المقال رقم 13 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية
أعود فأؤكد أن تناولي هنا لا يقترب من الأرضية اللاهوتية أو الروحية، وسطوري ليست تقييمًا لشخوص المرحلة محل القراءة، وإنما هي في تقديري محاولة لفهم تشابكاتها وتفاعلاتها بقدر ما توفر لدى من معلومات ومشاهدات، وبعض من حوارات جرت مع أضداد أبرزهم كانوا أصدقاء حميمين لبعضهم ثم قفزوا إلى دوائر الصدام والخلاف، جمعتهم طموحات التغيير وفرقتهم صراعات السلطة. حسب موقعهم منها اقترابًا وابتعادًا، سعيًا ونفورًا.

أميل إلى الاعتقاد بأن تحالفات ومصادمات جيل الشباب في أربعينيات القرن المنصرم كانت تتشكل على أرضية سياسية، شأنها شأن مثيلتها في الشأن العام، وما الجدل اللاهوتي والتأويلي إلا غطاء يقدم لتبرير الصراع، وتسويغه في الشارع القبطي، كان كل طرف يرى أن قناعاته هي الصواب المطلق.

ولم يكن بينهم من تشكلت رؤيته ـ وقتها ـ على دراسة أكاديمية آبائية، في كنيسة تقليدية، عمادها التقليد الآبائي، وكان لهم عذرهم فلم يتوفر لهم من تراث الآباء المحقق، والمدون باللغة العربية، إلا النزر اليسير، فراحوا ينهلون من مصادر متاحة، تشابهت عليهم، ولعلنا ما زلنا نتذكر ترجمات تفاسير أسفار الكتاب المقدس وسير شخوص أنبياء العهد القديم، التي عكف الأستاذ ، القمص مرقس داود فيما بعد، على ترجمتها -علمانيًا وكاهنًا- أبرزها سلسلة تفاسير الكتاب المقدس للقس الأنجليكاني [متى هنري]، والعديد من الكتب الروحية وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ، فضلًا عن كتاب ال []، وتاريخ الكنيسة ل، إضافة إلى تعريبه لبعض الكتب التراثية وفى مقدمتها كتاب “” لل [القرن الرابع] عن تَرْجَمَة إنجليزية. وهو عمل بمعايير وقته بطولى واستثنائي يستحق التقدير. ولا يمكن إغفال أثره في تشكيل قناعات غالبية ذاك الجيل.

وبحسب أحد الباحثين ممن اقتربوا من المشهد آنذاك:

لقد جاهدت الكنيسة بفضل علماء أفذاذ عصاميين شقوا طريقهم وحدهم وقدموا الكثير. فعندما أراد الأستاذ أن يقدم كتابًا دراسيًا في اختار محاضرات الأب أوجين دي بليس الفرنسي الكاثوليكي فصارت مادة تُدرَّس في الكلية الإكليريكية.. وعندما وضع كتابه المشهور عن السبعة كان أهم مرجع استند إليه الأستاذ حبيب جرجس هو كتاب “الأنوار في الأسرار” للمطران جراسموس مسرة مَطْرَان اللاذقية للروم الأرثوذكس. وفى عرضه لموضوع الكهنوت سجل أستاذنا حبيب جرجس أنه قد اعتمد على مقالة نشرتها الكنيسة الإنجليكانية، وأنه ضم أغلب ما فيها إلى الفصل الخاص بالكهنوت.

وتولت التي أسسها نفر من أراخنة الكنيسة [العلمانيين] مهمة طبع ونشر وتوزيع هذه الكتب، عبر مكتبتها “” التي تولى إدارتها الأستاذ ، التي صارت أهم المكتبات المسيحية في نشر الكتب الروحية والكنسية الطقسية، في مرحلة شهدت مدًا مؤثرًا للجمعيات الدينية المسيحية في دوائر التعليم وبناء المدارس والمستشفيات والكنائس أيضًا.

وقبل أن ينتصف القرن وقد شب جيل شباب الأربعينيات عن الطوق تصدر اللجنة العليا ل مجلة شهرية “مجلة مدارس الأحد”، أبريل 1947، لتكون صوتها وتحمل رؤيتها، وتكشف عن توجهها الذي أكدته افتتاحية العدد الأول لها:

بيد قوية، هي يد الله العلى القدير، تصدر مجلة مدارس الأحد، وما قصدنا من إصدارها زيادة عدد ما يصدر من مجلات.. لكننا رغبنا في أن نبعث بعثاً جديداً في المجتمع القبطي.. لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدى لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع، ليجد فيها هؤلاء جميعاً غذاءهم الروحي والاجتماعي والأدبي والعلمي.

(افتتاحية العدد الأول لمجلة مدارس الأحد، أبريل 1947)

وفي افتتاحية العدد الأول من عامها الرابع (يناير1950) يؤكدون من جديد توجههم ويضيفون:

هذه المجلة تريد أن ترفع الصوت عالياً، وتنبه كل مسئول، وكل فرد، وإنها تريد أن تخلق الرأي العام في الكنيسة، وأن توجهه، حتى يضطر كل واحد ممن يقود كنيستنا أن يتوارى، ولا يظهر أمام الناس حين يعمل ما يخالف رسالة الكنيسة، أو حين يحاول أن يشغلنا بالأمور التافهة.

(مجلة مدارس الأحد، يناير 1950)

على الضفة الأخرى من النهر كانت تتشكل مجموعة موازية من نفس الجيل، ربما متفقة مع الأولى في الهدف لكنها تختلف عنها في الطريق، والأدوات، لعلها أدركت أن “وصل ما انقطع” هو نقطة الانطلاق، حتى يتحقق الوصل، يتحتم أن تكون اليونانية حاضرة، والمخطوطات، في عمل أكاديمي مؤسسي وتبلورت في اتجاهين أو بشكل أدق في مجموعة انتهى بها الأمر إلى مجموعتين، أحداهما عَلمانية مدنية، والثانية عَلمانية رهبانية.

ومع الأولى ولدت حركة التكريس النظامية، عبر خطوات مدققة وجادة سبق وتتبعناها في كتابنا “الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد” [2019]، كانت في شقها العلماني يقودها الدكتور ومعها تأسس بحلوان، فيما كانت في شقها الديري يقودها القمص ، الذي استقر في نهاية المطاف في ببرية شيهيت، وجمع بينهما دأبهم على استحضار تراث آباء قبل الانشقاق وبعده، في أصوله اليونانية وتحقيقه وتعريبه، وإتاحته للدارسين والباحثين والشباب. وعبر كلاهما تم تكوين مجموعات من الشباب وابتعاثه إلى اليونان للدراسة والتخصص في التراث الفكري واللاهوتي للآباء، بالتكامل مع استحضار مدرسين ليونانية الآباء، لرهبان الدير. في تجرِبة ثرية ما زالت تنتظر من يقترب منها بحثًا ودراسة وتقييمًا.

اللافت أن الواقفين على ضفتي النهر لم يبادرا إلى مد جسور التواصل بينهما، ولم يلتفتا إلى الجفاف الذي لحق بالنهر بفعل عوامل الانقطاع المعرفي التاريخي الذي كاد أن يحول دون استمرار تدفق المياه المغذية والمجددة له، وصارت الكنيسة كيانًا يعيش على الكفاف بما تبقى لها من زخم أبقاها بالكاد على قيد الحياة. وكان -ومازال- التربص يحكم مواقف كثيرة بينهما، واقتحم مصطلح “هرطقة”، المعادل القبطي لـ”التكفير”، قذائف الحوار عن بعد بينهما. وانتشر في المجال الكنسي الحيوي وطال قامات لها ثقلها اللاهوتي والروحي، وفيما تتصارع الأفيال يستمر نزيف تحطم العشب تحت أرجلهم الثقيلة.

كانت آليات الصراع السياسي حاضرة، وبقوة، في إدارة المواجهة بين الفرقاء، التي لفتت انتباه الصِّحافة العامة، وإن كنت أظن أنها استدعيت من أحد أطراف المواجهة، فراحت تحوم حول تخوم الكنيسة وتتسقط أخبارها، وفي أحيان كثيرة تصنعها وتوجهها، ربما بإيحاء من داخل المطبخ الكنسي، كانت المكاسب الذاتية القريبة مغرية لمزيد من الصخب.

صار للأقباط ملفًا أساسيًا في صالة تحرير الصحف، ينافس نظيره في الأجهزة الأمنية، وأجهزة المعلومات، وحين داهمنا العالم الافتراضي الصاخب قفزت عليه اللجان الإلكترونية المصنوعة في أروقة مراكز القوى القريبة من مراكز اتخاذ القرار الكنسية ومحل ثقتها، لتصب مزيدًا من الزيت على النار. بعقل بارد وقلب فقد بوصلته الضميرية.

جرى بنا الزمن في حركته الرتيبة ويرحل جل جيل الأربعينيات، وقد خلف أجيالًا تفتقر لحنكته ولكثير من قدرته على إدارة الصراع، واستبقت لنفسها اللدد في الخصومة مع الفقر الفكري وغياب الرؤية. مع تطور الأدوات والإمكانات التقنية، ليتحولوا إلى سلطة غاشمة تتورط في إغراق السفينة بغير وعي.

استأذن القارئ في التذكير بما كتبته متعلقًا بهذه الإشكالية في كتاب “الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟” السابق الإشارة إليه:

-جزء من الأزمة المعاشة يعود إلى التواجه بين مدرستين إحداهما اعتمدت في منطلقاتها على المراجع المترجمة عن اللغات الحديثة، والأخرى تبني رؤيتها على الكتب اليونانية، ويقف بينهما ما تعرفه علوم التَّرْجَمَةً من اختلافات دقيقة ومؤثرة، تحكمها بنية اللغة وأدواتها ومصطلحاتها ومعانيها، وقدرتها على النطق بالمصطلحات اللاهوتية، وزاد من تعميق المواجهة دخول جناح ثالث اعتمد في رؤيته على متشابهات تحملها مراجع غير أرثوذكسية.

ـ وجزء منها يعود إلى طبيعة المناخ الذهني العربي الشعبوي السائد، وقد تسلل إلينا بحكم الثقافة واللغة والاحتكاك المعيشي، الذي يستثقل التعددية والتنوع، ويميل إلى “واحدية” الرأي، ويبني تصوره أو قناعاته على كثير من الانطباع وقليل من الدراسة والبحث، وتغيب عنه في الغالب القواعد الموضوعية الحاكمة.

ـ وجزء ثالث منها هو الخلط بين العقيدة والرأي والتفسير، ولعله الأخطر، خاصة في منظومة تقليدية هيراركية، تعاني موروث ثقيل مازال عالقاً بأجوائنا، في علاقة أصحاب الرأي بأصحاب القرار، وما زلنا نعيد إنتاج تجاربنا السلبية في هذا الأمر، على غرار ما حدث بين الباحث الموسوعي العلامة ، والبابا القديس . وما حدث مع البطريرك العالم يوحنا من البطريرك البابا ثيئوفيلس، الذي حرمه وأوصى بنفيه، وقد نكون بحاجة والأمر كذلك إلى استكمال المشهد باستنساخ ما قام به البطريرك اللاحق له القديس ، الذي رد لذهبي الفم اعتباره، بعد وفاته في منفاه، بل واعتمدته ضمن قائمة قديسيها ومعلميها الثقاة.

(، الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد)

وبعد،
أدعو الكنيسة؛ والمفكرين والبقية الباقية من المهمومين بتصحيح المسار إلى ترتيب دعوة للمصالحة بين الفرقاء مؤسسة على أرضية الحوار الموضوعي المبني على ما لدينا من تعاليم الكنيسة الأولى الذي توفرت على ترجمته وتعريبه مؤسسات ثقافية قبطية بتدقيق علمي.

فهل من استجابة؟!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 [١٢] إعادة تركيب قطع البازل[الجزء التالي] 🠼 [١٤] نقطة في آخر السطر
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨