المقال رقم 9 من 32 في سلسلة الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟

الكنيسة الكيان تسعى لاستعلان قصد الله الأزلي الذي أعلنه يسوع المسيح، وحققه في تجسده وموته وقيامته، “السّرِّ الّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيّةِ، وَلكِنْ ظَهَرَ الآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النّبَوِيّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلهِ الأَزَلِيِّ، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ، للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ(رومية 16 : 25 ـ 27)، وهى لا تتوقف عن إعلانه فتنير لنا الطريق “وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ(أفسس 3 : 9).

ويجمل القديس بولس أركان هذا الإستعلان في كلمات موجزة “وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرّرَ فِي الرّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ.(1تيموثاوس 3 : 16).

فالكنيسة هي آلية أو أداة الله في استعلان الملكوت وتحقيقه في زمن الإنسان، ويقاس نجاح الكنيسة بل ومبرر وجودها بقدر قدرتها على القيام بهذا الإستعلان. وبانتباهها لئلا يزاحمه أو يشغلها سعى آخر، مهما كان بريقه، ولا تكفى المعرفة اللاهوتية مدخلًا لنشر الملكوت بل يلازمها “السلوك التقوّى”، لذلك فهي والحال هذه لا تعرف الصراع والتضارب والاحتراب، ولا يقبل منها أن تبرر هذا بحماية الإيمان والحفاظ على العقيدة، رغم أن هذا أحد مهامها، ويدق الأمر عندما يطرح طرحًا عامًا، فالأهداف الصحيحة تستوجب استخدام مسارات وآليات سليمة وصحيحة، لا تخرج عن منظومة القيم المسيحية،

ولنا في رسائل وكتابات الآباء إلى الوثنيين والهراطقة نموذجًا، ومثالنا رسائل القديس إلى ويوحنا الأنطاكي:

كيرلس يهدي تحياته في الرب إلى الموقر جدًا والمحب جدًا لله الشريك في الخدمة نسطوريوس

(من رسالة القديس كيرلس الكبير إلى نسطوريوس، استهلال الرسالة الرابعة)

كيرلس يهدى التحيات في الرب إلى سيدي وأخي وشريكي في الخدمة الكهنوتية، يوحنا…

(من رسالة القديس كيرلس الكبير إلى يوحنا الأنطاكي، استهلال الرسالة 39)

من كيرلس والمجمع المنعقد في الإسكندرية من إيبارشية مصر، نهدى تحياتنا في الرب، إلى الموقر والمحب لله جدًا الأسقف الشريك نسطور

(من رسالة القديس كيرلس الكبير إلى نسطوريوس، استهلال الرسالة 17)

رغم أن هذه الرسائل تأتى في سياق الصراع الخريستولوجى (الكلام عن ماهية المسيح وطبيعته). ولم تمنع انعقاد الثالث لمراجعة نسطوروس الذي انتهى بقطعه وعزله.

والكنيسة ككائن حيّ، تراجع واقعها بشكل متواتر، قياسًا على ما استقر فيها من إيمان وعقائد سطرها الإنجيل والتسليم الآبائي وخبراتها الحياتية القوية، واخزنه في منظومة عبادتها عبر الا، وتاجها ال.

ولهذا كانت المجامع المسكونية في قرون الكنيسة الأولى، والتي تعد واحدة من أهم المرجعيات التي يقاس عليها الأطروحات اللاحقة فيما يتعلق بالعقائد الكبرى، وفيها القول الفصل الذي لا يملك أحد الخروج عنه وعليه.

وفيما سبق وطرحنا، عبر هذه السلسلة من المقالات، نجد أن الكنيسة باتت بحاجة ملحة لتعريب وترجمة أعمال وقرارات (قوانين) المجامع المسكونية، وكتابات الآباء ذات الصلة، بشكل مؤسسي، عن لغتها اليونانية، وهى لن تبدأ من فراغ، فلدينا مؤسسات قبطية أكاديمية عريقة قدمت للمكتبة المصرية والعربية الكثير من الكتب المترجمة قام بها باحثون ومتخصصون في يونانية الآباء، لعل أبرزها “” الذي أسسه بفدائية وجلد ومثابرة الأستاذ الدكتور ، وما تفرع منه من مؤسسات وكيانات علمية، مازال ومازالت تعمل بجهود مضنية في إمداد القارئ بالمزيد. وعلى الكنيسة المؤسسة أن تجمع هذه الجهود في كيان كنسي مؤسسي رسمي.

لكننا نتوقف مليًا أمام الملاحقات التي تعقبت المد المدني (العلماني) والذي تناولناه في رصدنا بعضه في طرحنا للعمل الأهلي، الجمعيات والكيانات الأهلية، والتي انتجت العديد من المدارس العامة والكنسية، وكانت وراء إعادة بعث الإكليريكية، وإنشاء ، بتكوينه العلمي والذي كان مرشحًا ليصبح نواة لجامعة لاهوتية علمية مصرية، بما يملكه من هيكل تنظيمي وأقسام متخصصة، وما يضمه من كوادر علمية لها إسهاماتها وإنتاجها العلمي المتخصص ليس فقط في الجامعات المصرية بل وفى الجامعات الأوروبية والأمريكية.

وكان للكنيسة القبطية الأرثوذكسية أُسقفان، أحدهما للتعليم والكلية الإكليريكية، والثاني للبحث العلمي ومعهد الدراسات القبطية العليا، وكان من الطبيعي حال تعاونهما أن تشهد الكنيسة انطلاقة علمية قوية، تسترد معها ثقلها اللاهوتي، الممتد إلى اللاهوتية، لكن ما حدث جاء صادمًا، إذ تراجعت الكلية الإكليريكية بشكل حاد، وانتقل الاهتمام فيها إلى القسم المسائي، على حساب مكونها الأساسي، القسم النهاري، والذي كان يؤسس لاستعادة نسق التلمذة كما عرفته مدرسة الإسكندرية، حيث الإقامة الكاملة لطلابها، داخلها، دراسة ومعيشة وإقامة، يعايشون أساتذتهم، داخل وخارج قاعات الدرس، لينصب التركيز على القسم المسائي الذي يلتحق فيه خريجي الجامعات من مختلف التخصصات، ليتلقوا علوم الكنيسة في محاضرات يغادرونها بعدها، ومنهم تختار الكنيسة من يقدمون للرسامة الكهنوتية، دون القسم النهاري، الذي كاد أن يوصد أبوابه، ولا يجد من يتخرج فيه مكانًا في الرسامات داخل القاهرة، فيطرح نفسه على أساقفة الأقاليم، ثم في تطور لاحق يتجه بعض الأساقفة إلى إنشاء إكليريكيات محلية تفتقر لأبسط المقومات العلمية وينعكس هذا على منتجها.

أما معهد الدراسات فيشهد هجرة الكوادر المؤسِسة له لأسباب عديدة ليحل محلهم آخرين ويدب الخلاف بين اسقفي التعليم والبحث العلمي، ويتخذ منحى حاد بعد أن يصير أسقف التعليم بطريركًا، لينتهى الأمر بشكل مأساوي وينهار أو يكاد صرح الكلية والمعهد. ويجهض الحلم التنويري.

ولم يكن العمل الأهلي القبطي اسعد حالًا، إذ يشهد تراجعًا متتاليًا، في سياق عام خارج الكنيسة، يقلص كل ما هو مدني، لتتحول أنشطة الجمعيات عن مسارات التعليم والصحة، ولا يتبقى أمامها إلا نشاط “دفن الموتى” وخدمات الرحلات الدينية الموسمية، وبعضها يطرق أبواب ما يمكن أن نسميه “الخدمات الاستثمارية” تحت لافتات مخاتلة، لتموت معها مفاهيم العمل التطوعي والأهلي الخدمي.

وتشهد الساحة القبطية الأرثوذكسية تراجعًا في الدور العلماني بشكل متدرج، وبأنماط متنوعة، بين اجتذاب المتميزين في تخصصاتهم المدنية، أطباء ومهندسين وغيرهم، إلى دائرة الرسامات الكهنوتية، أساقفة وقسوس، فتفرغ الدائرة ال من العديد من التخصصات بما يفقدها قدرتها على إحداث توازن مجتمعي، ولا تقدم للدائرة الكهنوتية طاقتها الكاملة لوقوعها تحت طائلة القواعد الهيراركية الحادة، وبين سحب المنبر من العلمانيين ليصير مقتصرًا على رجال ال، وبعد أن كان العلمانيون شركاء في إدارة شئون الكنيسة المدنية ينتقلون إلى المربع الاستشاري، حتى في تخصصاتهم، ليكبل الإكليروس بما ليس لهم وينعكس هذا سلبًا على مهمتهم الأساسية وندخل في دوامة بلا قرار، ويئن العلمانيون ويئن الإكليروس، وتتفاقم أزمات التعليم والرعاية، ولم تكن الرهبنة بعيدة عن الأنين، وهى منظومة علمانية بالأساس وليس إكليروسية، فقد تم تفريغ الأديرة من شيوخها بين الرسامة والتحجيم، لتفقد واحدة من أركانها الأساسية “التلمذة”، وتتوالد الرؤى الذاتية، وتبدأ صراعات التأويل والتفسير وتضارب الآراء بغياب التسليم الآبائي.

ومع كل هذه الاختلالات تظهر الولاءات ويقفز أهل الثقة إلى الصفوف الأولى، ويبعد أو يتوارى أهل الخبرة.

اللافت أنه عندما أعيد طرح إحياء “” كان الاسم الأكثر تداولًا: “المجلس الاستشاري” (!!) فيتحول الدور العلماني من كونه أحد جناحي الكنيسة إلى تابع بلا مشاركة حقيقية، وتفقد الكنيسة أحد أهم مميزاتها، أنها كنيسة الشعب.

وتأتى المواجهات الأخيرة بين قيادات الإكليروس منتجًا طبيعيًا لاختلالات تراكمية بدأت بالانقطاع المعرفي واستمراره، وتغذت بالانفراد لأحد أجنحة الكنيسة وإقصاء الآخر، وتكريس الرأي الأوحد وتشويه مفهوم التعدد والتنوع الذي كان يميز ويثرى الكنيسة.

ومازال الطرح مستمرًا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟[الجزء السابق] 🠼 ٨) إرهاصات بعث ملتبسة[الجزء التالي] 🠼 ١٠) العرب والانقطاع المعرفي الثاني
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨