تناولنا في المقال الأول الجملة المضحكة "اللاهوت لا يؤكل"، ويبدو أن الجملة قد أثارت لغطا كبيرًا عندما نشرها قداسته، فقرر أن يدافع عنها بتفصيل اكثر، فتوالت الانحدارات المريعة، ونشر قداسته هذا المقال: "اتحاد اللاهوت بالناسوت" ب منبره الأثير، ويبدو أنه تلقي ردودا قاسية، أوفقته عن نشر مقاله "اللاهوت المقارن" مجددًا في "الكرازة" اعتبارًا من نشر هذا المقال:

سنستعين لتبيان انزلاقات المقال بالقديس ، الاسم الذي قفز إلي سطح الأحداث فجأة بعد محاضرة عن كتاباته ضد “جوليان” أسقف هاليكرنسوس، والردود المتشنجة غير الواعية التي توالت عليها.

قديسنا يذكر اسمه في مجمع القديسين أولا، في العهد ما بعد الرسولي، فيسبق اسمه الكبار وكيرلس والآباء الكبادوك. والحق أن الرجل قد أمتلك ناصية ، فأخرجه متبلورًا مصقولًا محكما.

ينطلق اللاهوت السكندري من الأساس الفكري “الكلمة – جسد” ومن هذه الصيرورة ولد مفهوم “الاتحاد الأقنومي”،
لم يعد هناك طبيعتان (أو شخصان) يتصرفان بمعزل (أو حتي باشتراك مع) الأخري، هناك شخص واحد يفعل (سواء تم تصنيف الفعل ذهنيًا بشريًا أو الهيا) أو يقول (سواء تم تصنيف القول ذهنيًا أنه قول بشري أو قول إلهي)

الحديث حصرا عن الواحد غير المنقسم، ولا يعني هذا تجاهل اللاهوت السكندري أن الواحد هو من طبيعتين متمايزتين، تحمل كل منهما صفاتها التامة والكاملة، مع هذا يصير الحديث عن فعل بعينه صادر عن / واقع علي طبيعة بذاتها، أمرا مؤثما ومحرومًا في هذا اللاهوت.

مَنْ ينسب الأقوال التي في البشائر والكتابات الرسولية، أو التي قالها القديسون عن المسيح، أو التي قالها هو عن نفسه، إلى شخصين أو جوهرين، ناسبًا بعضها للإنسان على حده منفصلًا عن كلمة الله، وناسبًا الأقوال الأخرى، لكونها ملائمة لله، فقط إلى كلمة الله الآب وحده، فليكن محرومًا.

(الحرم الرابع للقديس )

ويبلور القديس ساويرس هذا المبدأ بقوله:

وبينما نحن نحرم أولئك الذين يقولون أن عمانوئيل هو طبيعتين بعد الاتحاد، بما لهما من فعلين وخواصين، فإننا لا نضعهم تحت الادانة بسبب قولهم بالطبيعتين أو الفعلين أو الخواصين، ولكن لأنهم فيما يؤكدون علي الطبيعتين بعد الاتحاد، ينسبون الأقوال والأفعال لكل طبيعة علي حدة، وبذلك هم يفصلونهما

(القديس ساويرس الأنطاكي)

إذن هذا الفصل يذهب بالقائل مباشرة إلى عمق ال، وما ورد بالمقال إذن ينزلق بنا إلى الخطر الداهم، وسنتبع هنا نفس الترقيم الذي اتبعه قداسته.

١+ النمو في القامة والحكمة

بينما يتحدث الكتاب المقدس عن الأقنوم “يسوع” فيقول:

وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس

(الإنجيل بحسب لوقا 2: 52)

يفصل قداسته بين الطبيعتين ويقول:

هو بالناسوت كان ينمو، أما اللاهوت فمن المستحيل أن ينمو

(ال، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

٢+ جاء العالم بالجسد وفارقه بالجسد

يورد قداسته هنا قول الرب الكتابي:

خرجت من عند الآب، وأتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأعود إلي الآب

(الإنجيل بحسب يوحنا 16: 28)

ثم يتجاهل الشطر الأول من القول، ويقول:

طبعا عبارة “أتيت إلى العالم” تنطبق علي الناسوت فقط، أما من جهة اللاهوت فمكتوب “في العالم كان، والعالم به كوّن

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

وهنا نسأل: هل أتى “الناسوت” من عند الآب؟!
وبنفس الفهم يستطرد في الحديث عن “أترك العالم” فينسبها إلى الناسوت.

٣+ الصعود إلى السماء بالجسد

يورد قداسته هنا جملة القداس الغريغوري: “وعند صعودك إلي السماء جسديًا “، والنص الكتابي أنه: “ارتفع“، و”أخذته سحابة عن أعينهم“، وإنه: “ارتفع” عنهم “إلي السماء” و”منطلقًا إلى السماء“، فينسبها إلي الناسوت حيث إن اللاهوت لا يصعد ولا يرتفع، إذ أنه مالئ الكل.

٤+ النوم

يورد قداسته النصوص التي تتعلق بنوم الرب يسوع، ثم يقول:

لا شك أن هذا النوم ينسب إلي الناسوت فقط، لأن اللاهوت لا ينعس ولا ينام

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

٥+ الجوع والعطش

يورد قداسته نصوص الكتاب الخاصة بالجوع بعد الصوم، ويقول:

هو جاع بناسوته

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

٦+ التعب (الإرهاق)

يورد قداسته هنا ما قيل كتابيا قبل لقاء الرب بالسامرية، ويقول:

لا شك انه تعب بالجسد

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

ويعني الناسوت.

٧+ آلام السيد المسيح

يعدد قداسته النصوص التي تتكلم عن آلام الرب يسوع، ثم يقول:

ومع كل هذا فاللاهوت لا يتألم، ومن يقول بآلام اللاهوت يقع في هرطقة

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

فالآلام إذن تقع علي الناسوت

٨+ موت السيد المسيح

يقول قداسته:

والمسيح مات أيضا، مات بناسوته، أما اللاهوت فهو لا يموت

(البابا شنودة الثالث، مجلة الكرازة، مقالة: “اتحاد اللاهوت بالناسوت”)

٩+ الإفخارستيا

وهو هنا يعيد كلامه السابق الذي ناقشناه بتوسع في المقال الأول عن اللاهوت الذي لا يؤكل. ولا يفوتني أن أنوه أن قداسته مع كل نسب الأفعال السابقة إلى الناسوت بمفرده، يطمئننا، أنه في جميع هذه الأحوال فإن اللاهوت متحد ولا يفارق الناسوت، وهو لا يدري أنه نسف الاتحاد الأقنومي تمامًا، و صاغ الأمر أقرب ما يكون للنسطورية.

دعونا نرى: هل قال “نسطوريوس” أقل أو أكثر من هذا؟

من هو الذي قاسي تجربة الخيانة و التسليم إلى اليهود؟؟ من الذي كان يقدم بصراخ شديد و دموع طلبات و تضرعات؟؟ من الذي تحمل ألام الموت و عذاباته و لطمات الأعداء؟؟ اعترفوا إذن بابن الله الواحد ولكنه ذو طبيعتين “الله – إنسان” وعليه ننسب الآلام للطبيعة البشرية، والخلاص من هذه الآلام للطبيعة الإلهية

(نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية (٣٨٦م – ٤٥١م))

لم يقبل القديس كيرلس هذا الفكر، واعتبره ازدواجية وتقسيمًا إلى مسيحين أو ابنين.
ابن تألم لأنه إنسان، وابن لم يتألم لأنه الله الكلمة،

فكيف إذن عالج القديس كيرلس هذه القضية تحديدًا، و ينسحب علاجه هذا علي كل ما يقسم الواحد غير المنقسم؟ يقول القديس كيرلس:

إنّ الكلمة بحسب الجوهر غير قابل للولادة البشرية والآلام والموت، ولكن لأن هذا الإله المحب صار جسدا – لأجلنا – فيجب القول أنه ولد وتألم ومات في الجسد الذي اتخذه لنفسه من العذراء مريم

(القديس كيرلس، تاريخ الفكر المسيحي، المجلد الثالث، صفحة ١١٩)

فإن اللاهوت الذي لا يعرف الآلام او الموت، تألم و مات فعلا، في جسده المائت والخاضع للآلام والموت

(القديس كيرلس، تاريخ الفكر المسيحي، المجلد الثالث، صفحة ١٢٠)

وننتهي باقتباس ملهم أورده القديس “ساويرس” عن القديس “”، فبعد عدة اقتباسات للآباء الكبادوك تصب جميعها في عدم تقسيم الواحد، وعدم نسبة الأعمال المتواضعة إلى الطبيعة البشرية، يختتم بالقول:

إن الأعمال المتواضعة لا تنسب إلي اللاهوت، بل إلى “التجسد” والذي هو فعل إخلاء وتدبير لله الكلمة

(القديس باسليوس الكبير، – إعادة فحص، الصفحة ٤٦٧)

 

اقرأ أيضا:

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رجائي شنودة
[ + مقالات ]