المقال رقم 3 من 8 في سلسلة التمايز في شرح العقيدة المسيحية

قلنا في المقالات السابقة إن لاهوت الغرب في العصر الوسيط شرَح فداء المسيح متأثرًا بالفكر السياسي و القانوني السائد. فقال بأن المسيح دفع الثمن واحتمل العقوبة ومات عن الخطاة وأرضَي مطالب العدل الإلهي. وطبعًا إنَ تَوافق العقيدة والإيمان مع مصطلحات القانون الأرضي تَخلق سهولة ووضوحاً يقبله البسطاء و عامة الناس. يقول ق بولس في رومية ١٢:٥ ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“. فنجد أن خطية نتج عنها دخول الموت الروحي إلى طبيعة الإنسان (وَبِالْخَطِيّةِ الْمَوْتُ). لم يكن موت آدم هو انفصال النفس عن الجسد، وإنما انفصال الروح القدس عن النفس (بالخطية) هو الذي جلب الموت على النفس (ق. إيسيذوروس البيلوسي معلم ق. ). و بوراثة موت آدم تفسد طبيعة نسله فيفعل الخطية وهكذا مات الجميع (اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ) و القديس بولس يصرخ باسم الإنسانية بسبب مصيبة الموت / الفساد التي أمسكت بطبيعتنا

وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟

( رومية ٢٤:٧)

آباء الكنيسة في الشرق جميعهم فرأوا رومية (١٢:٥) هكذا”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ (فيه، أو به، أي بالموت وليس بآدم أو في آدم)“. هنا بداية تشعب طريق الشرق و الغرب لاهوتيًا. فالوحيد الذي عدَل النص اليوناني – لأنه كان يجهل اليونانية – هو أبو اللاهوت الغربي، فقرأ النص (إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ – في آدم). وهنا أصبح الفرق الدقيق بين الشرق والغرب هو:

(١) إما أن يكون مصدر الخطية في الإنسان هو الموت الذي انتقل بالتناسل من طبيعة آدم بعد السقوط – لاهوت الشرق.
(٢) وإما أن خطية آدم الخاصة به هي مصدر الخطية في الإنسانية ككل – لاهوت الغرب.

آباء الشرق قالوا بوراثة البشر لطبيعة آدم المائتة، و ليس التي فَعَلها لأن الفعل لا ُيوَرث. أما لاهوت الغرب فقال العكس، أننا نرث خطيئة آدم بالتناسل . وتأسيسًا على ذلك نجد لاهوت الشرق يركز على التجسد الإلهي كأساس لخلاص الإنسان لأنه يحتاج إلي تجديد طبيعته العتيقة الفاسدة المائتة إلي خليقة جديدة و هي التي أسسها إبن الله في ناسوته بالتجسد الإلهي. فصار من ألقاب المسيح اللاهوتية ”إبن الإنسان“ و”آدم الثاني“. ولتأكيد أهمية التجسد الإلهي في الخلاص نجد أن يوحنا الرسول يجعل منه أساس الإيمان المسيحي.

وَكُلّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ

( ١ يوحنا ٤:١)

. بينما ركز لاهوت الغرب على الصليب كأساس لخلاص الإنسان، لأن فكر العصر الوسيط و لاهوت حركة الإصلاح في شَرح موضوع الفداء يَعتبر أن تبرير الله للإنسان كان من خلال استيفاء أحكام شريعة موسي. لذلك فإن قادة حركة الإصلاح جميعاً و بدون استثناء درسوا رسالتي رومية وغلاطية على أساس أن المسيح قد نال عقاب الموت الذي ينص عليه بدلاً عن الإنسان الذي أخطأ . فنال المسيح كإنسان حكم البراءة و العفو من الآب ثم أَعطي لنا هذا التبرير. هذه هي فكرة البديل الُمعاقَب أو البديل الخلاصي ودفْع الثمن وتقديم الترضية للآب التي نشأت في العصر الوسيط منذ أن كتب رئيس أساقفة كانتربري كتابه المشهور ”لماذا تجسد الله “.

ثم جاءت حركة الإصلاح في القرن ١٦ لكي تمسك بنفس الفكر، و تجعله المبدأ السائد الذي يشرح كل شيئ. إن لاهوت الغرب ينظر إلي تبرير الإنسان أنه نتيجة حِفظ المسيح للناموس وسلوك المسيح البار حسب الناموس ثم َقتْل البار ظلمًا على الصليب، أي أنه نتيجة استيفاء المسيح للعدل بمفهومه الأرضي. بينما نلاحظ أن ق. بولس في رسالة رومية وغلاطية يواجه تيار التهود والعودة إلى الناموس. ويقول إن العهد القديم الذي يمثله موسي قد أُبطل في المسيح (٢كو ١٤:٣) لأن شريعة موسي أتت بحكم الموت علي الخطاة ، وأن نهاية خدمة الناموس هي الموت. ويقول بأن البر هو من الإيمان بالمسيح يسوع لا بأعمال الناموس ”وَأَمّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرّ اللهِ بِدُونِ النّامُوسِ“ (رومية 21:3) . وأن تبرير الإنسان هو علي سبيل النعمة و الهبة المجانية ”مُتَبَرّرِينَ مَجّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ“ (رو٢٤:٣).

لذلك جدير بنا أن نتوقف لكي نسأل هل يمكن أن تكون النعمة هي ثمرة تطبيق الشريعة وحفظ الناموس؟ أو إن النعمة تنشأ بقانون أو تصدر من محكمة؟ لذلك ينتهي بولس إلي حقيقة التدبير الإلهي أن الوسيط الوحيد ربنا يسوع حلَّ محل ال والناموس وأن الله في المسيح كان مصالحًا العالم لنفسه (٢كو١٩:٥). و أن العهد الجديد جاء بالحياة ليس كقرار عفو عن الخطاة أو كمبدأ قانوني ُيطبَق حسب قواعد الشريعة و لكن بالانضمام إلي شخص يسوع المسيح الذي هو الحياة نفسها. وأن التبرير هو التغيّر إلي مجد الرب. هذا المجد الذي لا يعرفه الناموس ”نَتَغَيّرُ إِلَى تِلْكَ الصّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ“ ( ٢كو١٨:٣).

لذلك فإن لاهوت الشرق يقول بأن تبرير المسيح للإنسان أُعلِن كنعمةٍ تُوهَب للإنسان بسبب صلاح الله. فهو إعلان محبة وليس إعلان شريعة ”لأَنّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيّةُ“ ( يو ١٦:٣). و أن الرب لم يمت على الصليب حسب الناموس، وإنما حسب النعمة (المقال القادم) : ”وَلكِنَّ الّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ“ ( عب ٩:٢).

والسبح لله.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التمايز في شرح العقيدة المسيحية[الجزء السابق] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٢ُ)[الجزء التالي] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٤)
التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٣) 1
[ + مقالات ]