أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزول

 

لازلنا إلى اليوم نتغنى بقصيدة “، فشخصيًا كلما قرأتها في كتابه المُعنون بنفس الاسم يُثار بداخلي حنين عميق. لكن، ما أثر الفراشة حقًا؟
من الجانب العلمي، تقول نظرية “أثر الفراشة” أن أرق هفهفات لجناح الفراشة في أقاصي الأرض، هفهفات لا تُذكر ولا تُساوى الكثير، قد تتسبب في اضطرابات شديدة فيما بعد في الجانب المقابل للأرض، ربما حتى تتسبب رفرفتها بإعصار هائج! تمامًا كوقوع حبة الحنطة في الأرض وموتها، فذلك يأتي بالثمر الكثير!

أثر فراشة دانيال 1

افتتحت المخرجة “أمل رمسيس” فيلمها المؤثر “أثر الفراشة” بحُلم مُرعب لشهيد الثورة المصرية و الشارع كما عُرف وقتها “”، الفراشة المحلقة التي دام أثرها على جيلي وسيدوم على أجيال أخرى قادمة بلا شك.

 

هو جاذبيّةُ غامضٍ

يستدرج المعنى، ويرحلُ

حين يتَّضحُ السبيلُ

 

دعني أغوص معك لخريف 2011، تحديدًا العاشر من أكتوبر / تشرين الأول 2011، في ذلك الوقت كنت لا أزال طفلة مُدللة في الصف الأول الثانوي لا تعبأ بالواقع، فحتى خلال أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، كنت أجلس لأتابع أفلام “بوليوود” الـ”مبهرجة” عوضًا عن متابعة الأخبار، وماذا يهمني وقتها من أخبار؟ أليس أهلي بخير وأذهب للكنيسة بانتظام وجميع مُحيطي سعيد بابنة الكنيسة المثالية وتلميذة المدرسة النجيبة؟

لسبب أعلمه – إلا أني أحاول نسيانه – مازلت أتذكر ليلة التاسع من أكتوبر، وأنا أرى ذعر والداي، والغضب المحتقن في وجنتي أبي الذي أخذ يُردد: “هذا متوقع بالطبع.. هذا متوقع.. السُذج!” كان لأبي عهدًا بالسياسة بحكم وظيفته، أما أمي فقد ذهبت كما للمصريات عمومًا في وصلة من الحسبنة على المذيعتين “” و”نجلاء عبد البر” اللتين أكدتا “تعرض قوات الجيش لتراشق بالحجارة من متظاهرين أقباط!” وفي صباح الاثنين العاشر من أكتوبر، ذلك الصباح الباهت بألوان الخريف ورائحة تراب العُشب المُندي على أرضية المدرسة المحافظة التي ارتدتها، أشارت الإذاعة المدرسية إلى وقفة حداد على أرواح شهداء الوطن، الأمر الذي أثار حفيظة بعض زميلات الدراسة في الطابور الصباحي، تبعته همهمات واعتراضات داخل حصة اللغة الفرنسية والتي تم السيطرة عليها سريعًا. ولكن حتى السيطرة لم تلغ النظرات المشمئزة لي ولزميلاتي القبطيات على غرار تصريحات سيادة المذيعات!

 

هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ

أشواقٌ إلى أَعلى

وإشراقٌ جميل

 

تفتح “أمل رمسيس” حكاية “مينا دانيال” من خلال شقيقته الكُبرى “ماري دانيال” والتي حملت في كل مظاهرة علمًا أحمرًا يحمل صورة “مينا”. تُعرفنا “ماري” ذات الأصول الصعيدية بالمزيد من تفاصيل بيوت الأقباط المتواضعة، والتي تتشابه مع بقية بيوت مجتمعهم في الفكر والثقافة، فـ”ماري” التي وٌصِمت بالعنوسة تزوجت في عمر ال26 فقط لكسر لقب “عانس”، الأمر الذي ندمت بشدة عليه وقررت الانفصال وإن لم تسمح لها الكنيسة بذلك، أما “شيري” الأخت الأخرى ل”مينا”، أو “مونا” كما كانت تحب مناداته، فهي تدون له الملاحظات على جدران غرفته المتواضعة. حين دخلت مع “أمل رمسيس” بيت “مينا دانيال”، شعرت بدفء العائلة التقليدي، ولهفة “ماري” لفراق أخيها التي طالما اعتبرته ابنها، ولا أدري من أين أتت إشاعة أن جميع الأقباط تجار ذهب؟!

 

هو شامَةٌ في الضوء تومئ

حين يرشدنا إلى الكلماتِ

باطننا الدليلُ

 

أثر فراشة دانيال 3وفقًا لـ”ماري” فـ”مينا” عاشق للحياة، مُحب للتصوير، فهو يُحب التقاط الصور، والمزيد من الصور، حتى صورة وفاته تحمل ابتسامة أمل لواقع أفضل! “أي مكان فيه اضطهاد، فيه ظلم: مينا كان موجود فيه”، تقول “ماري”. كان لـ”مينا” تأثيرًا حميدًا على “ماري”، تلك التي عرفت الحياة بسببه، وتجولت بأريحية وسط الشوارع المزدحمة، وعبرت عن آرائها بتلقائية لم تألفها سيدات المجتمعات المحافظة من قبل. يستمر الفيلم في متابعة رحلة “مينا” من خلال “ماري”، وكيف حاولت دعم ما تبقى من أحلام “مينا” في الحرية والجمال. “مينا الثائر الحالم”: هذا ما روته “أمل رمسيس” في فيلمها: أثر الفراشة.

 

هو مثل أُغنية تحاولُ

أن تقول، وتكتفي

بالاقتباس من الظلالِ

ولا تقولُ…

 

أثر فراشة دانيال 5بالعودة لي، ولتبعات عام 2011، توقعت أن أجد ولو تنديدًا، أو وقفة اعتراضية، داخل أسوار كنيستي المحلية، كعادة شجب وإدانة هيئة الأمم المتحدة حتى!! ولكن مر الأمر مرور الكرام!

فقط لوحة رخامية حملت اسم سبعة عشر شهيد في كاتدرائية الملاك ميخائيل بمدينة 6 أكتوبر وهُددت في وقت لاحق بإثارة الفتنة والرغبة في إزالتها!

وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أصدرت بطريركية الأقباط الأرثوذكس بتاريخ 15 مايو بيانًا عقب أحداث إمبابة جاء فيه:

يا أبناءنا المعتصمين أمام إن الأمر قد تجاوز التعبير عن الرأي وقد اندس بينكم من لهم أسلوب غير أسلوبكم، وأصبح هناك شجار وضرب نار وكل هذا يسيء إلى سمعة مصر وسمعتكم أيضا لذلك يجب فض هذا الاعتصام فوراً، وما يحدث لا يرضي أحدًا، وان صبر الحكام قد نفذ، وأنتم الخاسرون إذا استمر اعتصامكم

(بيان للبابا ، ألقاه اﻷنبا يوأنس سكرتير البابا، وتم بثه في التلفزيون المصري يوم اﻷحد 15 مايو)

 

أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزولُ

 

ربما لا يحتاج الأمر فهيمًا لتبين اتجاه الكنيسة من التظاهرات والمتظاهرين، ولا يسعني الآن سوى تذكر مشهد العبقري محمود المليجي في فيلم “إسكندرية…ليه؟” وهو يصيح: وعايزنى أكسبها! وأبكي لسخرية الأقدار: فالحرية، والقدرة على التعبير عن الرأي، والاعتراض، غالبًا لا يُرحب بهم داخل كنائسنا، فنحن منذ نعومة الأظفار ننشأ على السمع والطاعة داخل أروقة ! لكن اليوم وقد مرت السنوات بسرعة البرق، أستطيع أن أجزم أن “مينا” ورفقاؤه تركوا أثرًا في حياتي وحياة آخرين. أثر التفكير، وفحص الادعاءات، والرغبة في المعرفة، وحب الجمال، والخير، والرغبة في الحرية،، أشياء لم نتعلمها في صبانا، ولكن علمتها لنا أحلام مينا الدافئة. فلروحك السلام يا مينا إن لم نتقابل شخصيًا يا مينا.

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

سارة قسط
[ + مقالات ]