اليوم جاءتها رغبة ملحة في شرب كوب من القرفة باللبن.. رغم أن الجو معتدل وهي لا تهوى شرب القرفة باللبن إلا في الليالي الباردة.. أعدت الكوب وقربته من أنفها وهي تستنشق الرائحة المميزة وأغمضت عينيها وارتشفت أول رشفة فشعرت باليد الدافئة تحتضنها برفق وتربت على رأسها في حنو بالغ .. مر الطيف في خيالها ففتحت عينيها سريعًا لتمنع نفسها من الانزلاق والغرق في بحر من الذكريات..

صعدت في خطوات سريعة إلى سطح المنزل لتقوم بجمع الملابس المنشورة منذ الأمس.. حاولت المقاومة، لكنها لم تستطع الامتناع عن دفن وجهها في الملاءة الوردية آملة أن تجد فيها بقية من رائحة.. ارتسمت على وجهها أمارات خيبة الأمل حين خذلتها الملاءة .. فهي ملاءة عادية لا تحمل صفة الإعجاز حتى تحتفظ برائحة جسد لامسها لآخر مرة منذ خمس سنوات..

جاءت بالأطباق لتجهز طاولة الطعام فوجدت أنها أحضرت طبقا زائدًا.. أخفته فزعة وراء ظهرها كأنها تخفيه عن عينيها وعن تفكيرها.. كيف لها ألا تنتبه.. خمس سنوات مرت دون أن ترتكب تلك الغلطة.. فلا أسهل من طبق فارغ ليذكر الحاضر بمن غاب.. مر الطيف مرة أخرى.. دفعته دفعا خارج ذهنها هذه المرة فلا توجد لديها -اليوم بالذات- القدرة على إنقاذ قلبها من اليد التي تعتصره كلما سمحت للذكرى بأن تستقر في ذهنها للحظات..

تلك الأغنية التي تنطلق من حانوت الهدايا على ناصية الشارع تسبب لها الاختناق.. لماذا لا يشعر الناس بنتيجة أفعالهم.. ألا يعلم صاحب الحانوت أن تلك الأغنية.. تلك الأغنية بالذات، قد تفتح جرحًا داميًا في قلبها جاهدت سنوات لتغلقه.. أغلقت النوافذ وحاولت شغل نفسها حتى لا تسمعها، إلا أن صوت الأغنية ظل يخترق أذنيها متسللًا في خفة وقسوة إلى القلب فيدميه..

ترتدي ملابسها في حدة وغضب مصرة على النزول للعراك مع صاحب الحانوت.. ضيق.. حزن.. ألم.. اللعنة على شهر مارس.. لابد لها من إيقاف ذلك الجلد المستمر لها ولغيرها.. لابد أن الكثيرون يشاركونها ذلك الشعور.. فلتنصب نفسها مدافعة عن حقوقهم.. لن تنزوي وتدعو أن يمر هذا اليوم بسلام.. بل ستعترض، وإن لم يفهم الرجل، فلا مفر إذا من العراك..!

تنزل بسرعة إلى الشارع متجهة إلى الحانوت.. يفتح الباب فتسمع صوت الأجراس الصغيرة.. وتراها.. فتاة في العاشرة تحمل على وجهها ابتسامة انتصار.. تحتضن بين يديها الصغيرتين علبة صغيرة مغلفة بورق مزين بالقلوب الحمراء.. تجري ناحيتها ثم تتجاوزها لترتمي في حضن سيدة على الجانب الآخر من الشارع.. تراهما في مشهد يعيد لها من الماضي مشهدًا مماثلًا -بل ربما مطابقًا-.. لها.. ولها..

مازال صوت الأغنية ينطلق من الحانوت: “ست الحبايب يا حبيبة”.. تتقبله الآن وتترك الطيف ليتسلل إلى كيانها ويحتله.. كوب القرفة باللبن في الليالي الباردة.. الملاءة الوردية على سريرها الكبير.. مكانها على طاولة الطعام.. هديتها التي كانت تدخر من أجلها قروشها القليلة.. تستسلم لابتسامة واسعة وتتركها لتستقر فوق شفتيها.. تزيل الحواجز وتهدم السدود لينساب نهر الذكريات في قوة وحرية.. فتمتليء روحها برائحة الفل والقرنفل والريحان.. وتغشى عينيها صورة تجري وراء الأخرى، لفساتين العيد المنفوشة، وشرائط الساتان الملونة، وكراريس الحساب والعربي، والحروف المكتوبة في صفوف عمودية، وعروسة المولد المرسومة في كراس الرسم.. وتزدحم أذنيها بأصوات تنبيهات وتحذيرات وضحكات ودعوات..

تملأ قطع الفسيفساء كيانها لتكوّن صورتها.. وتربت يداها الطيبتان على روحها التعبة فتصبح نار الفراق بردَا وسلامًا، وتعود لتتدفأ بذكراها وكأنها تنام بين أحضانها..

تهدأ تمامًا وتستدير لتعود إلى منزلها،
ولا تنسى، وهي تمر بجوار الفتاة، أن تهمس لها:

ربنا يخليهالك

(، 14 مارس 2008)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

غادة عبد العال

غادة عبد العال

[ + مقالات ]