في أكتوبر 1932، صدر قرار بنقل حسن البنا من الإسماعيلية إلى القاهرة ليزاول عمله كمدرس بمدرسة عباس بالسبتية. وهيأ البنا انتقال الجماعة معه إلى مقرها الجديد بحلمية الزيتون. ولكن عندما كان المرشد يستعد لمغادرة الإسماعيلية، اختلف مع بعض أعضاء الجماعة هناك حول من يخلفه في قيادة الشعبة. وحاول البنا مهادنة المختلفين معه، لكنهم صمموا على اختلافهم وأبلغوا ضده النائب العام، متهمين إياه بتبديد أموال الجماعة. فلما خرج من التحقيقات بريئًا، حاولوا ملاحقته بالاتهام لدى ناظر مدرسته بالقاهرة. وهنا ظهرت لأول مرة قوة الردع البدني في الجماعة، حيث تجمع عدد من أصدقاء المرشد واعتدوا على المنشقين بالضرب، فقبض عليهم وقدموا للمحاكمة.
الواقع أن هذا المظهر كان جديدًا وغريبًا على أوضاع الإخوان التي لم تعرف إلا الوحدة الكاملة والاندماج الكامل، فرأي أحدهم هو رأي كلهم.(حسن البنا، الدعوة والداعية)
ويؤكد البنا أن المخالفين له قد تلبسهم الشيطان، فأمرت بهم، فضربوا علقة ساخنة
. ثم لا يلبث أن يسميهم بالخوارج، ويؤكد ضرورة أخذهم بالحزم قائلًا: فإن من يشق عصا الجمع، فاضربوه بالسيف كائنًا من كان
، ثم يتأسف البنا لأننا تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة، التي يسترونها بألفاظ الديموقراطية والحرية الشخصية، هذه العبارة تلخص فلسفة البنا والإخوان في العمل التنظيمي وفي حقوق المختلفين معه في الرأي، وهي تشرع للإخوان الحق في أن يضربوا المختلفين معهم في الرأي بالسيف. وبعد حادثة مدرسة عباس الابتدائية بالسبتية، أصبح الاعتداء البدني على خصوم الجماعة أسلوبًا معتمدًا من الإخوان.
ما كان السيف إلا كالدواء المر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملا ليرد جماحها ويكسر طغيانها، فالسيف في يد المسلم كالمشرط في يد الجراح لحسم الداء الاجتماعي.(حسن البنا، مجلة النذير، عدد رمضان 1357هـ)
وكتب والده الشيخ عبد الرحمن مطالبًا مرسخًا نفس المبدأ في مجلة النذير، فقال:
ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة، أبت فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضوا خبيثًا؛ فاقطعوه، أو سرطانًا خطيرًا؛ فأزيلوه.(عبد الرحمن البنا، مجلة النذير، عدد محرم 1357هـ)
سياسة النفاق
لم يكن البنا جديدًا على فكرة التقرب من العرش فقد حرص منذ نشأة الجماعة على التأكيد في كل مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة على مديح الملك فؤاد والثناء عليه، ويذكر الشيخ البنا في مذكراته أنه في عام 1930 خلال فترة وجوده بالإسماعيلية، وشى به البعض لدى السلطات واتهمنه بالعيب في الذات الملكية، ويروي هو بنفسه أنه عندما تم التحقيق معه، ثبت من التحقيق بطلان التهمة وأن البنا كان يملي على طلبته في دروس الإملاء موضوعات يتوخى فيها الثناء على الملك فؤاد وتعداد مأثره، وهو إلى ذلك دفع العمال يوم زيارة الملك للمدينة إلى التجمع لتحيته حتى يفهم الأجانب في هذا البلد أننا نحترم ملكنا ونحبه
على حد قوله، ويكمل البنا حديثه قائلًا أن أحد رجال البوليس كتب تقرير بهذه المناسبة أشاد فيها بأثر الجماعة الروحي في تقويم من لم تنفع معهم وسائل التأديب البوليسية، وأقترح؛ أن تشجع الحكومة الجماعة وتعمل على تعميم فروعها في البلاد حتى يكون في ذلك أكبر خدمة للأمن والإصلاح.
كان الملك فؤاد يكره حزب الوفد العدو اللدود للجماعة ويعاديه، فوجدها البنا فرصة سانحة كي يضرب عدة عصافير بنفس الحجر، فمن ناحية يتصدى لشعبية الوفد الجارفة بمباركة الملك فؤاد، ومن ناحية أخرى ينال من العطايا الملكية مقابل وقوفه ضد الوفد ويكون له حظوة لدى الملك، ويتوالى نفاق البنا للملك حتى أنه وصفه عام 1933 في خطاب يناشده فيه منع البعثات التبشيرية بـ”الملك الرشيد” ويختم خطابه بقوله؛ لا زلتم للإسلام ذخرًا، وللمسلمين حصنًا
، كما وصفه المرشد في خطاب لاحق بأنه مثلًا يحتذى في التمسك بعقيدته الإسلامية
، وعندما يموت فؤاد تتوالى مراثيهم له معتبرين أنه حامي الإسلام ورافع رايته، فكتبت جريدة الإخوان في رثاء فؤاد مقال شهيرة صار علامة في عالم النفاق السياسي بعنوان مات الملك… يحيا الملك
، قالوا فيه:
مصر تفتقد اليوم بدرها في الليل الظلماء، ولا تجد النور الذي اعتادت أن تجد الهدى على سماه، فمن للعامل والفلاح من للفقير يروي غلته، ويشفي علته، ومن للدين الحنيف يرد عنه البدع، ومن للإسلام يعز شوكته، ويعلي كلمته.(من مقال “مات الملك… يحيا الملك”، جريدة الإخوان المسلمون)
ونعتت صحيفتهم الملك الجديد فاروق في مقالة بأنه؛ أسوة حسنة
، وفخر الشباب
، وحامي المصحف
، وأمير المؤمنين
، وحامي حمى الدين
، فقد كان الغرض هو جذب عطف الملك الجديد فاروق الذي كان يتولى رعايته دينيًا الشيخ المراغي، ودعوته للتمسك بالتقاليد الإسلامية التي كان يتحلى بها والده
كما ذكر المقال.
واستمرت الصحيفة في نشر عدة مقالات تدور حول مدح فاروق ووصفه بـ سمو النفس
، وعلو الهمة
، وأداء فرائض الله
، واتباع أوامره
، واجتناب نواهيه
، وتحت عنوان؛ جلالة الفاروق… المثل الأعلى لأمته
تولت صحيفة الإخوان المسلمين مهمة تعبئة الرأي العام ولفت نظره إلى خطوات فاروق الدينية، فتبين الصحيفة كيف ملك فاروق قلوب رعيته بغيرته على الدين، وتصف استقبال الجماهير له وهو في طريقه إلى مسجد أبي العلاء لتأدية الصلاة ودعواتهم له وهتافاتهم بحياته، وتنقل بعض اللقاءات وتأتي بالقصص التي تنم على أن هناك الأبناء الفاسدين قد قوموا وعرفوا طريق المساجد وانصرفوا إليها، والسبب أنهم اتخذوا من الملك الأسوة الحسنة، لأنه المثل الأعلى لأمته.
ويوم شهد فاروق احتفالًا بعيد الهجرة، قالت مجلة الإخوان منافقة فاروق أنه؛ أعاد صورة سالفة، صورة الرسول الكريم حينما طلع البدر على أنصاره طلوع البدر
، وبلغت الجماعة أية في النفاق لدرجة أنها عاودت الحديث عن دعوة الخلافة مرة أخرى، ونادت بها لفاروق تحت عنوان؛ الخلافة جامعة المسلمين موحدة لجهودهم
، وقال البنا في مجلة الإخوان المسلمون موجهًا حديثه لفاروق:
إن ٣٠٠ مليون مسلم في العالم تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذي يبايعن على أن يكون حاميًا للمصحف فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودًا للمصحف وأكبر الظن أن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك.(حسن البنا، الخلافة جامعة المسلمين موحدة جهودهم، مجلة الإخوان المسلمون عدد فبراير 1937)
طرق الحظ باب حسن البنا يوم أن استدعاه علي ماهر، رئيس وزراء مصر آنذاك، لمقابلته شخصيًا في منزله لمناقشة أمر الملك الجديد. فاتفق حسن البنا مع ماهر على أسلوب النفاق الديني، وهم أدرى الناس به، كوسيلة للملك الجديد لصنع شعبية زائفة. لاحقًا، ردت الجماعة الجميل لعلي ماهر مضاعفًا، حتى طُرح اسم علي ماهر -الملكي الفكر أكثر من الملك نفسه- على قيادات ثورة يوليو ليتولى الوزارة بعد ثورة 1952 بإيعاز من الإخوان المسلمين.
في 29 يوليو 1937 انتهت الوصاية على فاروق ببلوغه ثمانية عشر عامًا قمرية بالتحايل على الدستور الذي ينص على أن يكون سن الملك 18 عام ميلادية، وأصبح ملكًا رسميًا على البلاد، وظهرت أصوات الإخوان تطالب بأن يتم التتويج في حفلة دينية تقام في القلعة ويقلده فيها الشيخ المراغي، شيخ الجامع الأزهر، سيف جده محمد على، وأن تقام الحفلة لأداء اليمين الدستورية فيؤم الملك الناس إثر التتويج باعتبار أنه الإمام الذي تصدر باسمه أحكام الشريعة، لكن لم ترق تلك التصرفات للنحاس باشا زعيم الوفد ورئيس الحكومة، ورأى فيها إقحامًا للدين فيما ليس من شئونه وإيجاد سلطة دينية خاصة بجانب السلطة المدنية
، واعتبر أن إقامة الحفلة الدينية إلى جانب أداء اليمين الدستورية أمام البرلمان إنما يكون معناه أن الملك يتلقى بعض سلطته من غير البرلمان
، وأعلن ذلك صراحة.
فرد عليه البنا؛ إن هذه الحركة وليدة واجب حتمي مفروض، إن لم يقم الناس به فقد أثموا إثمًا عظيمًا
، لكن النحاس أصر على وقفه مستندًا للدستور ولشعبيه الوفد، فعندما وجد البنا الباب مغلقًا أمام تلك المسرحية الهزلية لجأ لاستعراض الجوالة أمام الملك، وعقد الإخوان مؤتمرهم الرابع للاحتفال بهذه الذكرى وحشدوا عشرين ألفًا أو يزيد من فرق الجوالة ووفود شعبهم في الأقاليم وهتفوا بمبايعتهم للملك المعظم مع هتافات إسلامية، وانهمر سيل الإخوان إلى ساحة سراي عابدين، رافعين أعلامهم يهتفون؛ الله أكبر ولله الحمد
، الإخوان المسلمون يبايعون الملك المعظم
، نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله
، واستغل حسن البنا استعراضات الجوالة ليظهر قوة الجماعة ويظهر بها أن جماعته القوية تؤيد الملك وتسانده، ويبرر عمر التلمساني الاستعراض الحافل الذي أقامته جوالة الإخوان للاحتفاء بالملك فاروق بأنه؛ استعراض لقوة الإخوان أمام الملك لجذب اهتمامه ولصرفه عن المنكرات.
لم يكتف الإخوان باستعراض جوالتهم، فلجأوا لمسرحية أخرى بترتيب علي ماهر والبنا، فجاء استقبال فاروق أشبه بمسرحية هزلية كوميدية بطلها فاروق ومؤلفها حسن البنا ومخرجها علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي، ففي ذهابه للصلاة في المسجد الحسين هتفت الجماهير؛ عاش فاروق الأول ملك مصر
، فرفع فاروق يده للناس قائلًا؛ الملك هو الله، وأنا مجرد عبد من عبيده
مدغدغًا الحاسة الدينية للشعب، فتعالت الهتافات أكثر وأكثر تهتف بحياة الملك الشاب، وعندما حاول الحرس الملكي فرش بساط للملك رفض فاروق وجعل عمر فتحي كبير الياوران يمنعهم مرددًا؛ كل المسلمين في المسجد سواسية
، وداخل المسجد وأثناء الخطبة نظر الملك فوجد بعضًا من حرسه واقفون وسط المصلين لحمايته فاستدعى عمر فتحي مرة أخرى متسائلًا من هؤلاء؟
فأجابه عمر فتحي إنهم حراسة جلالتك يا مولاي
، فعاجله فاروق بصوت قصد أن يكون مسموعًا؛ أنا والحراسة في حراسة الله.. خلى الحراسة يصلوا فرض ربنا يا عمر.
وحصد البنا مكافأته من علي ماهر نظير خدماته للملك الصغير، التي تمثلت في ترخيص مجلة “النذير”، بالإضافة إلى تبرع سخي لخزينة الإخوان، إلى جانب بعض الامتيازات الأخرى، مثل السماح لجوالة الإخوان بارتداء زي خاص يميزهم، على غرار أصحاب القمصان الزرقاء التابعين لحزب الوفد، والقمصان الخضر التابعين لحزب مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين، مقلدين جماعة القمصان البنية والسوداء التابعين للنازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا على الترتيب. وبالطبع، لا حاجة للتعريف بأن جماعات القمصان الملونة جميعها كانت ميلشييات حزبية تؤدي الدور العضلي لنصرة أحزابها عند فشل الطرق الأخرى، وقد بدأها الحزب النازي بقيادة هتلر.
وكانت جماعة الجوالة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين هي المفرخة التي استخرج منها البنا لاحقًا أبناء التنظيم السري. وعندما أصدر الملك فاروق قراره عام 1937 بحل تنظيمات القمصان الزرقاء والخضراء التابعين لحزبي الوفد ومصر الفتاة لأنهما شبه عسكريتين، استثنى فرق العمل التابعة لجماعة الإخوان لأنها تتبع الكشافة على حد تبريره. وقد أثارت فرق الجوالة الكثير من الجدل، فالهيئة العامة للكشافة قاومت في بداية الأمر نشاطها، لأن القانون الكشفي يؤكد أن الكشاف لا يتدخل في السياسة. لكنها رضخت بالطبع للأوامر القادمة من السرايا. ونجح البنا في أن يبرز جماعته في صورة زاهية، فقد كانوا حريصين دائمًا على خدمة الجمهور وقدموا بالفعل خدمات هامة خاصة في أوقات المحن العامة مثل وباء الكوليرا والملاريا.
جاء الصدام الأول بين البنا والوفد عندما أشاد النحاس في تصريح لصحيفة الأهرام بكمال أتاتورك، زعيم تركيا، وقال إنه من المعجبين بعبقريته، فرد عليه البنا في صحيفة الإخوان قائلًا؛ موقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام وأحكامه معروف، فقد حذفت القانون الإسلامي وحكمت بالقانون السويسري، فهل يفهم من هذا أن يكون لأمة مصر برنامج كالبرنامج الكمالي؟
وعندما عقد النحاس معاهدة 1936 مع بريطانيا، عارضها الإخوان وأطلقوا عليها اسم المعاهدة المشؤومة
، وهاجم البنا معظم وزراء النحاس وانتقد وزير الداخلية لأنه سافر ظهر الجمعة وترك أداء فريضتها.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤