من الصعب أن نعبر عن تجسد الكلمة وظهور الله في الجسد واحتفالنا بعيد الميلاد وما آل إلينا نحن البشر من هبات من هذا التجسد العجيب كما ذكرنا في المقال السابق، دون أن نعبر أيضًا ولو بشكل مبسط عن الإعلان عن هذا الظهور الإلهي للعامة والخاصة، أقصد ما حدث يوم عماد الرب يسوع في نهر الأردن في حضور صديق العريس، يوحنا المعمدان.
لقد حدث ميلاد الرب بالجسد في صمت لم يشعر به إلا بعض الرعاة ومجوس من المشرق قادهم النجم لمعرفة مكان المولود، نعم منذ ميلاد الرب يسوع بالجسد أصبحت السماء في عمل دؤوب وأصبح الطريق بين السماء والأرض ممهد ومفتوح بعد كان قد أغلق منذ سقوط ممثل البشرية، آدم الأول، وطرده من جنة عدن، أي لذة الله، ووضع الرب كروبيم وسيف في وجه البشرية لئلا يأكل من شجرة الحياة ويحيا آدم في فساده إلى الأبد، وهنا يتجلى لنا صلاح الله.
فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة(سفر التكوين ٣ : ٢٤)
ومنذ ذلك الحين يسيطر على الإنسان شعور عام بأن الله ساكن سماوته وسط عظمته وجبروته يترقب أخطاء البشر ليعاقبهم، لذلك كان وما زال كل ما يشغل فكر وذهن الشخص الغير مٌجدد بكلمة الحق وروح الحق هو إرضاء هذا الإله حتى يتجنبوا غضبه ولا ينتقم منهم، وهذا الفكر خارج مسيحيتنا بالكلية؟
أقول أصبح الطريق ممهد للعمل الأعظم الذي سيضع حدا لتوهان وزيغان وبعَد واغتراب البشرية عن خالقها آلا وهو الفداء وعمل الصليب الكامل.
وهنا يتجلى لنا أول إعلان للعالم عن قرب خلاصه من براثن الخطية وعبوديته لأفكاره وخضوعه لرئيس قاس والأهم من هذا وذاك هو إعلان عن أن الطريق للسماء أي الشركة بين الإنسان وخالقه قد بدأ في الظهور وأن العداوة بين الأرض والسماء القديمة تكاد تكون في طريقها إلى الزوال كما نصلي في القداس الغريغوري:
والعداوة القديمة هدمتها وأصلحت الأرضيين مع السمائيين وجعلت الاثنين واحدًا(القداس الغريغوري)
إذن لقد كان نزول الرب يسوع في نهر الأردن هو بمثابة إعلان إلهي سماوي للأرض والساكنين عليها وكان الوسيط هنا أخر نبي يمثل العهد القديم، كان يوحنا المعمدان صادقًا وأمينًا في خدمته لم يطلب لنفسه مجد وكرامة، كان صوت صارخ لإعداد الطريق للمخلص قالها مرة ومرات: أنا لست المسيح.
أجاب يوحنا الجميع قائلًا أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار(إنجيل لوقا ٣: ١٦)
أراد من هو أعظم نبي في العهد القديم أن يحول عيني المارة وأرجو أن يحول عيني كل من يقرأ أيضًا إلى الحمل الحقيقي الذي يرفع خطيه العالم الذي مازال يَصرح لكل نفس جائعة وتبحث عن عريسها الحقيقي قائلًا:
اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك. فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له(مزمور ٤٥ :١٠- ١١)
وهنا أيضًا إعلان عن بزوغ عهد جديد و نهاية لحقبة الناموس وسلطانه على النفس البشرية.
يوحنا المعمدان لم يكن يعرف يسوع بالجسد قبل ذلك اليوم كي لا يقال إن صديقه قبلًا وشهد له لكن من أرسل يوحنا أعطى له العلامة كما يقول الإنجيلي يوحنا الحبيب.
وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس(إنجيل يوحنا ١: ٣٣)
إذن عيد الظهور الإلهي أو كما يطلق عليه في الكنيسة الإبيفانيا، هو ظهور معلن للعالم وإعلان موثق من السماء بصوت الآب وفي حضور الابن بالجسد وسط مياه نهر الأردن الذي يرمز للموت في رحلة الشعب في القديم واستقرار الروح القدس على الابن يسوع في صورة حمامة بعد أن خرجت الحمامة من فلك نوح في القديم ولم تجد مستقرًا لها لكن الآن في الإبيفانيا قد وجد الروح القدس مستقرًا له على الأرض أي في الطبيعة البشرية ممثلًا في الابن يسوع، وصار ظهور وحضور الثالوث الآب والابن والروح القدس.
ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلًا أنت ابني الحبيب بك سررت(إنجيل لوقا ٣ : ٢٢)
ومن الارتباط الوثيق بين الميلاد ومعمودية يسوع في نهر الأردن كانت الكنيسة حتى قرب نهاية القرن الرابع تعيَد لميلاد المسيح وعماده معا في يوم واحد وهو عيد الإبيفانيا.
نزول الرب يسوع في نهر الأردن كان بمثابة إطلاق الشرارة الأولى في مواجهة مملكة الظلمة، إذ بعد خروج الرب من نهر الأردن ممتلئًا من الروح القدس، لحساب الطبيعة البشرية في جسده ممثلًا لابن الإنسان أو الإنسان الجديد حسب فكر الله منذ خلق الإنسان، ابن الإنسان الذي تمت فيه ولادة البشرية ولادة جديدة من الله ليصير المسيح وإلى الأبد رأس الإنسانية الجديدة المدعوين قديسي العلي حسب تعبير دانيال.
حتى جاء القديم الأيام وأعطي الدين لقديسي العلي وبلغ الوقت فامتلك القديسون المملكة(سفر دانيال ٧ : ٢٢)
أقول منذ ذلك الحين بدأ دحر مملكة الظلمة وإعلان لتأسيس ملكوت السموات على الأرض وإعطاء الإنسان الجديد في المسيح يسوع الغلبة مرة أخرى ورد السلطان الذي سُلب منة في جنة عدن. إذ بعد خروج الرب يسوع من الأردن حدث أنه أُصعد بالروح إلى البرية ليجرب من إبليس لحساب البشرية، إذ يقول القديس كيرلس الكبير: أن تجسد الكلمة جعل كل ما يحققه في ذاته له أثر نافذ في كل الطبيعة البشرية
.
إذن فقد غلبنا نحن في المسيح على جبل التجربة الذي قد تمكن من آدم في القديم ﴿الشيطان﴾ قد ذهب خائبًا لكي ندوسه تحت أقدامنا لأن الذي غلب وانتصر هو بكرنا وأخونا الأكبر يسوع إذ هو رأس وبداية كل خليقة جديدة إذ هو بكر بين أخوة كثيرين فلنفرح ونتهلل معا ونردد قول الرب بثقة ودخول إلى عمق الانتصار والغلبة على إبليس جنوده
ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء(إنجيل لوقا ١٠: ١٩)
نحن في المسيح أعظم من منتصرين ما دمنا نحيا الإبيفانيا أو الثيوفانيا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- الرهبنة.. اقتراب من أزمتها ضبط حياة الراهب والتزاماته ونذوره الرهبانية التقليدية (البتولية والعفة، العزلة، الفقر الاختياري، عدم القنية، الطاعة) هي القضية التي شغلت الكنيسة المعاصرة، وكانت عودة الرهبان المقيمين خارج الأديرة إلى أديرتهم القرار الأول أو الرئيسي الذي أصدره الآباء البطاركة؛ البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث والبابا تواضروس الثاني، وشهد هذا الأمر مع ثلاثتهم صورا كثيرة للتحايل عليه......