المقال رقم 6 من 9 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

بعد توليه الوزارة بثلاثة أيام، حل مجلس النواب، فقرر الإخوان دخول المعركة الانتخابية التي قاطعتها تقريبًا كل الأحزاب الأخرى بـ 17 مرشحًا انتهازًا للفرصة كما سيفعلون مستقبلًا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي سبقت الثورة المصرية في نوفمبر 2010 وأجمعت القوى الوطنية على مقاطعتها. وعلى الرغم من تأكيدات على أن الإخوان ليسوا حزبًا سياسيًا ولا طامعين في السلطة بل هم دعاة وفقط، وبالرغم من اعتراض بعض الإخوان على دخول البنا معترك السياسة بشكل رسمي بهدف قصر نشاط الجماعة على الدعوة فقط، لكن طموح البنا فوق أي معارضة، فقد برر البنا تبني الإخوان للعمل السياسي بحجة تنافر الأحزاب، مصرحًا بأنه؛ في حالة تخلف قادة الشعب عن تولي الأمور، فأنه سيتقدم ليقود الشعب.

وكان قرار حسن البنا بدخول البرلمان هو رد فعل لعودة الوفد عدو الجماعة إلى صدارة المشهد السياسي وتولى النحاس رئاسة الحكومة، وكاستغلال لحالة السخط التي أصابت النخبة السياسية والشعب من حزب الوفد بعد قبول النحاس تولي الوزارة بالقوة كنتيجة لإجبار “” لفاروق بتولي النحاس رئاسة الوزارة، ولإثبات الوجود وجس النبض واختبار قوة وتأثير وشعبية الجماعة في الشارع.

قال البنا وهو يرشح نفسه عن دائرة الإسماعيلية؛ إن الترشيح يتم في ظل الإسلام وتحت راية القرآن، وتركزت دعاية البنا على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وجاء في مقال نشرته إحدى الصحف أن البنا سيكون زعيم المعارضة في البرلمان، واختار البنا بلدة الإسماعيلية الصغيرة كي يترشح على مقعدها، كونها المكان الذي شهد ميلاد الجماعة والتي بدأ فيها دعوته، وبسبب شعبيته القوية بالطبع هناك، لكن حزب الوفد الذي يقف ضد خلط الدين بالسياسة بالمرصاد، لم يعجبه الأسلوب الذي تمارس به الجماعة دعايتها، فأرسل النحاس يطلب لقاء البنا شخصيًا ليناقشه في مسألة ترشيحه للبرلمان بفندق مينا هاوس وليقنعه بسحب الترشيح، وخيره النحاس بين العمل في الدعوة أو العمل في السياسة، وعليه أن يختار ما بين الاثنين لا أن يجمع بينهما، فأنتهز البنا الفرصة للمساومة والخروج بأكبر عدد من المكاسب نظير عدوله عن الترشيح.

كان البنا قد فُرضت عليه قيود من الحكومة السابقة كعدم مغادرته القاهرة مثلاُ إلا بعد الحصول على إذن رسمي من وزارة الداخلية اتقاء لما يمكن أن يفعله إن غاب عن أعينهم، فوعده النحاس بتذليل أي عقبات تقف أمام الجماعة بشرط أن يوجهوا نشاطهم في سبيل الدعوة فقط، وكان هذا مرضيًا للبنا مؤقتًا، فتذليل العقبات أمامهم كفيلة بمضاعفة نشاطهم الذي حدته الحكومة السابقة، وكان للبنا طلب آخر، هو أن تعده الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحظر المشروبات الكحولية والدعارة، فوافق النحاس، وأمر بعد فترة وجيزة بفرض قيود على بيع المشروبات الكحولية في أوقات معينة يوميًا وخلال شهر رمضان وفي الأعياد الدينية، وبالطبع كان هذا أقصى ما يتمناه البنا، وفي المقابل أرسل البنا إلى النحاس رسالة أعلن فيها ولاء المرشد العام والجماعة للحكومة والتزامه بمعاهدة 1936.

لكن وكالمتوقع لم يف حسن البنا ولا الإخوان بالتزاماتهم، ولم يبتعدوا عن السياسة كما وعد البنا، خصوصًا أنه بعد اتفاق النحاس وحسن البنا على تنازل الأخير عن ترشيح نفسه أوقف فاروق المعونات المالية التي كان يمن بها على الجماعة، ولم يعد هناك أي تفاهم محدد بين الطرفين لاستشعار الملك أن البنا لم يعد يلعب لحسابه ضد الوفد، بل لحساب مصلحة الجماعة أينما وُجدت تلك المصلحة، فتدارك البنا الأمر سريعًا، وصدرت صحيفة الإخوان في 29 أغسطس 1942 يتصدر غلافها صورة لل وفي يده المسبحة، ثم ذهب وفد من الجماعة برئاسة حسن البنا إلى قصر عابدين لرفع هذا العدد إلى صاحب الجلالة الملك المحبوب أيده الله.

ومرة أخرى تتدخل السفارة البريطانية ضد الإخوان، فحظرت الحكومة الوفدية الاجتماعات العامة للجماعة في سبتمبر 1942، وهددت الإخوان باتخاذ المزيد من الإجراءات الانتقامية نحوهم، وتلقى المرشد العام تحذيرًا قويًا من القيام بأية أنشطة معادية لبريطانيا أو الحكومة حتى لا تتعرض قيادات الجماعة للاعتقال، واستدعى ، وزير الداخلية وقتئذ، المرشد العام وقال له:

يا شيخ حسن عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حرب سياسي؟ احنا معندناش مانع أبدا أنكم تكونوا حزب سياسي، أعلنوا على الملأ إنكم بتشغلوا بالسياسة وأنكم كونتم حزب سياسي ولا تتستروا بستار الدين ولا تتخفوا في زي الدين، أما أن تتستروا تحت شعار الدين [الله أكبر ولله الحمد] وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السياسي وتباشروا السياسة الحزبية فهذا غير معقول، لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السياسية. أنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية وإلا سأكون محل استنكار من الرأي العام.

(فؤاد سراج الدين)

حادثة القصاصين

في عصر يوم 15 نوفمبر 1943 كان الملك فاروق يقود السيارة التي أهداها له الزعيم النازي أودلف بسرعة كبيرة بجوار ترعة الإسماعيلية عائدًا من رحلة صيد، وفوجئ بمقطورة عسكرية إنجليزية كانت قادمة من بنغازي وقد انحرفت يسارًا فجأة وسدت الطريق أمامه لكي تدخل المعسكر، فانحرف لتفادي السقوط في الترعة، واصطدمت مقدمة المقطورة بسيارته وطارت عجلاتها الأمامية، وحطمت الباب الأمامي ووقع في وسط الطريق، وكاد الحادث أن يؤدي بحياته، وتم نقله إلى داخل المعسكر لإسعافه، ثم حملته السيارة الملكية إلى المستشفى العسكري القريب في القصاصين، وقد أحاط جنود مصريين بعد الحادث بالمستشفى من تلقاء أنفسهم، وتم إبلاغ القصر الملكي وحضر الجراح بالطائرة من القاهرة لإجراء العملية له.

وبعد انتشار الخبر في أرجاء مصر، زحفت الجماهير بالألوف وأحاطت بمستشفى القصاصين طوال إقامته فيه بعد الجراحة التي ظل يعانى من آثارها طوال حياته، وسببت له السمنة المفرطة بعد ذلك، وسرت شائعات بأن الحادث كان مدبرًا للتخلص منه بسبب تفاقم الخلاف الحاد بينه وبين السفير البريطاني السير “مايلز لامبسون” بعد حادث 4 فبراير، ورأس حسن البنا وفدًا من المركز العام وسافر به إلى القصاصين عقب الحادث، وانتقل وفود من شعب الأقاليم وفرق الجوالة إلى المستشفى، ووصفتهم صحيفة الإخوان بأنهم؛ يحدوهم جميعًا شعورهم نحو مليك البلاد، حفظه الله، وعجل له بالعافية وسرعة الشفاء.

واستمرت صحف الإخوان في نفاق الملك فاروق، فأشادت به عندما ترك الاحتفال بعيد ميلاده وذهب إلى الصعيد؛ يواسي المنكوبين منه ويزور الفقراء المعدمين ويصلهم بعطفه وبره.، وتستمر احتفالات الجوالة بالمناسبات الملكية، فتشارك في الاحتفالات بعودة الملك للقاهرة، فحين تقرر عودته للقاهرة، أصدر مكتب الإرشاد العام أمره إلى جميع الفروع في الأقاليم ليصطف الأعضاء بأعلامهم وجوالتهم على المحطات التي يقف فيها القطار الملكي؛ لأداء فروض الولاء والاحتفاء بالطلعة المحبوبة، وعندما زار الملك عبد العزيز آل سعود مصر، استعراض الإخوان جوالتهم أمام شرفة قصر الضيافة، وكان يقف إلى جوار الملك الوكيل العام للإخوان، في حين اندس حسن البنا بين الجماهير يشاهد الاستعراض، وتكررت الاستعراضات في عيد ميلاد الملك أو عيد جلوسه، وتصف مجلة النذير الجوال بأن عليه؛ أن يكون مخلصًا لله وللوطن وللملك ولوالديه ولرؤسائه ومرؤوسيه، وبهذه الصورة أثبت الإخوان ولاءهم للملك حرصًا منهم على المحافظة على الأرض التي اكتسبوا، وإيمانًا منهم بأن الحكومات متغيرة ولكن العرش ثابت.

في 8 أكتوبر 1944 أقال فاروق حكومة النحاس الذي قد تولى الوزارة رغمًا عن أنف فاروق، وتولى رئيس الحزب السعدي المنشق عن حزب الوفد تشكيل الوزارة الجديدة خلفًا للنحاس، وبإقالة الوزارة الوفدية تغير الوضع، ولم يعد هناك تنازع بين الملك وحكومته، وكان على الإخوان الانعطاف كلية نحو القصر والحصول على المساندة الملكية، فانتهزت صحيفة الإخوان فرصة عيد ميلاده عام 1945 ليحمل غلافها صورته، وسطرت الجريدة بأن؛ عيد الملك هو عيد الشعب، وأن الحب الذي يكنه له هذا الشعب لم يمنحه لغيره من قبل، ويشيد حسن البنا في مقاله رحلة الحجاز بالمقابلة بين فاروق وابن سعود، ويبعث ببرقية باسم الإخوان إلى رئيس الديوان لرفعها للملك يهنئه فيها بسلامة العودة وأنه؛ يعز الإسلام والعروبة بالفاروق العظيم.

الانتخابات البرلمانية مرة أخرى

بعد قيام أحمد ماهر بحل البرلمان يوم 15 نوفمبر 1944، حاول الإخوان جس النبض مرة أخرى في الانتخابات البرلمانية، التي أتت بعد دعوة ماهر إلى انتخابات برلمانية جديدة في 8 يناير 1945، تلك المرة كرر الإخوان تجربتهم السابقة مع النحاس، وأن كانوا قد زجوا بعدد أقل من الإخوان في الانتخابات تلك المرة، فقط خمسة مرشحين، حسن البنا عن دائرة الإسماعيلية، وأحمد السكري عن دائرة المحمودية في البحيرة، عن دائرة مصر القديمة، عن دائرة فدمين في الفيوم، و [الذي أصبح فيما بعد المرشد الرابع للإخوان المسلمين] عن دائرة منفلوط في أسيوط، كما رشح الشيخ أحمد حسن الباقوري نفسه عن دائرة الخليفة الذي لم يكن من مرشحي الإخوان لكنه كان من المقربين للجماعة، وقد أعطاه الإخوان أصواتهم,

لم يكن أحمد ماهر رئيس الوزراء الجديد في صراحة النحاس، فبدلًا من أن يطلب ماهر من البنا سحب الترشيح كما فعل النحاس سابقًا وكما تمنى البنا، تركه يخوض المعركة ليزعم أن الانتخابات حرة، وتوقع البنا أن ينجح من الجولة الأولى، فالإسماعيلية شهدت ميلاد الجماعة ونموها، كما أقام الإخوان 60 سرادقًا للدعاية الانتخابية للمرشد العام، وأتت الحشود كل شعب الجماعة على خط القنال لتأييده وهم يهتفون إلى البنا.. يا برلمان، لكن بالرغم من ذلك أتت النتائج مخيبة للآمال، فلم يحصل أيا من المرشحين المتنافسين، حسن البنا، والدكتور سليمان عيد متعهد توريد الأغذية لقوات الجيش البريطاني في منطقة القناة، على العدد المطلوب للفوز في الجولة الانتخابية الأولى، فتم إعادة  الانتخابات بينهما، وأتت نتائج الجولة الثانية صادمة للمرشد ورجاله، فقد سقط سقوطًا مروعًا في تلك الانتخابات هو وكل مرشحي جماعته.

واختلف الكثيرون حول سبب فشل البنا بالذات، فقد تساوى في المرحلة الأولى مع منافسه الدكتور سليمان عيد لكنه خسر في جولة الإعادة، وأنصاره يتهمون أحمد ماهر وحكومته بتزوير الانتخابات من الباطن، وأحمد ماهر يرد عليهم بأن شعبية البنا الجارفة لا توجد إلا في مخيلتهم، وأن شعبيتهم الحقيقية في الشارع لا تكفي لدخول البنا البرلمان، وفي الحالتين فأن النتيجة واحدة، إن البنا خسر تلك المعركة بجدارة ولزم الانتقام من أحمد ماهر شخصيًا.

لم يضيع البنا وقتًا فصدرت الأوامر إلى رئيس التنظيم الخاص باختيار أحد شباب الجماعة لاغتيال أحمد ماهر باشا كعقاب له على تزويره الانتخابات وإسقاط البنا، فأختار عضو التنظيم الخاص الشاب “أحمد عبد الفتاح طه” لإتمام العملية، ولكنه جبن في اللحظة الأخيرة، وتراجع عن قتل أحمد ماهر وعاد إلى أعضاء الجهاز السرى يعترف بجبنه، فجند السندي أخ ثان للقيام بالعملية يدعى “محمود الي” من شباب التنظيم السرى المنتمين شكليًا للحزب الوطني.

وفى اليوم التالي مباشرة، اغتال “محمود العيسوي” رئيس الوزراء داخل دار البرلمان يوم 24 من فبراير 1945 وهو ينتقل من مجلس الشيوخ إلى البهو الفرعوني لمجلس النواب ليعلن قرار مصر بدخول الحرب حتى يتسنى له حضور مؤتمر الصلح طبقًا لقرارات الحلفاء في اجتماعهم بمدينة “يالتا”.

واعترف العيسوي بجريمته وقال إن قرار إعلان الحرب وما قد يجره على البلاد من نكبة محققة لو دخلت حربًا، دفعه على قتل رئيس الوزراء، وقال إنه ينتمى إلى الحزب الوطني، وأكد هذا الادعاء أنه كان يتمرن على المحاماة في مكتب “” ثم في مكتب “عبد المقصود متولي” وهما من كبار رجالات الحزب الوطني، وألقى القبض على “عبد العزيز على” وهو من قادة النضال السري للحزب الوطني وصهره “عبد السلام مصطفى” المحامي، بتهمة الاشتراك في الجريمة لأنهما من الحزب الوطني ومن أصدقاء القاتل أيضا.

وحتى اليوم لا زلت الجماعة تدافع عن اتهامها بمقتل أحمد ماهر باشا بهذا التبرير، بينما يؤكد الشيخ سيد سابق، وهو من قادة الإخوان، مسؤولية الجماعة عن قتل ماهر في حديثه للكاتب الأستاذ خالد محمد خالد مؤكدًا أن؛ محمود العيسوي من صميم ، وفي مذكرات الشيخ أحمد حسن الباقوري قال:

إن النظام الخاص أو الجهاز السري للإخوان رأي الانتقام من أحمد ماهر، لأنه أسقط الشيخ البنا في الانتخابات بالإسماعيلية، فوُجِه محمود العيسوي لاغتيال رئيس الوزراء.

ينما يدافع فصيل آخر بقولهم أن هذا الاغتيال تم بمعرفة السندي وتدبيره وتخطيطه، ولكن دون علم المرشد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 المواجهة الأولى[الجزء التالي] 🠼 الإخوان وحكومة النقراشي
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤