لكنيستنا طبيعتها وخصوصيتها وفرادتها. وتشكّلت هذه الخصوصية كنتيجة طبيعية للأحداث التي وُجِدت كنيستنا في قلبها منذ القرن الخامس. فكنيستنا لم يحدث أن كانت ممثلة لدين السلطة -إن جاز التعبير- سوى لقرن واحد على أقصى تقدير، طيلة تاريخها الممتد لأكثر من عشرين، وكان قرنا عاصفًا، مؤامرتيًا وممثلًا بامتياز للصراع السياسي-الديني. فيما عداه، كانت كنيستنا منكفئة على نفسها، تلملم أطراف جروحها، وتجمع أولادها تحت جناحيها، وهذا أقصى المستطاع والمراد.
تلقائيًا، انعكس هذا على خطابها، فكان لابد أن يصدر مناسبًا لهذه الخصوصية وهذا الانكفاء، وانعكس خطابها أيضًا على متلقيه فاستلزم متلقيًا خاصًا، لا يستوقف الخطاب في عقله، بل يلوكه بتواصل لا ينقطع.
امتاز الخطاب الكنسي بآليات دفاعية، تُسلّح المتلقي بالرضا الشخصي، وامتنانه العميق للخالق على اصطفاءه كمؤمن بالدين الحق، وفرد من الفرقة الناجية، فالمسيحية القبطية هي المسيحية الصحيحة التي حافظت على الإيمان القويم المسلم مرة للقديسين، بعد أن زاغ الجميع واعتنقوا الهرطقات، وقد قاست في سبيل ذلك ما تنوء به الجبال الرواسي، ولابد أن نفخر أننا حراس وورثة هذا الإيمان.
والمسيحية القبطية أيضًا هي المسيحية التي لا تنقطع عنها يد الله والمعجزات والظهورات، كيف لا وهي وحدها المصطفاة والمؤيدة من الرب، حتى أن القبطي يتوقع ظهورًا في أي لحظة، وأن الكاهن لابد انه يحمل في جعبته معجزة جديدة عن بركة جديدة سيقصها عليه في عظة اليوم.
يخفت الخطاب الأصولي أحيانا ويلمسه العقل، ويتوحش حينا آخر حتى لا يعود للعقل محلا إليه. ولكنه يبقى انغلاقيًا منكفئًا، فلم تعرف كنيستنا للتبشير سبيلًا، الكرازة ليست على أجندتها منذ القرن الخامس، ولا شك أن الرب سيغفر لها، تأسيسًا على ظروفها القاسية. التنبيه المشدد: ويل لي إن كنت لا أبشّر
، لن تسأل عنه كنيستنا.
ورغم هذا الغفران المتوقع، فالأمر انعكس سلبا بعمق على الخطاب، فلم يتعرض للفحص والتمحيص ولم يختبر آليات التحاور، وينضج، بل بقي على انحداره حتى وصل قاعه على يد البطريرك المتنيح شنودة الثالث، الرجل الذي كان يملك “كاريزما” واضحة وتربع على العرش طويلًا، حوت كتبه على ما سيتم اعتباره -بعد فترة ليست طويلة- جرائم مسيحية متكاملة الأركان، انحدرت جودة الخطاب على يده حتى أن الكنيسة التي تتباهى بدورها التاريخي في محاربة الهرطقات، أصبح خطابها حاويًا لأخطر الهرطقات دون دراية
ولكن الأمور لا تستمر هكذا، فما الجديد؟
الجديد هو في المتلقي القبطي!
ذكرنا أن الخطاب الانكفائي استلزم متلقيًا خاصا، برعت الكنيسة في إعداده على طريقة لا تجادل ولا تناقش يا أخ علي
، وبالتأكيد لم يناسب هذا كثيرين، معظمهم لم يستطع مواجهة طوفان السلطة الكهنوتية فتسللوا إلى كنائس أخري.
الآن وبعد أن أصبحت “الكرازة” المرقسية قرية صغيرة بفضل ثورة المعلومات وتكنولوجيا التواصل، وبعد مرور هذا المتلقي نفسه بفوران سياسي، قلما يمر المرء به، ساهم في إعادة تشكيل وعيه بمعزل عن الخطاب الكنسي، تشكل واقع كنسي جديد، معارضة واضحة ومؤثرة من كثيرين للخطاب الكنسي، على معظم المستويات، والأهم أنهم يملكون الأدوات التي تمكنهم من تسفيه الخطاب الرجعي ودحضه دون عناء، وأغلبهم ينطلق من غيرته على حال الكنيسة وما انحدرت إليه، فهم لا يؤثرون السلامة والانسحاب إلى كنائس أخري.
لا نناوئ الحقيقة إذا قلنا أن الكنيسة تواجه أزمة كبرى في خطابها، مسيحيًا وعلميًا وربما على مستويات أخرى، وخصوصا مع امتدادها المتسع في المهجر، وأرباب الخطاب هم بقايا العصر الشنودي الذي طال أثره حتى الرهبنة القبطية فدهورها، فلا معين لخطاب جديد يناسب المتلقي الجديد، إلا ما ندر.
وهنا نصل ل”الماسترسين”، عقدة المشهد، بعض الأصوات غردت خارج سرب الانحطاط، في محاولة لإرضاء المتلقي الجديد والانطلاق معه من نفس الأرضية الذي أصبحت رغما عنه تشكل وعيه، وتبشيره بمسيحية عاقلة آبائية مشبعة. فماذا حدث؟
هاجت الأحفوريات الشنودية وماجت، وملأت الدنيا ضجيجًا وغبارًا ثقيلًا، ثقيلًا ولكنه لن يحجب الرؤية أبدا، الرؤية واضحة ولم تكن أبدا بمثل رسوخها الآن.
وحتى يتم دفن هذه الأحفوريات دفنا متقنا يليق بما يمثلوه، أتوجه إلى آبائي الإكليروس القديسين المهمومين برعيتهم، وحتى لا يزجون بكم في أجندة لا علاقة لكم بها، ضعوا نصب أعينكم الآية الجديدة: ويلٌ لك إن كنت تبشّر
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟