- مشاهدات إكليروسية [١]
- مشاهدات إكليروسية [٢]
- مشاهدات إكليروسية [٣]
- مشاهدات إكليروسية [٤]
- مشاهدات إكليروسية [٥]
- [٦] الطريق إلى الزعامة
- [٧] إعادة تشكيل المنظومة
- [۸] شظايا السياسة وصراعاتها
- [۹] زحف الرهبنة
- ☑ [١٠] اختلالات الأديرة
- [١١] من أنت أبي الأسقف؟
- [١٢] إعادة تركيب قطع البازل
- [١٣] تحالفات ومصادمات
- [١٤] نقطة في آخر السطر
إعادة هيكلة الذهنية القبطية الدينية -عبر الستة عقود الأخيرة- لم تكن عشوائية، وقد اجتمعت عدة عوامل في الفضاء العام هيأت مناخًا مواتيًا لإعادة الهيكلة باتجاه رؤية قيادة الكنيسة في تلك الحِقْبَة، لعل أبرزها التغير الدراماتيكي عقب حدثي ثورة يوليو 1952، ورحيل جمال عبد الناصر وتولي أنور السادات مسئولية الحكم، واللتان شهدتا بدرجات متفاوتة حَراك الجماعات الإسلامية الراديكالية، الخفى والمعلن، بدعم من الدولة، ومن قوى إقليمية سعيًا لإعادة إحياء وتحقيق حلم الخلافة، وكانت هذه الجماعات ترى في الأقباط عائقًا أمام اكتمال الحلم، فاستهدفتهم بأعمال إرهابية، سواء في مرحلة وفاقها أو مرحلة اختلافها معه، ورغم مغازلة الرئيس مبارك لهم، إلا أنها استمرت بامتداد سنوات حكمه الثلاثين في ترويع الأقباط واستهدافهم.
كان من الطبيعي مع تغول العنف الطائفي وتصاعده أن يبحث الأقباط عن ملاذ آمن، وجدوه داخل أسوار الكنيسة، التي لم تكن تملك إلا أن تشرع أبوابها لأبنائها، لكن الأمر لم يكن بهذا التبسيط والنموذجية، فأصحاب الأدوار الرئيسية كانت لهم رؤيتهم التي اختلط فيها الخاص بالعام، سواء في الدولة أو الكنيسة، وقد انعكس هذا على تصاعد الأحداث في تلك الحِقْبَة، وبغير ترتيب جاء لجوء الأقباط للكنيسة مرضيًا لأطراف عدّة.
صنع الأقباط لهم داخل الكنيسة مجتمعًا بديلًا، لكنهم لم ينفصلوا عن وطنهم ولم يتحولوا إلى “جيتو” منعزل، ورفضوا كل دعوات الانفصال أو الهجرة، ولم يستسيغوا تجرِبة المحاصصة أو الكوتة الباهتة في تمثيلهم داخل البرلمان، وقد قفز عليها الانتهازيون فكان مآلها الفشل.
غير بعيد، كانت الحركة الرهبانية تشهد ازدهارًا ونموًا، بعضه انبهارًا بمجازفة الرعيل الأول، وبعضه اقتناعًا بأنهم يضعون أقدامهم في طريق الملكوت، باعتبار الرهبان وفقًا للقديس يوحنا كاسيان (360 ـ 435 م): ملائكة أرضيين وبشر سمائيين
في مقابل هؤلاء هناك من قصد الرهبنة هربًا من البطالة، أو باعتبارها الطريق الوحيد للدرجات الإكليروسية العليا، وبعضهم رتب لذلك مع قيادات كهنوتية نافذة أو بدفع منها، وبعضهم جاءها هربا من خبرات إنسانية فاشلة، ولا أحد يستطيع أن يجزم بأن الأخيرين كانوا بعيدين عن الاختيار للمواقع الأسقفية، ومن لم يقع عليهم الاختيار بقوا داخل أسوار الأديرة يعانون المتاعب النفسية وأربكوا الأديرة بصور شتى، خاصة مع اختلال مفهوم التلمذة والتسليم، وربما غيابهما.
الواقع يقول إن الأديرة في أغلبها، صارت مؤسسات منتجة لم ينتبه القائمون عليها إلى ضرورة ضبط هذا الازدهار والنمو بحزمة من الضوابط حتى لا تفقد هويتها ونذورها الأساسية. خاصة مع طوفان قاصدي الأديرة للتبرك أو طلبًا لخلوة استجمامية، واستباحة خصوصية الرهبان، وتنامى ظاهرة “الاعتراف على آباء كهنة رهبان” وما أفرزته من نتائج سلبية للكافة، الكنيسة والدير وطرفي الاعتراف.
مع انتظام خطوط السياحة الديرية وكثافتها، تشهد مداخل الأديرة خليط من منافذ توزيع منتجات الدير وأيضًا ما يحتاجه الزوار من منتجات يعرضها الدير لحساب منتجيها من خارجه، من هدايا تذكارية دينية، صور قديسين وتماثيل وتحف فنية برعت الصين في إنتاجها، واختفت الكتب الروحية واللاهوتية أو كادت، لتكتظ المكتبات هناك بكتب معجزات وسير قديسين كثيرها غير محقق، لكنها تلقى إقبالًا لا ينقطع، ومعها يستنزف العقل القبطي، وتستغرقه الحكاوي ولا أقول الخرافة.
وتتسلل إلى البيوت أفكار شبه رهبانية، حتى إلى شباب الكهنة والخدام، وكنا قد أشرنا قبلًا إلى عدة ملاحظات لما تسلل إلى شباب الكهنة، سواء في الشكل أو المضمون، إطلاق اللحى دون تهذيب، إشارة بعضهم إلى بتوليته هو وزوجته، وما تحمله من تعظيمها على الزواج، بالرغم من إيضاحات القديس بولس الرسول القاطعة بعدم أفضلية أحدهما على الأخرى ـ ولا يقلل هذا من توقيرنا لأصحاب هذه الخبرة الحياتية الخاصة بهم ـ ويقع الشباب في شيزوفرينا حادة بين احتياجاتهم وما يتسلل إليهم من أفكار لا محل لها خارج الحياة الديرية، وقد ينتهى بهم الأمر إلى التمزق أو النكوص أو الغيبوبة الروحية، ويهتز عند كثيرين مفهوم الزواج والعائلة والحياة الاجتماعية بجملتها، والشاهد على ذلك تفشى ظاهرة الطلاق والمشاكل الزوجية العنيفة وغير قليل منها بين خدام وخادمات، وبعضهم قضى أسبوعه الأول في الدير؛ الزوج في أديرة الرهبان والزوجة في أديرة الراهبات!! الأمر جد يُنذِرُ بالخطر.
وتسلل إلى المجتمع الكنسي، رعية وخدام وكهنة، ظاهرة “الميطانيات”، ويقصد بها:
[١] الميطانية: هى التوبة، وبحسب معناها الحرفى فى اليونانية هى “تغيير الفكر”، أى “تجديد الذهن” حسب قول الرسول بولس:
تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ(رسالة بولس إلى أهل رومية 12: 2)أما في اللاتينية فالكلمة المقابلة هي penitentia، وهى تفيد معنيين:
– المعنى الأول penance أي عقوبة توقع على الخاطئ نتيجة لخطيته حتى تقبل توبته.
– والمعنى الثاني penitence أي ندم وتأسف على الخطية كعمل ضد محبة الله، وتبدأ التوبة بالاعتراف أمام الله بالخطية في مخدع الصلاة، وتكتمل بالاعتراف بالخطية شفاهاً على أب كاهن مختبر في الكنيسة. والتوبة فى الكنيسة -وفي اختصار- هي حياة مستمرة ترتبط حتماً بالمعمودية، وتصب في الإفخارستيا، وتنمو بكلمة الإنجيل. أي إن أساس كل توبة هو المعمودية، وغايتها هي الإفخارستيا، وديمومتها تكون بقراءة منتظمة للإنجيل المقدس.[٢] الميطانية: هي السجود الكامل إلى الأرض حتى تلامس الجبهة التراب، وهي علامة تسليم الحياة كلها لله.
(الأب أثناسيوس المقاري، كتاب: معجم المصطلحات الكنسية)
الميطانية بالأساس ممارسة رهبانية تعبر عن روح الخضوع بعضهم لبعض، لكنها عندما تسللت إلى المجتمع القبطي خارج أسوار الأديرة صارت تستخدم كعلامة إكرام وخشوع تقدم لبيت الله، والمذبح المقدس والأيقونة المدشنة، ثم أضيف إليها في الزمن الذي نتناوله تقدم للأسقف!
واستأذنكم في إيراد واقعتين عشتهما، الأولى: كنت في المرحلة الثانوية، وكانت مدرستي ملاصقة لمقر إقامة البابا كيرلس السادس، وكان بابه مفتوحًا لاستقبال من يقصده من العامة، ذهبت إلى صالونه الذي يقع في الدور الأول على يسار باب المقر، وجدت أمامه طابور من صفين واحد للرجال والشباب والآخر للسيدات والفتيات، وحين وقفت أمامه وجدت من سبقني يسجد أمام البابا، فسجدت مثله، فإذا بالبابا يسألني: بتعمل إيه؟
، أجبته في تلقائية: وجدت الرجل الذي سبقني يفعل هذا فظننت أنه من تقاليد مقابلة قداستكم
، فقال بحزم: يعني بتقلد زي القرد؟ قم ولا تفعل هذا مرة أخرى!
أما الواقعة الثانية فقد حدثت في الإسكندرية، فيما أتذكر، في مؤتمر للشباب والخدام، عقده البابا شنودة لمواجهة بعض الأفكار التي تهاجم بعض ممارسات الكنيسة الطقسية وأتذكر أنها كانت تفند الصلاة بالأجبيّة، وفى إحدى جلسات المؤتمر جاء سؤال عن الميطانية، وتوقيتاتها، فأحال البابا السؤال إلى الأنبا يوأنس، أسقف الغربية وقتها، الذي عرفها بما لا يختلف عن التعريف السابق ذكره، وأضاف أنها تمارس طوال العام، باستثناء وقت ما بعد التناول، وكذلك لا تمارس في أيام الخمسين المقدسة، فالحدثين هما حالات فرح. فيما الميطانية تحمل مشاعر حزن وندم وانكسار، فعقب البابا بأن الميطانية للأسقف تقدم في كل الأحوال ولا يستثنى فيها أية أوقات، لأنها تعبر عن الاحترام وليس العبادة!
تسلل بعض الممارسات الرهبانية إلى المجتمع القبطي، خارج الأديرة، أسهم فيما نراه من ازدواجية وانفصام انعكست سلبًا على حياتنا اليومية.
ومازال شريط مشاهدات إكليروسية يحمل الكثير منها.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨