خلال حوار جانبي مع القس الدكتور "متري الراهب"، رئيس جامعة دار الكلمة للثقافة والفنون بفلسطين، والدكتورة "رينيه حتر" مديرة المعهد الملكي للدراسات الدينية في الأردن، على هامش اللقاء الدولي السادس الذي نظمته الجامعة بالتعاون مع المعهد وبرعاية من الأمير الحسن بن طلال، حول "المواطنة الفاعلة نحو مجتمعات حاضنة للتعددية في  وشمال إفريقيا"، في عمان في الفترة من 19 إلى 20 أغسطس/ آب الماضي، لفت نظري ما ذكرته الدكتورة رينيه حتر عن دور الموسيقى في صناعة السلام، وهو وما استدعى أن أجري معها حواراً مفصلاً عن علاقة الموسيقى بالسلام.

 

الموسيقى والسلام

عُينت الدكتورة رينيه حتر، مؤخراً، مديرة للمعهد الملكي للدراسات الدينية في الأردن، ورغم صغر سنها، فهي تتمتع بسجل أكاديمي حافل بالدراسة والتدريس منها 10 سنوات في جامعة غرناطة “جرينادا” بإسبانيا، وقد كان موضوع أطروحتها للدك عن “الموسيقى والسلام”.

تقول حتر: “نطبق نظريات الحوار وبناء السلام في المجتمع عن طريق الموسيقى، والهدف منها استعمال أداة مثل الموسيقى لتشجع على اللاعنف والإبداع وبناء السلام في نفس الوقت، حيث تملأ وقت فراغ الشباب بشكل بناء وخلاق وتحفز عندهم روح الإبداع وتعطيهم مشروعاً مشتركاً للعمل عليه، ما ينمي لديهم القدرات الفردية واللاعنف “.

الموسيقى المقدسة والتبادل الثقافي

باحثة أردنية تؤمن بدور الموسيقى في صناعة السلام 1تقول حتر: “من هنا بدأت فكرة أطروحتي للدكتوراة حيث عملت على الموسيقى المقدسة تحديداً، ودرست التقاليد الكنسية الموسيقية في الشرق، وأثارت اهتمامي ثلاثة منها، حيث درست الموسيقى السريانية والموسيقى البيزنطية، والموسيقى الغريغورية اللاتينية، خاصة الأشكال الكبيرة من الموسيقى وكيف أثرت وتأثرت بما يعرف اليوم بالموسيقى العربية أو الموسيقى المشرقية، لأنها تعبر عن حضارات ولغات موجودة، وكيف أخذت من المنطقة وأعطتها، وهذا هو التبادل الثقافي والفكري والموسيقي.”

وتابعت حتَّر: “من هنا درست هذه التقاليد وركزت على لغة السلام والحوار بين أتباع الأديان عن طريق الموسيقى المقدسة، واقترحت، في أطروحتي، خلق حوار متناغم بين المسيحيين والمسلمين عن طريق التراتيل والموسيقى من ناحية موضوع الكلام ومعاني السلام في التراتيل حيث نحكي عن العشق الإلهي وعن المحبة، وعن الرحمة وعن الفرح”.

 

الموسيقى تجمع التصوفين المسيحي والإسلامي

تشير الدكتورة رينيه حتر إلى وجود تصوف مسيحي وتصوف إسلامي من الناحية النسكية، ومن ناحية التركيز على الروحانيات، والعلاقة مع الله حيث يمكن أن تراه في الناس، مما يقوي التراحم والتعاطف، وتضيف أن “هناك قيماً مشتركة كثيرة يسهل أن نلاقيها، فبدل البحث عما يفرقنا علينا أن نبحث عما يجمعنا”.

وضحت حتر أنه وبناء على ما سبق، فقد بدأت بتطبيق الخط الأكاديمي “الموسيقى والسلام”، كما تحدثت عن التناغم بين الجوقات الموسيقية، موضحة وجود تجارب مختلفة حالياً في العالم العربي من جوقات موسيقية مختلطة، مسيحية وإسلامية، وجوقات فيها أفراد من كل الديانات يعزفون معاً، وقادرين على إنجاز مشروع ناجح، ويعتبرون هذا النوع من الموسيقى، روحانياً وإنسانياً.

لفتت الدكتورة إلى وجود مشاريع يجري العمل عليها في المعهد الملكي للدراسات الدينية ضمن برنامج سنوي منذ عام 2017، ويحمل البرنامج عنوان “السلام والفنون”. توضح حتر: “نحاول نشر ثقافة السلام في المجتمع الأردني وتعزيز لغة التواصل والحوار مع الناس عن طريق الموسيقى، حيث أجرينا تدريبات على العيش معاً والحوار والتواصل”.

وتقول إن معظم هذه التدريبات يركز على أساسيات الحوار مثل فن الاستماع وفن التعبير عن الذات، مبينة أن الشباب يفتقد إلى مهارات وركائز الحوار، لذلك يسعى المعهد، إلى بناء السلام الداخلي لديه عن طريق الموسيقى التي تساعد على بلوغه، وتشير أن بناء الشاب أو الشخص لسلامه الداخلي سينعكس سلاماً خارجياً بالتواصل مع الآخرين، والشعور بهم والتعاطف معهم، مع القدرة على التمييز بين التعاطف والشفقة…

الموسيقى لغة يستوعبها الجميع

“أجمل ما في الموسيقى أنه ليس لها حدود، هي لغة عالمية، حتى لو لم توجد كلمات مع الموسيقى ستجد نفسك تنسجم معها”، هكذا تشير الدكتورة رينيه حتر إلى قيمة الموسيقى، وأنه يمكن للجميع استيعابها وفهمها، وتضيف: “أحد الأمثلة التي طرحتها، كانت تجربة سامي يوسف وهو معروف بالبوب الإسلامي، وآخر تجربة له كانت مع موسيقيين من أذربيجان، فالآلات التي كانت تعزف والكلمات للرومي، لم يفهم المستمعون الكلام (خلال التدريب)، لكن الطاقة والفرح الموجودين في الموسيقى، جعلا الجميع يشعر أنها قريبة منهم”.

علاقة ثلاثية

تقول حتر : “إذا فكرنا بطريقة روحية، إذا كنت تعزف موسيقى روحية أو ترتل أو تنشد ضمن جوقة، فهناك علاقة بين الفنان أو العازف أو المؤدي، وبين الله، لأنه يصلي فعلياً ولا يغني أو يعزف فقط، وكذلك علاقة بين الموسيقى والجمهور المتلقي، وتلقائياً أو لا شعورياً بين الجمهور والله أيضاً”.

وتضيف: ” هذا كله لأنك دخلت في جو روحاني نسكي، وبلحظة سكينة حتى ولو مؤقتة ضمن هذه التجربة، إلا أنها تجعلك تدخل، لا شعورياً، في حالة من السلام الداخلي، والسكينة وتجعلك تفكر بنهارك ضمن الضوضاء الموجودة في حياتنا وضمن عصر السرعة المتواجدين فيه، حيث لم يعد هناك وقت لنتواصل مع أنفسنا فكيف بالتواصل مع الله! لقد وصلنا مرحلة نركز فيها على التدين والعبادات بمعنى الطقوس لكننا ابتعدنا عن الروحانيات بعض الشيء، وحتى نكون عصريين فنحن نذهب لليوجا مثلاً لتساعدنا على التأمل، لكن لا نفكر أنه بدياناتنا المتأصلة فينا هناك الكثير لنتأمل بدون الذهاب نحو ثقافة أخرى”.

 

علاقتها بالمعهد الملكي

تقول حتر إن “المعهد الملكي تأسس سنة 1994 بالأردن كمؤسسة غير ربحية، برؤية لسمو الأمير الحسن بن طلال، وهو من الرائدين في عالمنا العربي بموضوع الحوار بين الثقافات والأديان، وحين تأسس المعهد، بدأ كمؤسسة بحثية أو معهد أبحاث حول موضوع المسيحية المشرقية، والعلاقات المسيحية الإسلامية”.

وتضيف لأنه كان هناك نظرة مستقبلية لسمو الأمير بأن الغرب لا يعرف الكثير عن مسيحية الشرق، فهناك نوع من الشرخ يجعل الأفكار أو الصور النمطية الموجودة لدى الغرب عن العرب والمسلمين والتعصب تضعهم جميعاً بنفس السلة، وكثيراً ما ننسى أن المسيحية مشرقية قبل أن تذهب إلى الغرب”. وتوضح أن هذا الأمر تطور بعض الشيء “حتى صرنا ندرس باقي الأديان في المعهد، وبعد فترة بدأنا نرى أن هناك حاجة ملحة لتوسيع نطاق العمل من الصفوة الأكاديمية والمتخصصين في الحوار بين الأديان، من رجال الدين وغيرهم إلى العمل مع الشباب والمعلمين ومع المتواجدين في القاعدة المجتمعية، وهكذا صرنا نقوم بمشاريع تدريبية تتضمن إعداد أدلة تدريبية حول موضوعات مهمة مثل حقوق الإنسان والحوار، وبناء السلام والمواطنة الفاعلة… إلى أخره، نصل في هذه التدريبات إلى كل محافظات المملكة، ونشمل الجميع من مختلف الديانات والخلفيات”.

وعن علاقتها بالمعهد الملكي أوضحت أنها تتابعه منذ زمن لأن “موضوع الحوار بين الأديان والثقافات يهمني كثيراً، وكوني أردنية، ولدي الهوية المشرقية، وكل الهموم التي تقربنا من بعضنا، أريد أن تظل هذه التجربة الإيجابية في الأردن، مستمرة، وألا تؤثر بنا الحروب الدائرة حولنا ولا التعصبات الناشئة بالمنطقة”.

وتضيف: “لدينا في الأردن تجربة إيجابية مميزة، لكل الأردنيين من كل الأصول والخلفيات، وخلال إعدادي لأطروحة الدكتوراه، صادفت العديد من الكتب والمراجع من إصدارات المعهد الملكي، وأحدها لسمو الأمير الحسن، بعنوان “المسيحية في العالم العربي”، هذا الكتاب من أهم المراجع التي صدرت في الثمانينات باللغة الإنجليزية، وكان موجهاً للغرب وهو عن تاريخ المسيحية والكنائس المشرقية، وهو كتاب قيم جداً وفريد من نوعه في وقتها، واليوم، وبتوجيهات من سمو الأمير الحسن، نعمل في المعهد على تحديث هذا الكتاب لإعادة إصداره في نسخة منقحة تشمل الأوضاع المستجدة للمسيحيين في المشرق”.

وتوضِّح حتر أنه خلال دراسة الدكتوراة كانت تزور المعهد “كأحد المؤسسات المهمة بالأردن وبالمنطقة والتي تهتم بالحوار بين الأديان والثقافات”، “ومن هنا بدأت علاقتي معهم ودعوني إلى أحد المؤتمرات، وبقينا على تواصل. وتتابع حتر: “أنهيت دراستي بغرناطة في إسبانيا، وتلقيت عرضا للعمل بالمعهد، كرئيسة لقسم الدراسات الدولية، وكنت أُدرس بإسبانيا لمدة 10 سنوات، خلال الدكتوراه، فطورت بالقسم عددا من النشاطات مع الفريق الذي أعمل معه، بتوجيهات ودعم من سمو الأمير، وها أنا في المعهد منذ خمس سنوات”.
توضح الدكتورة رينيه أن المعهد يرتبط بشبكة علاقات مع جامعات هامة في أوروبا وأمريكا والعالم العربي والأردن، ومع منظمات دولية ومنظمات مجتمع مدني. وفي العالم العربي، للمعهد شراكات في لبنان وفلسطين والعراق وفي المغرب وفي مصر. ويسعى المعهد لتطوير علاقات وشراكات أكثر في المستقبل إن شاء الله.

تولي إدارة المعهد وتطلعات للمستقبل

باحثة أردنية تؤمن بدور الموسيقى في صناعة السلام 3تشير حتر أنه في الفترة المقبلة “نحاول تحفيز البحث العلمي باللغة العربية وباللغات الأجنبية، ونسعى لأن يكون هناك إصدارات أكثر، ولأن نكمل المشاريع التدريبية المختلفة التي بدأناها، ولأن نطور برامج للتعاون أكثر. لدينا في المعهد برنامج لاستقبال باحثين في الدكتوراة والماجستير من جامعات مختلفة، أغلبها أجنبية، لأن هناك منحاً دراسية مثل إيراسموس، وفولبرايت، تدعم باحثين أوربيين وأمريكان. كما نحفز مشاركة الباحثين الأردنيين من الجامعات المختلفة، أما الباحثين العرب فهناك تحديات كونهم لا يجدون منحاً تمول دراستهم، فنحاول أن نوفر لهم الدعم والتواصل قدر المستطاع حيث أن برامج البحث والإقامة لدينا غير مدفوعة كوننا مؤسسة غير ربحية… ونرجو الله أن يوفقنا في مواصلة مسيرة المعهد الحافلة ومواصلة العمل على ترسيخ قيم التعددية والتنوّع وتعزيز السلم المجتمعي والسلام وتعميق القواسم المشتركة بما يُسهم في تحقيق العيش المشترك وتعزيز الحوار الإنساني.”

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات