- كيف نشأت الجماعة؟
- ما بين العنف والنفاق
- الإخوان والعمل السياسي
- نشأة النظام الخاص
- المواجهة الأولى
- الإخوان المسلمين والبرلمان
- الإخوان وحكومة النقراشي
- الإخوان وحكومة صدقي
- انشقاق البنا والسكري
- الإخوان والدم
- قتل الخازندار
- الإخوان والحرب
- حل الجماعة
- ما بعد حل الجماعة
- أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
- نسف محكمة الاستئناف
- حادث حامد جودة
- ☑ الهضيبي مرشدا
- الإخوان وعبد الناصر
الجماعة… قرار حظرها حاضر عند كل صاحب سلطة من دون أن يسلم خاطره من أغراء استخدامها.(السفير البريطاني رالف ستيفنسون)
بعد خروج الإخوان من السجون اثر الصفقة الناجحة من النحاس، حاولوا لم شتات الماضي مرة أخرى من جديد، والبحث عن قائد ومرشد جديد للمرحلة القادمة، في نفس الوقت الذي أثارت هذه الأغلبية الكاسحة للوفد الرعب في نفس فاروق، والذي كان عداؤه الشديد للوفد أمرًا لا يقوى على إخفائه، فجمع مجلس البلاط الذي كان يستشيره في أموره الخاصة حين تشتد به الأزمات.
كان مجلس بلاطه مكونًا من ناظر الخاصة الملكية محمد نجيب سالم باشا، ومحمد العشماوي باشا وزير المعارف الأسبق وهو معلم فاروق الذي أشرف على تعليمه حين كان يتلقاه في مدارس لندن وجامعاتها، أما الثالث فهو رجل الدين البارز محمد عبد اللطيف دراز وكان وكيلًا للأزهر، كما كان قطبًا من أقطاب الحزب السعدي المناوئ لحزب الوفد، وصارحهم فاروق بمخاوفه من شعبية الوفد، فاقترح عليه محمد عبد اللطيف دراز والعشماوي ونجيب سالم أن يعيد الإخوان المسلمين إلى الساحة ليحدث التوازن المطلوب مع الوفد (هذا الحل الذي أستخدمه عبد الناصر ضد معارضيه، وأستخدمه السادات ضد الناصريين وأستخدمه مبارك ضد المعارضة).
اندهش فاروق لدى سماعه اقتراح مجلس البلاط بإعادة الإخوان والسماح لهم بالعمل، فقد استبعد فاروق أن يؤأزره الإخوان في موقفه ضد حزب الوفد، ولكن مجلس بلاطه أكد له أن جماعة الإخوان جماعة انتهازية تسعى وراء مصالحها ومصلحتها مع الملك، فإذا نجحوا في تعيين مرشد جديد للإخوان المسلمين يدين بالولاء للملك، فإنهم يكونون بذلك قد نجحوا في استيعاب الإخوان المسلمين والاتجاه بحركتهم إلى صف الملك، وانبرى الشيخ عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر ومستشار الملك قائلًا إنه لديه المرشد الذي يدين لجلالة الملك بالولاء الشديد، وحين سأله عن اسم المرشح لزعامة الإخوان قال له دراز إنه الشيخ أحمد حسن الباقوري.
كان الباقوري زوج ابنة عبد اللطيف دراز وهو وكيل المرشد العام السابق المرحوم حسن البنا، أي أنه يقف بإحدى قدميه في الإخوان المسلمين وبالأخرى في البلاط الملكي، وبالرغم من أن الباقوري كان وكيلًا للبنا لكنه لم يكن يعلم شيئًا عن الأمور الخاصة للتنظيم، وأهمها الجهاز الخاص والذي تكمن فيه القوة الحقيقية للإخوان المسلمين فلم يكن للباقوري أي علم بما يدور فيها، ومن هنا كان الشيخ الباقوري شديد النقمة على المرشد العام حسن البنا، لأنه أخفى عنه جبل الثلج الذي لم يكن الباقوري يرى منه غير قمته الطافية فوق السطح فقط، أما قاعدته الكبيرة التي يرتكز عليها في قاع المحيط، فلم يكن البنا يسمح لأحد غيره بالاقتراب منها والاطلاع عليها.
وحين اكتشف الباقوري وجود هذا التنظيم الخاص وأدرك حجم قوته، استشاط غضبًا من حسن البنا، حين استشعر أن البنا كان يستغله أو لا يمنحه الثقة التي كان يرى أنه جدير بها كوكيل له، وكان الشيخ عبد اللطيف دراز ولا شك يعلم بالمشاعر غير الودية التي كان يكنها الشيخ الباقوري لحسن البنا نتيجة لذلك، ومن هنا كان يرى أن اختياره للباقوري ليحل محل البنا في زعامة الإخوان هو الاختيار الموفق، الذي يضمن به تحويل الإخوان المسلمين إلى جماعة مؤيدة ومستأنسة، على خلاف ما كانت عليه في عهد زعيمها السابق حسن البنا.
ولم يكن الباقوري من القيادات الإخوانية التي شملتها عملية الاعتقال الأخيرة، وحين استدعاه الشيخ دراز ليعرض عليه زعامة الإخوان، طلب الباقوري مهلة من الوقت يستكشف خلالها رأى مكتب الإرشاد في أمر ترشيحه مرشدًا للإخوان، وكان مكتب الإرشاد مكونًا من عدد من أقطاب الإخوان منهم الشيخ الغزالي، وعبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا، وصالح عشماوي، وكان هؤلاء الثلاثة أبرز الأعضاء في مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، وكانوا جميعهم معتقلين في معتقل الهايكستب شرق القاهرة، وحين ذهب إليهم الباقوري ليسألهم رأيهم في تعيينه مرشدًا عامًا للإخوان، خاصة أنه وكيل المرشد العام، قال له الغزالي إننا لا نستطيع أن نأكل عيش السراي
(نوع من الحلويات الفاخرة)، وقد قالها الغزالي كناية عن علاقة الباقوري بالسراي أو الملك فاروق.
وقد فهم الباقوري ما كان يرمي إليه الشيخ الغزالي من وراء عبارته، وأيقن أنه لا قبل له بمعاداة مكتب الإرشاد حتى لا يفقدهم، خاصة أنه فاقد فعلًا لرجال التنظيم الخاص الذي لا يعلم عنهم شيئًا، لهذا رأى الباقوري أنه ليس من مصلحته أن يفعل شيئًا ينتقل به إلى صفوف الأعداء في مواجهة الإخوان المسلمين، فذهب إلى الشيخ دراز ليقول له إنه لا يستطيع أن يرأس الإخوان على غير رغبة من رجال مكتب الإرشاد، ولكنه قدم بدلًا منه رجلًا آخر ليقوم بهذه المهمة وهو لا يقل عنى ولاء لجلالة الملك
كما قال الباقوري وكان يقصد المستشار حسن الهضيبي.
لم يكن الهضيبي عضوًا في جماعة الإخوان حتى ذلك الوقت، وإنما كانت تربطه علاقة طيبة بمرشدها العام المرحوم حسن البنا، وكان مأمون الهضيبي ابن حسن الهضيبي متزوجًا بابنة محمد نجيب باشا سالم ناظر الخاصة الملكية، أي إن لهم قدمًا في البلاط الملكي، وتبقى الأخرى طليقة انتظارًا لوضعها على أرض الإخوان المسلمين.
حين سمع محمد نجيب باشا سالم بترشيح الباقوري للمستشار حسن الهضيبي ليكون مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين، قال نجيب باشا إن الهضيبي ليس مواليًا فقط للملك فاروق، بل كان مواليًا أيضًا لأبيه الملك فؤاد الذي يدين له الهضيبي بتعيينه قاضيًا بعد أن كان محاميًا، وبعد أن حكى نجيب باشا ناظر الخاصة الملكية هذه القصة عن صهره حسن الهضيبي، استحسن الملك فاروق الاقتراح بترشيحه زعيمًا جديدًا للإخوان المسلمين، ورأى أنه الشخص المناسب الذي يمكن أن يقود قاطرة الإخوان ليقف بها في محطة القصر الملكي.
وبعد أن لقى المستشار حسن الهضيبي الموافقة الملكية المطلوبة، تكفل الشيخ أحمد حسن الباقوري بترويجه في سوق الإخوان المسلمين غير المعتقلين، فكان الباقوري يأتي إلى الإخوان المسلمين من كبار السن، فيقول لهم إن حوادث القتل والإرهاب أحدثت فزعًا في نفوس المواطنين وأوجدت الخوف والرعب لدى الناس من الإخوان المسلمين وأصبح لزامًا علينا الآن أن نختار قيادة مسالمة ذكية وقورة، إلى آخر الصفات التي يمكن أن تنطبق على حسن الهضيبي الذي كان الباقوري يطرح اسمه بعد أن يجد الموافقة لدى هؤلاء على فكرته، أما آباء المعتقلين من شباب الإخوان فكان الباقوري يأتي إليهم ويقول لهم إن أبنائهم لن يخرجوا من معتقلات الحكومة إلا إذا جاء المستشار حسن الهضيبي زعيماً للإخوان، فهو على علاقة طيبة بالملك والقصر، وهو إلى ذلك على علاقة طيبة بالإخوان، ولهذا فهو الوحيد الذي يمكنه عقد المصالحة بين الحكومة والإخوان، والتي في إطارها يمكن أن تفرج الحكومة عن المعتقلين في السجون من شباب الإخوان.
استطاع الباقوري وفقًا لهذا المنطق التصالحي والمصلحي، أن يحصل على موافقة أولئك الآباء الذين كان يضنيهم كثيرًا وجود أبنائهم في المعتقلات انتظارًا للمصير المجهول، كذلك طرح الباقوري في إطار خطته لترويج المستشار حسن الهضيبي في أوساط الإخوان فكرة أن وجود رجل قانون مثل المستشار حسن الهضيبي على رأس الإخوان المسلمين سوف يكون عاملًا مهمًا في إزاحة ما علق في أذهان الناس من وصف الإخوان بالإرهاب والخروج على القانون، بعد أن أصبح زعيمهم ومفكرهم وقائدهم ورجل قانون مستشارًا في الهيئة القضائية، وأخيرًا، نجح الباقوري في إقناع غالبية الإخوان الذين كانوا قد عانوا الكثير في المعتقلات من جراء حوادث القتل والعنف، كما عانوا من الإجراءات التعسفية التي قامت بها الحكومة حيالهم بعد تلك الحوادث، فراحت نفوسهم اليائسة والتعبة تبحث لها عن مخرج من هذه الأزمة التي طال مكوثهم فيها نتيجة للعنف والعنف المضاد بينهم وبين الحكومة.
وأخيرًا وجدوا هذا المخرج لهم من أزمتهم الطاحنة في الفكرة التي كان يروج لها الشيخ الباقوري بدأب وذكاء، واستطاع الباقوري أن يعقد البيعة للمستشار الهضيبي، واجتمعت الهيئة التأسيسية للجماعة بعد ذلك في المركز العام المؤقت الذي أقامه الإخوان بمنزل صالح عشماوي بالظاهر، وأعلنت انتخاب حسن الهضيبي مرشدًا، وقام عبد الحكيم عابدين فأعلن مبايعته مرشدًا، ثم كان أول خطاب للأستاذ الهضيبي للإخوان يوم الثلاثاء 23 أكتوبر 1951 وقال فيه؛
هذا أول لقاء بيني وبينكم، ويسعدني أن أوصيكم أيها الإخوان بتقوى الله وطاعته، والإقبال على الله وترتيل القرآن الكريم، وأن تستعدوا في هذه الظروف التي تمر ببلادنا، والله معنا ينصرنا ويوفقنا(حسن الهضيبي، 23 أكتوبر 1951)
أما أعضاء الجهاز الخاص وهم عصب الإخوان وقوتهم، فقد رفضوا مبايعة الهضيبي أو أي أحد غيره، والأكثر من ذلك أن عبد الرحمن السندي أكد لأعضاء جهازه الخاص أن المرشح الجديد حسن الهضيبي ما هو إلا عميل لفاروق، وقد أكد الهضيبي نفسه هذا المعنى حين قابل فاروق في قصر عابدين في 14 نوفمبر 1951 بعد حصوله على مبايعة الإخوان له وتعيينه مرشدًا عامًا، وخرج من تلك المقابلة ليصفها للصحفيين بأنها؛ مقابلة كريمة من ملك كريم
ووقع في سجل التشريفات مظهرًا تأييده وطاعته لفاروق، وصحبه في ذلك لفيف من قادة الإخوان، ونشرت صحيفة الجمهورية صورة موثقة من التوقيعات.
وقد نشرت جميع الصحف الصادرة في يناير 1951 هذا التصريح الذي أكد فيه الهضيبي ولاءه للملك فاروق دون مواربة أو تردد، وقد بكى كثير من أعضاء الجهاز الخاص لدى سماعهم تصريح الهضيبي الذي أثنى فيه على الملك فاروق، وقالوا؛ لقد قتل فاروق مرشدنا ليصطنع لنا مرشدًا من عنده
وهكذا، اختارت الجماعة المستشار حسن الهضيبي ليصبح المرشد العام الثاني للجماعة بعد حسن البنا مما عاد بالجماعة مرة أخرى إلى أحضان القصر، وبدأت مرحلة تحالف جديدة بين فاروق والإخوان، وألغى قرار حل الجماعة وعادت إلى شرعيتها، لكنها ارتدت ثوبًا آخر يتفق مع الاتجاه الجديد، وعلق السفير البريطاني رالف ستيفنسون بمصر 1951 على عودة الجماعة لأحضان القصر قائلًا: كل ممارس للسياسة في مصر يرى في الجماعة قوة ذات جاذبية خاصة لجوانب بعينها من العقل المصري.
انقلاب في الافق القريب
في نهايات عام 1951 وبدايات عام 1952 بدأت خيوط اللعبة تتجه نحو مجموعة من ضباط الجيش الذين يخططون في القريب العاجل لعمل عسكري غير مسبوق بدعم أخواني، كانت فكرة إنشاء تنظيم ثوري سري في الجيش قد نضجت في صيف 1949، وتشكلت لجنة تأسيسية لهذا التنظيم السرى ضمت في بدايتها خمس أعضاء فقط، هم اليوزباشي جمال عبد الناصر، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، خالد محيي الدين وعبد المنعم عبد الرؤوف، ثم زيدت بعد ذلك إلى عشرة، بعد أن انضم إليها كل من أنور السادات، عبد الحكيم عامر، عبد اللطيف البغدادي، زكريا محيي الدين وجمال سالم. وظل خارج اللجنة كل من ثروت عكاشة، علي صبري ويوسف منصور صديق.
وفي 26 يناير عام 1952 نشب حريق ضخم التهم معظم المحال التجارية في وسط القاهرة، وفي خلال ساعات قلائل التهمت النار نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب وناد في شوارع وميادين وسط المدينة، وقد اسفر الحريق عن مقتل 26 شخصًا، وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور 552 شخصًا، وبدا الحريق كأنه تخطيط من فاروق لإلهاء الشعب عن غضبه ضده بسبب ضياع فلسطين، وما تردد عن دور فاروق في صفقة الأسلحة الفاسدة وبدأ فاروق يفقد سيطرته على الأمور، وبدأت خيوط اللعبة تتجمع في يد هذا التنظيم السرى الذين قد اطلقوا على انفسهم لاحقًا الضباط الأحرار، وكما قال هيكل لاحقًا أنه؛ عشية أحداث يوليو 1952، كانت السلطة ملقاة على قارعة الطريق تنتظر من يلتقطها
وقد صارح عبد الناصر الإخوان المسلمين بعزمه على قيام الضباط الأحرار بالانقلاب على الملك وطلب مساعدتهم، ورغم ذلك آثرت الجماعة بقيادة الهضيبي على اللعب على الوجهتين، خشية فشل حركة الضباط الأحرار، ففي مجلة الدعوة في العدد 64 وقبيل انقلاب يوليو بحوالي شهرين ونصف، لم تفوت الجماعة فرصة عيد الجلوس الملكي لتظهر صورة فاروق على الصحفة الأولى وبجانبها كتبت المجلة:
تحتفل مصر اليوم بعيد جلوس حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول ملك مصر والسودان على عرش آبائه وأجداده، ونحن إذ نرفع إلى مقام صاحب الجلالة الملك وإلى الأسرة المالكة الكريمة أجل تهانينا، وندعو الله مخلصين أن يجيء هذا العيد الميمون في العام المقبل ووادي النيل يرفل في حلة قشيبة من حلل الحرية الحقة والاستقلال الكامل والوحدة المنشودة.(مجلة الدعوة، العدد 64)
ولكن المولى تجلت حكمته لم يستجب دعاءهم، فلم يأت هذا العيد الميمون في أي عام تال، وحلت محل صور فاروق صورة محمد نجيب على عدد خاص أصدرته الدعوة عن حركة الجيش على طريقة مات الملك عاش الرئيس.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤