أثارت موجة نشر بعض كتابات نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية -التي لم تنشر قبطيًا سابقًا- موجات من الاحتجاجات العارمة والهجوم على ناشريها، اللافت أنّ الهجوم انطلق من كل الأطياف تقريبًا، الأصوليون الذين يقض منامهم أيّة حصاة تلقى في مستنقعهم من ناحية، ومن أخرى فريق مستنير يستشرف في الأمر اتهامًا مبطنًا بتخطئة بعض الآباء المؤسسين للفكر اللاهوتي السكندري وعلى رأسهم العظيم البابا كيرلس عمود الدين.
عودة إلى السؤال: هل كان نسطوريوس نسطوريًا؟
والإجابة هي: قطعا لا، إذا اعتبرنا النسطورية بالفهم الشعبوي الشائع الآن لدي جميع المسيحيين ومعلميهم من الإكليروس، وفي جميع الكنائس.
فلم يقل نسطوريوس أبدا بالحلول اللاحق للكلمة في طفل العذراء بعد ولادته، وهذه الهرطقة منسوبة لأسقف أنطاكية المعزول “بولس السيموساطي” قبل نسطوريوس بقرنين من الزمان.
ولم يقل نسطوريوس أبدًا بالانفصال بين الطبيعتين [اللاهوت والناسوت] في المسيح الواحد.
أما فيما يتعلق بلقب “والدة الإله”، فالمؤكد أن الرجل -حسب فكره- ينزه الله الكلمة عن كل ما لا يليق بالألوهة ومنها الميلاد البشري، وهذا ورد بوضوح في رده على رسالة كيرلس الثانية، في المقابل رفض اللقب هو نفي تام للتجسد، الأمر البعيد تمامًا عن فكر الرجل ولكن الملابسات استدعت خبرة سابقة سيئة مع “بولس السيموساطي” وأرادت وأد مرارتها، فالأمر بدأ بحذلقة لاهوتية ولغوية ثم قاده بعدها العناد إلى التمسك بتفضيل لقب “أم المسيح”. وأورده هذا العناد موارد التهلكة في “أفسس” مدينة السيدة العذراء التي استشعر أهلها انتقاصه من شفيعتهم ومكانتها.
سيذهب بنا هذا إلى السؤال الحقيقي؛ هل كان نسطوريوس هرطوقيًا؟
والإجابة إنّه طبقا للفهم السكندري للتجسد سيكون هرطوقيًا بقدر ما يكون شنودة الثالث هرطوقيًا حين يقول إننا نتناول الناسوت -المتحد باللاهوت- مردفًا اللاهوت لا يؤكل
، أو حين يقول إن الناسوت -المتحد باللاهوت- يتعب في حين اللاهوت لا يتأثر. [1].
وحتى نرد الأمر إلى أصوله، فمَا يميّز الفكر النسطوري امتدادًا للفكر الأنطاكي هما ملمحان رئيسان:
الأوّل: هو التمييز القاطع والدائم الذي لا يقبل المساومة بين الطبيعتين وأعمال كل منهما في المسيح، والمنطلق هو التأكيد على وجود “البشري” في المسيح، ما يستلزم وجود مركزين للفعل وثنائية دائمة في شخصهم الذي يزعمونه “واحدًا” وهو ما لم يقدموا له تفسيرًا متماسكًا حتى اليوم. لقد بنوا نموذجهم على مقدمات ظنّوها صحيحة ولكن منتوجها النهائي كان منافيًا للمنطق. وعليه، فلا يُقبل أبدا نسطوريوس -ممثلًا للفكر الأنطاكي- أنّ يوصف الكلمة المتجسد أنه “من طبيعتين” التي تعني اتحادًا طبيعيًا [اتحاد للطبائع] التي يظنون أنه صائر إلى امتزاج أبوليناري، ويصرون على “في طبيعتين” والإصرار مصدره الحفاظ على تمايز واستقلال كل طبيعة.
الملمح الثاني: هو رفض الفكر السكندري في “التأله”، فالسكندريون في تفسيرهم للتجسد لا يرون إلا أهمية التحول المستيكي (السري) للبشرية من خلال التحول الذي حدث لها في اتحادها بالكلمة وحصولها على التأله الذي يعني الاتحاد بالله، كل ما نالته البشرية في اتحادها بالكلمة ينتقل إلى الجنس البشري كهدف نهائي للتجسد، وللإفخارستيا هنا الدور الأعظم، حيث يأتي اللقاء الإفخارستي بالمتلقي إلى تقاربية معطية للحياة في الكلمة. يرفض نسطوريوس هذا الفكر جملة وتفصيلًا، فمن ناحية يري في الأمر إنثربوموفليتية ما، ومن ناحية أخرى يرى أن كلمات الكتاب لا تساند هذا الفكر، وهي تتحدث عن تناول “الجسد” لا اللاهوت.
المبالغة في وصف الأخطاء لمن تعزله الكنيسة قد يكون أمرًا عفويًا واحترازيًا، أما استرجاع هرطقات قديمة وإعادة بعثها من رقادها ونسبها إلى أحدهم فهو عمل واع ومخطط، ولقد برع في هذا العمل الأنطاكيين. فإلصاق “الأبولينارية” بكيرلس -ومن قبله أثناسيوس- ستجد له أثرًا حتى الآن في بعض كتابات حمقاهم. وإلصاق هرطقة “بوليمون” الأبوليناري بأوطاخي هو عمل من أحط الأعمال في تاريخ المسيحية.
وحين جد الجد في خلقيدونية، وتصاعد مد الرفض للتعاليم الذي سبق رفضها في أفسس، كان لزامًا الفصل بين تعاليم نسطوريوس التي ينوون إقرارها، وبين نسطوريوس نفسه، فألصقوا به تعاليم بولس السيموساطي مع الجهر بحرمانه مره أخري (كان الرجل قد توفي) حتى يستطيعون تمرير تعاليمه، ونجحت الخدعة مع المؤازرة من رأس ديسقورس الطائر، وهذا بيان ما حدث.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟