ضبط حياة الراهب والتزاماته ونذوره الرهبانية التقليدية (البتولية والعفة، العزلة، الفقر الاختياري، عدم القنية، الطاعة) هي القضية التي شغلت الكنيسة المعاصرة، وكانت عودة الرهبان المقيمين خارج الأديرة إلى أديرتهم القرار الأول أو الرئيسي الذي أصدره الآباء البطاركة؛ ال وال الثالث والبابا ، وشهد هذا الأمر مع ثلاثتهم صورا كثيرة للتحايل عليه وكسره حتى الآن.

وثمة ظاهرة أخذة في التوسع في العصور الثلاثة، وهي منح الراهب رتبة كهنوتية (قس) التي بدأت على استحياء مع حبرية البابا كيرلس، لتتفاقم حتى صارت الأديرة تضع قوائم انتظار لرسامة رهبانها كهنة، بعد أن كان الاسقيط بجملته يخدمه كاهن واحد عُرف في أدبيات الرهبنة بـ(قس الاسقيط).

ترتب على ذلك أن صار من حق الراهب القس تلقي اعترافات زوار الدير- أو من يزورهم خارجه- وينفتح أكبر باب للحرب الروحية على الراهب والمعترفين والمعترفات، وتختل منظومة الاعتراف بالتبعية في الكنائس المحلية، حيث يفضل الشباب الاعتراف بعيدًا عن كنيسته لأسباب متوهمة وربما نفسية.

ومع التطور في مشاريع الأديرة الإنتاجية في استصلاح الأراضي أو التنمية الحيوانية والداجنة وما استتبع ذلك من مشاريع التصنيع الزراعي، تحول الراهب إلى تُرْس في آلة الإنتاج الكبيرة، لترتبك التزاماته الأساسية ونذوره وتغازله (القنية) وتطارده محبة المال.

ومن ضمن الضربات اليمينية التي حذر منها مؤسسو الرهبنة وأعلامها إنشاء إكليريكيات للرهبان، داخل الأديرة، الأمر الذي يخلق داخل الراهب شعورًا يصل إلى حد اليقين بأنه صار مؤهلًا ليكون معلمًا، فتضيق عليه قلايته ويسعى للنزول لخدمة الكنيسة في العالم، وهو أمر يختلف عن الحرص على تعليم الراهب، أصول الرهبنة ونمو حياته الروحية والتتلمذ على فضائل الرهبنة وآبائها، ويتوجب التفريق هنا بين التعليم الإكليريكي والتعليم الرهباني، وهو ما انتبهت إليه الكنيسة في حبرية البابا الذي أنشأ مدرسة الرهبان بحلوان لإعداد من يرشح من الرهبان لرتبة الأسقفية، وقدمت للكنيسة العديد من الأساقفة الأتقياء، حتى أُغلقت في مطلع ستينيات القرن الماضي.

ملاحظة: إكليريكية دير المحرق تعد الكهنة من الشمامسة المدنيين.

لذا وجب أن تدرس الكنيسة تفكيكًا لكل هذه المخاطر، وبشكل موضوعي إنشاء نسق الرهبنة الخادمة أو العاملة، وترتب لها المهام والحياة الخاصة بها (بعيدًا عن الرهبنة التقليدية التي لها دورها الروحي الداعم للكنيسة والحافظ لتراثها).

وقد سبقتنا كنائس تقليدية رسولية في هذا الأمر، وقد شهدنا بمصر منذ القرن الثامن عشر هذه الرهبانيات الخادمة فيمَا عرف بالإرساليات، التي أسست العديد من المدارس والمستشفيات ودور الإيواء، وما زالت، وشرّعت أبواب خدماتها لكل المصريين، وكانت عنصرًا مؤثرًا في دعم سلام المجتمع.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨