- ١) ما قبل اﻷزمة
- ٢) نؤمن
- ٣) التاريخ بين الاسترداد والمؤامرة
- ٤) محاولات مبكرة للخروج
- ٥) البابا يوساب: من ينصفه؟
- ٦) أيقونات علمانية قبطية
- ٧) الدور العلماني بين التكامل والتقزيم
- ٨) إرهاصات بعث ملتبسة
- ٩) والعلمانيون يضرسون
- ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
- ١١) جدداً وعتقاء
- ١٢) كتاب يصنع حراكاً
- ١٣) البنّاء الصامت
- ١٤) سنوات البعث
- ١٥) البابا شنودة: البدايات والصعود
- ١٦) البابا شنودة: اﻹكليريكية
- ١٧) البابا شنودة: الرهبنة واﻷسقف العام
- ١٨) البابا شنودة: تحولات وارتباكات
- ١٩) البابا شنودة: سنوات عاصفة
- ٢٠) البابا تواضروس: طموحات ومتاريس
- ٢١) تفعيل آليات التنوير
- ٢٢) الخروج إلى النهار
- ٢٣) خبرات غائمة
- ٢٤) خبرة معاصرة
- ٢٥) مسارات التفكك وسعي المقاربة
- ☑ ٢٦) التجسد: اللاهوت المغيّب
- ٢٧) لنعرفه
- ٢٨) لكنها تدور
- ٢٩) عندما تفقد الرهبنة أسوارها
- ٣٠) الرهبنة: مخاطر وخبرات
- ٣١) الرهبنة: سلم يوحنا الدرجي
- ٣٢) أما بعد
ما المسيحية؟
هل هي مجموعة من الشرائع التي تضبط العلاقة بين الله والبشر في خطها الرأسي، وبين البشر وبعضهم في مداها الأفقي؟
هل هي واحدة من الرسالات السماوية التي ترسم خريطة الحقوق والواجبات بريشة إله للخليقة، ويذيلها بأوامر ونواهي عليها اتباعها حتى لا تقع تحت طائلة سلسلة من العقوبات التي سبق وحددها في قواعد صارمة، بينما في اتباع تلك الأوامر والوصايا نعيمًا مقيمًا؟
هل هي تنويعة إبراهيمية تختطف المرء من واقعه المرتبك لتلقى به في تهويمات ميتافيزيقية، تُرحل أحلامه المجهضة إلى ما بعد الحياة؟
ما أظنها كذلك …
بحسب محاولاتي المتواضعة لفهمها، هي إعلان حضور الله في زمن الإنسان، عبر سر التجسد، الذي فيه تكشفت لنا طبيعة الله المحتجبة، “الله لم يره احد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب هو خَبّرَ.” (يوحنا 1 : 18)، والكنيسة هي آية هذا الحضور واستعلانه في يومنا الممتد.
كان إدراك المرء لماهية التجسد قضية ولدت مع المسيحية، منذ لحظتها الأولى، وكان الصليب ينتظر المسيح، لأنه أعلن ماهيته، التي رفضها اليهود والرومان معًا، وأربكت كل من الحاكم ورجال الدين وقتها،
فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا. وَلكِنّي قُلْتُ لَكُمْ: إِنّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا. لأَنّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الّذِي أَرْسَلَنِي. وَهذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الّذِي أَرْسَلَنِي: أَنّ كُلّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ».فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمّرُونَ عَلَيْهِ لأَنّهُ قَالَ:«أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»…..
فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا:«إِنّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنّ تَلاَمِيذَهُ يَتَذَمّرُونَ عَلَى هذَا، فَقَالَ لَهُمْ:«أَهذَا يُعْثِرُكُمْ؟ من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه الى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه، فقال يسوع للاثني عشر:”العلكم انتم ايضا تريدون ان تمضوا؟”.(الإنجيل بحسب يوحنا 6)
كان المسيح يعي أن “ماهيته” المحور الأساسي الذي تبنى عليه المسيحية، التي لا تستقيم إلا باستيعاب ماهية التجسد، الله الظاهر في الجسد، الإنسان يسوع المسيح !!، وهى الحقيقة التي أدركها القديس بولس الرسول وأكدها لتلميذه تيموثاوس
“لأَنَّ هذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلّصِنَا اللهِ، الّذِي يُرِيدُ أَنّ جَمِيعَ النّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقّ يُقْبِلُونَ. لأَنّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ”
(1 تيموثاوس 2)
لذلك كان حواره اللاهوتي المؤسِس مع تلاميذه والذي انتهى إلى بلورة “ماهية المسيح”:
وَلَمّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيّةِ فِيلُبّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً: «مَنْ يَقُولُ النّاسُ إِنّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا:«قَوْمٌ: يُوحَنّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيّ!». فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنّ أَبِي الّذِي فِي السّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ، فَكُلّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السّمَاوَاتِ». حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ.
(الإنجيل بحسب متى 16)
تطرح الكنيسة دعوتها للعالم للتعرف على المسيح والحياة فيه، وتشتبك مع ثقافاته وموروثاته المختلفة، وتجد الكنيسة نفسها أمام قراءات مختلفة لماهية المسيحية وفى القلب منها ماهية المسيح وطبيعته، وتقفز أمامها حاجتها لتقنين إيمانها تأسيسًا على ما تسلمته من المسيح وما دونته رقائق الإنجيل وحفظته ليتورجيتها عبر التسلسل الآبائي، المتيقن عندها، فكان “قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني”، الذي جاء إعادة إنتاج لقانون الإيمان الرسولي بحسب مخطوطات كنيسة الرسل.
لم تكن قضية الكنيسة مجرد تقنين إيمانها في نصوص قانونية صماء، لذلك حولتها إلى خبز يومها ولغة حياتها اليومية، تعلنها في ليتورجيتها، وفى القلب منها احتفالها الإفخاريستي في يوم الرب.
لم يكن التجسد حدث الهي يصحح عوار إنساني بحسابات ميكانيكية صماء، تجعل منه مسألة منطقية تجهد العقل لترتيبها بين المقدمات والوجوبية وما تحمله من نتائج تنتهى إلى إعادة العلاقة بين الإنسان والله كما كانت قبل العصيان.
التجسد فعل حب تحركت به أحشاء الله ليعطى الإنسان ما لله بحسب القديس أثناسيوس الرسولي “هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذى له” لتنحتها التسبحة في أهازيجها اليومية وتكملها بفرح “نسبحه ونمجده ونزيده علوًا”.
وعَبرَ التجسد صلبنا وقمنا وأصعدنا وجلسنا مع المسيح وفيه عن يمين الآب “ومِنْ أَجْلِ مَحَبّتِهِ الْكَثِيرَةِ الّتِي أَحَبّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ، بِالنّعْمَةِ صرنا مُخَلّصُونَ، وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السّمَاوِيّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (عن افسس2).
وكان أن ارسل لنا الروح القدس ليحل فينا، ليس زائراً بل مقيماً، يمكث معنا إلى الأبد، مالئ الكل، كنز الصالحات ومعطى الحياة، بحسب ما نقول به يومياً فى صلوات السواعى، وها انا ارسل اليكم موعد ابي. فاقيموا في مدينة اورشليم الى ان تلبسوا قوة من الاعالي (لوقا 24 : 49). وانا اطلب من الاب فيعطيكم معزيا اخر ليمكث معكم الى الابد، (يوحنا 14 : 16).
ونصير في المسيح به خليقة جديدة، الذين يرفضون ما صار لنا من استحقاقات بفعل التجسد لم يستوعبوا فعل التجسد نفسه، لأنهم يقيسون الاستحقاقات على قامتنا وليس على قامة من أعطاها، ويرفضون في تواضع ملتبس أن نصير على صورة المانح، “انتم رسالتنا مكتوبة في قلوبنا معروفة ومقروءة من جميع الناس، ظاهرين انكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي” (2 كو 3).
وهو رفض يذكرنا برفض ق. بطرس أن يغسل السيد قدميه، إذ كيف للسيد أن يغسل قدم تلميذه، رآه تأكيدًا على تعظيمه لسيده ورآه الرب عدم إدراك لفعل الإخلاء.
التجسد جعلنا لحم من لحمه وعظم من عظامه، وصرنا مكملين إلى واحد، ولم يعد للخطية سلطان علينا، ونستطيع أن نقول بثقة أننا أعظم من منتصرين، وتولد بنا كنيسة قوية تعلن دومًا انتصارها وقوتها.
عندما تغيب روح النصرة تنهزم مقاومتنا وتنكسر، ونبحث عن دعامات نفسية وذهنية، ونستبدل قوة الروح وفعله فينا بقدرات ذاتية، تتشابه علينا بصورة التقوى، ونبحث عن حلول لا تضبط ماء لأن آبارها مشققة، ونمعن في الاستعاضة عن عمل النعمة بأعمال الجسد، فتكثر بيننا الأزمات ونعيش الازدواجية في صور متعددة، وتصير الليتورجيا عبئًا والصلاة فروض نتممها بآلية ورتابة، والأصوام ثقل نحمله خوفًا من عقاب، والعبادات قوانين تطاردنا، والحياة اليومية منفصلة عن كل هذا.
عندما يغيب لاهوت التجسد، عن يومنا ، بفعل غياب خبرة ورؤية الآباء، وبغير حراسة الليتورجيا المعاشة، نرتد إلى صورة الله المتعالي والبعيد والمتربص، ربما لهذا كان تحذير الكتاب “وأما انتم فلم تتعلموا المسيح هكذا” (اف 4: 20).
سيبقى ما يحدث صراعًا حتى نعود إلى ينابيع الخبرة الكنسية الآبائية، الذهب المصفى بالنار، لنشكل معًا مجددًا مخاض ميلاد جديد.
«هذَا يَقُولُهُ الآمِينُ، الشّاهِدُ الأَمِينُ الصّادِقُ، بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ:
أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنّكَ لَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا!
هكَذَا لأَنّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيّأَكَ مِنْ فَمِي.
لأَنّكَ تَقُولُ: إِنّي أَنَا غَنِيّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنّكَ أَنْتَ الشّقِيّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ.
أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنّي ذَهَبًا مُصَفّى بِالنّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ.
إِنّي كُلّ مَنْ أُحِبّهُ أُوَبّخُهُ وَأُؤَدّبُهُ. فَكُنْ غَيُورًا وَتُبْ.
هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.
مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ.
مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ».(رؤيا 3)
ومازال للطرح بقية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨