بيان البنا ثائرة وغضب أعضاء النظام الخاص داخل المعتقل وعلى رأسهم السندي، كان عبد الرحمن السندي ونظامه الخاص يرى أن البنا قد خانهم وباعهم للحكومة، وبما أنهم جميعًا متورطين في قضية السيارة الجيب فكان لابد من حل سريع يخرجهم من القضية، ولا يوجد حل أفضل من إخفاء الأدلة التي تدينهم، فعمل السندي على إرسال أحد رجاله الذين خارج السجن للتخلص من أوراق القضية.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤